رضوى رمضان الشريف
بعد تسع سنوات من وجودها العسكري في البلاد، أعلنت فرنسا وشركاؤها الأوروبيون وكندا، انسحابهم العسكري من مالي وإنهاء العمليتين العسكريتين لمكافحة الجهاديين “برخان” و”تاكوبا”، حيث أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون رسميا يوم الخميس الماضي الموافق 17 فبراير عن الانسحاب العسكري لباريس وشركائها الأوروبيين من مالي، ومن المقرر أن تبدأ عملية سحب القوات التي كانت مشاركة في “عملية برخان” خلال الأشهر الأربعة إلى الستة المقبلة.
وكانت فرنسا قد أرسلت 5000 جندي إلى مالي، في عام 2013، بناء على طلب من الحكومة المالية التيكانت تواجه تمردا مسلحا، إلا أنه على مدى السنوات التسعة الماضية، أصبح الوجود الفرنسي غير مرغوب به بشكل متزايد لدى حكومة مالي وشعبها، خاصة الفترة الأخيرة التي شهدت جملة من التطورات المتسارعة المتعلقة بالحضور الفرنسي والأوروبي في مالي، وهو ما يمكن توضيح أسبابه على النحو التالي:
توترات متصاعدة بين مالي وفرنسا
تصاعدت التوترات بشكل ملحوظ بين فرنسا ومالي، منذ وصول العقيد، عاصمي جويتا، للسلطة في أعقاب الانقلاب العسكري الأخير في باماكو، في مايو 2021، وتفاقمت هذه التوترات إثر تعاقد باماكو مع عناصر من مرتزقة فاجنر الروسية لدعم جهود الحكومة المالية في حفظ الأمن ومكافحة الجماعات الإرهابية أواخر العام الماضي، فضلاً عن مطالبتها باريس بمراجعة الاتفاقيات الدفاعية الثنائية بينهما، وقيامها بطرد السفير الفرنسي لديها في يناير 2022، على خلفية تصريحات لودريان، التي أعلن فيها أن المجلس العسكري الحاكم في مالي لا يتمتع بالشرعية.
الوجود الفرنسي أصبح غير مرغوب فيه
رغم الترحيب الذي لقته القوات الفرنسية عند وصولها إلى مالي قبل تسعة أعوام، إلا أن العلاقات توترت منذ ذلك الحين، فبجانب التوترات السياسية، تصاعد الرفض الداخلي من قبل شعوب دول الساحل للحضور الفرنسي، والذي عكسته التظاهرات المتكررة المناهضة لباريس، فضلاً عن تكرار محاولات المواطنين المحليين لقطع الطريق على القوافل العسكرية الفرنسية.
جاء الرفض الداخلي للوجود الفرنسي بسبب ازدياد عدد الهجمات الإرهابية في البلاد بشكل مطرد، وكذلك عدد الماليين المنضمين إلى الجماعات المتمردة. وفي السنوات الماضية، انتشر تهديد المتطرفين أيضا إلى دول أخرى مثل بوركينا فاسو والنيجر، حيث شن المتمردون غارات في المنطقة من قواعدهم في الصحراء الكبرى.
يشعر العديد من السكان المحليين أنه كان ينبغي على فرنسا، كقوة عسكرية متقدمة، أن تكون قادرة على حل مشكلة الإرهاب، وأن عليها المغادرة إذا لم تستطع فعل ذلك. وقد وصف البعض وجود قوات من القوة الاستعمارية السابقة بأنه “احتلال”، كما يذكر أنه منذ مقتل 55 جنديا فرنسيا في عملية برخان، لم تعد فرنسا تحظى بشعبية في مالي.
ردود أفعال إقليمية ودولية
إقليمياً، تشعر حكومات الدول المجاورة بالقلق من أن انسحاب فرنسا من مالي قد يزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة. فقد حذّر رئيس ساحل العاج، الحسن واتارا، من أن ذلك سيخلق فراغا سياسيا، وقال “سنضطر إلى زيادة قواتنا الدفاعية وزيادة حماية حدودنا”.
كما حثت رئيسة غانا، نانا أكوفو أدو، الأمم المتحدة على إبقاء قوة حفظ السلام التابعة لها في مالي على الرغم من رحيل فرنسا.
أما دوليا، أعلن بيان مشترك صدر قبيل قمة للاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، أن فرنسا وشركاءها في الاتحاد الأوروبي، وكندا، سوف ينهون عملياتهم لمكافحة الإرهاب في مالي بحلول يونيو. وأعربت ألمانيا عن شكوكها حيال تمديد مهمة الجنود الألمان في مالي، بعد الإعلان عن الانسحاب الفرنسي. وقالت وزيرة الدفاع الألمانية، كريستين لامبريخت، في بروكسل “أخذنا علماً بقرار فرنسا الانسحاب من مالي، وإنهاء التزامها هناك، والذي سيترك بالطبع تداعيات على الشركاء”.
وأعلن الناطق باسم بعثة الأمم المتحدة في مالي، اوليفيه سالغادو، أن انسحاب القوات الفرنسية من البلاد، سيترك “أثراً” على البعثة التي ستقوم بما هو ضروري “لكي تتكيف” مع ذلك.
تداعيات إقليمية
بالرغم من إعلان باريس مواصلة وجودها في منطقة الساحل الأفريقي للمشاركة في عملية مكافحة الإرهاب هناك، مع العمل على توسيع دعمها لدول المنطقة، بما يتضمن الدول المجاورة لخليج غينيا، وهو ما أكدته تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، والذي أكد على أن باريس لا ترغب في الانسحاب من المنطقة، لكنها ستعمل على إعادة هيكلة قواتها في المنطقة، إلا أن الانسحاب سيترك وراء عدة تداعيات إقليمية.
انعكاسات أمنية
يشير الانسحاب الفرنسي من مالي إلى بأن قوة “تاكوبا” الأوروبية ستغادر أيضاً مالي، خاصة بعد التصاعد الملحوظ في النفوذ الروسي داخل مالي، إلا أنه يوجد تحركات فرنسية مكثفة لإقناع حلفائها الأوروبيين للاستمرار في الساحل الأفريقي لدعم دول غرب أفريقيا، خاصة دول خليج غينيا، في ظل القلق المتنامي من احتمالات انتشار المجموعات الإرهابية بفعل الحدود الهشة التي يسهل اختراقها، لاسيما في ساحل العاج وغانا وتوجو وبنين.
وتلقى الخطة الفرنسية معارضة من بعض الدول الأوروبية بالنظر إلى أن مالي تبقى البؤرة الأفضل للتمركز بالنسبة للقوات الأوروبية، باعتبار أنها تمثل مركزاً للجماعات الإرهابية، والتي تنتقل منها لكثير من دول المنطقة. ولعل هذا ما عكسته تصريحات وزيرة الدفاع الإسبانية، مارجريتا روبلز، والتي أكدت أن الوجود الأوروبي في مالي يبقي أمراً ضرورياً للحيلولة دون تكرار تجربة أفغانستان، وتجنب إفساح المجال أمام روسيا لتعزيز نفوذها هناك، إذ إن الانسحاب المفاجئ للقوات الفرنسية سيفرز فراغاً كبيراً يمكن أن تستغله الجماعات الإرهابية في تعزيز حضورها وتوسيع رقعة انتشارها، خاصةً حال قيام القوى الأوروبية بحسب قواتها هي الأخرى من مالي، بل أن هناك بعض التقديرات أشارت إلى أن باريس ربما تعمل على الإسراع في خطوة الانسحاب الكامل من باماكو لمحاولة خلق فراغ متعمد في مالي من أجل إثارة حالة من الاضطرابات الداخلية للضغط على السلطة الحاكمة هناك.
ومن المتوقع بأن يضيف الانسحاب الفرنسي العسكري من دولة مالي عبئا جديدا على ليبيا، لا سيما وأن الانسحاب سيتم قبل تأهيل الجيش المالي بما يكفي لمواجهة الجماعات الإرهابية، ومنعها من الانتشار إلى دول شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، فعلى الرغم من عدم وجود حدود مباشرة بين ليبيا ومالي، إلا أن الوجود العسكري الفرنسي في مالي كان يحد ولو قليلا من حركة هذه الجماعات والتنقل من بلد إلى بلد وصولا لليبيا.
وصدرت تحذيرات من بريطانيا والصين وروسيا من أن تنظيم داعش قد يتخذ من ليبيا نقطة انطلاق للانتشار، خاصة وأن جنوب ليبيا يعاني من هشاشة أمنية لاتساع مساحته، وطبيعته الصحراوية، وحظر التسليح المستمر على الجيش الليبي، وضعف السيطرة على الحدود المشتركة مع تشاد والسودان والنيجر.
ازدياد وتيرة التنافس الدولي
أمر آخر قد يزيد الأعباء على منطقة الساحل، وهو الصراع على النفوذ بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة من جانب، وروسيا من جانب آخر، وهو ما ظهر في تدهور العلاقات بين فرنسا ومالي، وكان احتمال استعانة الأخيرة بشركة “فاغنر” الروسية أحد أسبابه.
فقد يحل محل حرب مكافحة الإرهاب صراع سياسي دولي في منطقة الساحل، وذلك سيعطي فرصة أكبر لانتعاش الجماعات الإرهابية للتوغل والسيطرة؛ فالتغافل عن الجماعات الإرهابية وتحركاتها قد يساهم في مزيد من الفوضى وأن دول البحر المتوسط ليست بمأمن من هذا أيضا.
مستقبل الوجود الفرنسي في الساحل الإفريقي
تسعى باريس لإعادة هيكلة انتشارها في منطقة الساحل الأفريقي عقب سحب قواتها من مالي، ورجحت بعض التقديرات إلى أن النيجر ربما تمثل أحد أبرز البدائل المطروحة أمام باريس كبديل في المنطقة، خاصةً أن باريس تمتلك قاعدة في نيامي، وفي هذا السياق يبدو أن زيارة وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورنس بارلي، إلى نيامي الأسبوع الماضي جاءت لبحث هذا الأمر مع رئيس النيجر، محمد بازوم.
ولكن، في المقابل، تبقى هناك تحديات قائمة ربما تعيق فكرة الوجود الفرنسي في النيجر، لعل أبرزها تنامي مشاعر الرفض الشعبي إزاء الحضور الفرنسي في نيامي، خاصةً بعد مقتل ثلاثة مدنيين خلال محاولة من قبل بعض المحتجين عرقلة طريق أحد القوافل العسكرية الفرنسية.
ومن ناحية أخرى، أشارت بعض التقارير الغربية إلى أن هناك غموض قائم بشأن مصير القوات الفرنسية التي سيتم انسحابها من مالي، خاصةً أن حوالي نصف عدد القوات الفرنسية الموجودة في منطقة الساحل الأفريقي تتمركز داخل مالي، وبالتالي تحتاج باريس إلى إيجاد مكان آخر لإعادة تموضع قواتها المنسحبة من باماكو، مع ضمان الحفاظ على كفاءتها التشغيلية، وهو ما قد يجعل فكرة نقل هذه القوات الفرنسية كافة إلى النيجر أمراً غير ممكن.
وفي الختام، الخروج من مالي قد ينذر بعصر جديد من المخاطر لفرنسا وأوروبا في إفريقيا؛ فالسؤال المطروح بالنسبة لفرنسا هو ما إذا كان بإمكانها تحمل خسارة أسواقها التقليدية ومناطق نفوذها السياسي في الأجزاء الناطقة بالفرنسية من القارة، سواء في غرب إفريقيا أو المغرب العربي، حيث تواجه بالفعل منافسة شديدة من الصين وتركيا ولكن أيضًا من الولايات المتحدة.
كما يمثل انسحاب القوات الفرنسية من مالي “حليفتها التاريخية” خسارة نفوذ لباريس وأوروبا ككل في إفريقيا، مما يفتح الطريق أمام قوى أخرى لتوسيع وجودها هناك. ففي غرب إفريقيا، قد تكتشف الصين وروسيا وتركيا فرصًا جديدة مع تآكل ميزان القوى الذي شوهد في العقود الأخيرة بعد أن وجدت القوات الفرنسية نفسها غير مجهزة للتعامل مع قتال غير متكافئ مع المتطرفين الإسلاميين.
أما بالنسبة لمالي، فسيكون انسحاب القوات الفرنسية والأوروبية تكلفته باهظة أمنيا على مالي، وقد يهدد بعودة البلاد إلى مربع عام 2012، حين سقطت عدة مدن شمالية بأيدي الجماعات المسلحة، واستدعى ذلك تدخل فرنسا بطلب من باماكو، فالجيش المالي ضعيف وإمكاناته محدودة، ولا يستطيع مواجهة الجماعات المسلحة بوحده، وبالتالي فإن الانسحاب ستكون تداعياته الأمنية كبيرة جدا على البلاد ومن ثم على باقي دول الساحل الإفريقي.