يعودُ الرئيسُ الأمريكيُّ السابقُ دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في فترةٍ رئاسيةٍ ثانيةٍ غير متتاليةٍ، في 20 يناير 2025؛ ما يُعيدُ طرْح العديد من التساؤُلات، حول مستقبل السياسة الأمريكية في السَّاحة الدولية، وبشكلٍ خاصٍّ، فيما يتعلق بحلف شمال الأطلسي (الناتو)؛ لذا فإن فوْز ترامب في الانتخابات الأمريكية على منافسته الديمقراطية كامالا هاريس، التي كانت تتمتع بعلاقة وثيقة مع حلفاء الناتو وتبنِّي إستراتيجيات تنسجم مع رُؤْية الرئيس الحالي جو بايدن، يحمل في طيَّاتِه تحوُّلاتٍ قد تؤثر بشكلٍ جذريٍّ على الثوابت التي تحكم العلاقات داخل الحِلْف.
تفتح عودة ترامب للسلطة الباب أمام احتمالات تغييرٍ جذريٍّ في سياسات الولايات المتحدة تِجَاه الناتو، في وقتٍ يشهدُ الحلف تحديات كُبْرَى، أبرزها الحرب المستمرة في أوكرانيا، وفي هذا السياق، هنَّأ الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، ترامب بفوزه في الانتخابات، مُعْرِبًا عن تطلُّعه للعمل معه مُجدَّدًا لتعزيز الأمن والسلام من خلال الحلف، وقد كان لحلف الناتو دورٌ محوريٌّ في دعْم أوكرانيا في مواجهة العدوان الرُّوسي؛ حيث لعبت الولايات المتحدة، تحت قيادة بايدن، دورًا رياديًّا في تقديم مساعدات عسكرية كبيرة إلى أوكرانيا.
ومع تصاعُد التكهُّنات حول موقف ترامب من الحلف، تبرز تساؤلات مهمة، بشأن سياسة الولايات المتحدة تحت قيادته، خاصَّةً في ضوْء تصريحاته السابقة التي أبْدى فيها انتقاده لالتزامات الحلفاء المالية في الناتو؛ فقد أكَّد ترامب في أكثر من مناسبة، أنه لن يدافع عن دول الحلف أمام التهديدات الرُّوسية إذا لم تلتزم هذه الدول بتسديد حصصها المالية، وفي المقابل، هناك تصريحات أُخرى، مثل تلك التي أدْلى بها وزير الدفاع البريطاني جون هيلي، تؤكد على أهمية بقاء الولايات المتحدة في الحلف؛ نظرًا لدوره الحيوي في استقرار أوروبا.
إذن، تبقى الأسئلة قائمةً حول مستقبل العلاقات الأمريكية مع الناتو، في ظل عودة ترامب إلى السلطة، والتحديات التي ستواجه الحلف في المرحلة القادمة، سواء على الصعيد الداخلي أو في مواجهة التهديدات الخارجية.
أولًا: تقييم علاقة الناتو مع إدارة بايدن (2021 إلى 2025)
شهدت فترة الرئيس الأمريكي الحالي، جو بايدن، ترابطًا وتماسُكًا قويًّا بين أعضاء الناتو، وعمَّقت الارتباط الجيوسياسي بينهم، وكان بايدن من مؤيدي استمرار الولايات المتحدة في الحلف ودعمه له وتعميق وترسيخ الروابط بين أعضائه، كما عمَّق فكرة العمل الجماعي المؤسسي، المتمثل في حلف الناتو، وقد أكَّد على ذلك في مناسبة ذكرى تأسيس الحلف، وقال: إن ” واشنطن ستحافظ على التزامها المقدس حِيالَ حلف شمال الأطلسي؛ لأن الدفاع عن كل شبرٍ من أراضي الناتو يمنحنا نحن أيضًا الأمان”، ويعكس هذا التصريح مدى التماسُك الذي كان بين الإدارة الديمقراطية وبين الحلف.
ويمكن تقييم علاقة الناتو مع إدارة بايدن في النقاط الآتية:
تعزيز وتعميق روابط حلف الناتو:
لقد كانت ولاية الرئيس الحالي للولايات المتحدة، جو بايدن، نهايةً لفترةٍ ساد فيها التوتُّر بين واشنطن وأعضاء حلف الناتو في فترة الرئيس السابق دونالد ترامب، وقد أشار الأمين العام السابق لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ في مناسبة ذكرى تأسيس حلف الناتو، أن ” الولايات المتحدة وأوروبا أقوى معًا في إطار الناتو؛ لأن أوروبا لا يمكن أن تُدَار بدون حلف الناتو” [1]،
وقد تمَّ وضْع عِدَّة تعقيدات سابقة في عملية الانسحاب من الحلف؛ تحسُّبًا لانتصار ترامب لإعاقة خُطَّته على الانسحاب إذا أقدم على ذلك؛ حيث مرَّر مجلس الشيوخ مشروع تعديل قانون (كين-روبيو) في ١٩ يوليو ٢٠٢٣، وينُصُّ هذا التعديل على منْع رئيس الولايات المتحدة من اتخاذ قرارٍ أُحادي الجانب، بالانسحاب من حلف الناتو حتى تتمَّ الموافقة عليه بأغلبية الثلثيْن في مجلسيْ النواب والشيوخ[2]، كما أصدر الكونجرس في ٢٣ ديسمبر ، من العام نفسه قانونًا ينُصُّ على عدم السماح لأيِّ رئيسٍ أن يُعلِّقَ عضوية الولايات المتحدة في الحلف أو إنهاءها أو الانسحاب منها أو التنديد بها، دون موافقة ثُلثيْ مجلس الشيوخ أو قانون صادر عن الكونجرس، كما يتعين على رئيس الولايات المتحدة أن يُخْطِرَ الكونجرس قبْل الشروع في الانسحاب بـ ١٨٠ يوم.[3]
والجدير بالذكر، أنه وفي وسط الحرب الجارية في أوكرانيا، دعمت واشنطن انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، بعدما تخلَّيَا عن سياسة الحياد؛ تجنُّبًا لأيِّ صدامٍ مع روسيا، وقد انضمت فنلندا في عام ٢٠٢٣ وتلتها السويد في عام ٢٠٢٤؛ ليصبح عدد الدول الأعضاء في الناتو ٣٢ عضوية؛ لذلك يمكن تقييم هذه الفترة على أنها عمَّقت جذور التعاون والتفاهم بين دول الحلف، وأعادت إليه التماسُك والحيوية، وكان خيرَ دليل على ذلك انضمامُ دولٍ جُدُد للحلف في وسط الحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا.
دعم أوكرانيا منذ بداية الحرب:
لقد كانت الحرب “الرُّوسية – الأوكرانية” التي بدأت في ٢٤ فبراير٢٠٢٢، اختبارًا مهمًا لصلابة وقوة الحلف مؤسسيًّا؛ حيث صفَّت دول الحلف جنبًا إلى جنبٍ، واستشعروا جميعًا وحْدة المخاطر التي تهدد أمنهم بعد العملية العسكرية الرُّوسية على الأراضي الأوكرانية، وفي إطار ذلك، قد قدَّم الحلف برئاسة الولايات المتحدة شتَّى أنواع الدعم العسكري والمادي والدبلوماسي واللوجستي لأوكرانيا، كما كانت واشنطن أكثر الدول تقديمًا للمساعدات العسكرية لكييف؛ بما يقارب من ١١٠ مليار دولار منذ بداية الحرب.[4]
وقد كانت هذه المساعدات وسط حرصٍ شديدٍ على عدم التدخُّل المباشر في الحرب؛ استنادًا على المادة الخامسة في الاتفاق المنشئ للحلف، التي تنُصُّ على كوْنه تحالفًا دفاعيًّا، فمهام الحلف هي التصدِّي لأيِّ عدوانٍ يقع على أراضي أيٍّ من الدول الأعضاء، ولا ينخرط في أيِّ ضربةٍ استباقيةٍ أو هجومٍ وقائيٍّ، حتى وإن نادت بعض الأصوات بالتدخُّل المباشر في الحرب.[5]
كما اجتمع وزراء خارجية الدول الأعضاء في بروكسل في أبريل ٢٠٢٤، وطرحوا فكرة إنشاء صندوق مساعدات لأوكرانيا، بقيمة تبلغ ١٠٠ مليار يورو على مدى خمْس سنوات؛ لضمان دعم أوكرانيا على المدى الطويل،[6]بالإضافة إلى القيام بعمليات تدريبية مشتركة واستعراض قوات ضم حوالي ٩٠ ألف جنديٍّ من قوات الناتو، في رسالة مفادها؛ أن الحلف يستعدُّ لأيِّ احتمالية صدامٍ مع موسكو.[7]
ثانيًا: نظرة ترامب لحلف الناتو
تتداخل علاقة دونالد ترامب بحلف الناتو عبْر فترتيْن رئاسيتيْن: الأولى خلال ولايته الأولى التي بدأت في عام 2017، والأخرى التي ستبدأ في 20 يناير 2025، وفي هذا السياق، يجب الإِشارة – أولًا – إلى علاقة ترامب بالناتو خلال ولايته السابقة، ومن ثمَّ عرْض موقفه المحتمل من الحلف في ولايته الجديدة التي ستنطلق مع بداية العام القادم.
علاقات متوترة بين ترامب والناتو (2017 إلى 2020):
تولَّى دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة في يناير 2017، وكانت علاقته بحلف الناتو محطَّ أنظار العالم منذ البداية، في أُولى سنوات ولايته، أظهر ترامب مواقف مثيرة للجدل تِجَاه الحلف؛ حيث انتقد بشِدَّة التزامات الدول الأعضاء في الناتو، وخصوصًا فيما يتعلق بالمساهمات المالية.
يرى ترامب أن حلف الناتو “عفا عليه الزمن”، كما كان يشكك في فعالية بعض جوانب الحلف العسكري والدبلوماسي؛ ففي أكثر من مناسبة، وصف الحلف بأنه بحاجة إلى “إصلاح” وأنه يجب أن يتكيف مع التحديات الجديدة في العالم، بما في ذلك التصدِّي للتهديدات الصينية.
كان ترامب قد أعلن عدة مرات، أنه سيُعيد النظر في مشاركة الولايات المتحدة في الناتو، بل وهدَّد بالانسحاب منه إذا لم تلتزم الدول الأعضاء بتحمُّل المزيد من الأعباء المالية، وفي قمة حلف الناتو في يوليو 2018، تصاعدت حِدَّة الخطاب الأمريكي؛ حيث طلب ترامب من الحلفاء الأوروبيِّين، زيادة إنفاقهم الدفاعي، مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة تتحمل العِبْء الأكبر من ميزانية الحلف؛ الأمر الذي يُشكِّلُ عِبْئًا على دافعي الضرائب الأمريكيِّين، وقال ترامب في خطابٍ شديد اللهجة: “إذا لم تدفعوا حصصكم، فإننا قد ننسحب من الناتو“.
بجانب تهديدات الانسحاب، كان ترامب دائمًا يطالب صراحةً من الدول الأوروبية، بزيادة مشاركتهم بموازنة الحلف وإلا ستنسحب الولايات المتحدة منه، وقد كانت لهْجة ترامب في توجيه الخطاب لدول الناتو حادَّة ومباشرةً، وقال: ” إن واشنطن تتحمل العِبْء المالي والفني للحلف بمفردها”،” وأن على دول الحلف أن تدفع حصصهم”، وقد اتفق دول الحلف في ذلك الوقت على إنفاق ٢٪ من الناتج المحلي الإجمالي لكل عضو على ميزانية الدفاع للحلف، وعلى الرغم من ذلك لم تلتزم بهذا القرار جميع الدول الأعضاء.[8]
في المقابل، أظهر ترامب في بعض الأحيان دعمًا للجانب الدفاعي المشترك للناتو، خاصَّةً عندما كان يتعلق الأمر بالتعاون في مواجهة التهديدات الروسية، وكان ترامب قد أبْدى موافقته على تعزيز القوات الأمريكية في أوروبا الشرقية، وذلك في إطار إستراتيجية ردْع روسيا، ولكن هذا الدعم كان دائمًا مشروطًا بزيادة المساهمات المالية للدول الأعضاء في الحلف.
وبشكلٍ عامٍ، لم تقتصر تأثيرات خطاب ترامب في ولايته السابقة على التحفيز لزيادة الإنفاق الدفاعي فحسب، بل أدَّى أيضًا إلى زعزعة الثقة داخل الحلف؛ حيث اعتبر العديد من القادة الأوروبيِّين، أن تهديدات ترامب قد تُقوِّضُ وحْدة الحلف وتضعف التزام الولايات المتحدة بأمن أوروبا، كما كان هناك قلق من أن تهديدات ترامب بالانسحاب من الناتو قد تؤدي إلى انقسام داخل الحلف.
استشراف موقف ترامب تِجَاه حلف الناتو في ولايته الثانية
من المحتمل أن تشهد الفترة القادمة عملية إعادة نظر وتقييم للحلف من جانب واشنطن تحت إدارة دونالد ترامب الذي يريد أن ينتهج نهجًا انعزاليًّا بعنوان” أمريكا أولًا”، من شأنه أن يخرج يد ونفوذ الولايات المتحدة الأمريكية من أوروبا، ويحدث تراجعًا كبيرًا للحلف على الصعيد الدولي، وبالتالي يُضعف البِنْية الأمنية الأوروبية التي تعاني من مشاكل عديدة منذ الأزمة “الروسية – الأوكرانية”.
اعتبارات اقتصادية
ليس من قبيل المصادفة، أن تُثار فكرة الانسحاب من حلف الناتو دون أن يكون وراءها مجموعة من الدوافع القوية لدى الولايات المتحدة، وقد أشار ترامب على الموقع الإلكتروني لحملته الانتخابية: ” يتعين علينا أن نُنهي العملية التي بدأناها في ظل إدارتي لإعادة تقييم هدف ومهمة الناتو”، وعلى رأسها رُؤْية ترامب أن توجُّهات الحلف يجب أن تركز بشكلٍ كليٍّ على مجابهة الصين في منطقة “الإندو- باسيفيك”؛ الأمر الذي يزيد من الخلافات السياسية والتوجُّهات بين أعضاء الحلف وواشنطن الذين يرون ضرورة تركيز الحلف على مجابهة بوتين وتعزيز الأمن الأوروبي الذي بدوره سيُعزِّزُ الأمن الأمريكي.
وبالحديث عن الاعتبارات الاقتصادية لترامب، واتباعه لنهْج الانعزال الذي يعتمده، يصبح من غير المستبعد طرْح احتمال انسحاب الولايات المتحدة من حلف الناتو، وهذا الاحتمال في جوهره، يعكس حسابًا عقلانيًّا لرجل أعمال لا يقبل الخسارة أو إنفاق الأموال دون عائد ملموس، وقد ذكر ترامب في كتابه” أمريكا التي نستحقها” الصادر في عام ٢٠٠٠، أن ” الناتو يُمثِّلُ استنزافًا للموارد الأمريكية من قِبَلِ المستغلين، والانسحاب من أوروبا من شأنه أن يوفر على هذا البلد ملايين الدولارات سنويًّا”، وتُعدُّ واشنطن هي المساهم الأول في الميزانية الدفاعية للحلف منذ نشأته، وبالتالي ذلك جعلها مهيمنةً عليه، ولكن سُرْعانَ ما شعرت واشنطن بأن ذلك يُمثِّلُ عِبْئًا على الاقتصاد الأمريكي بدون طائل؛ حيث تقدم واشنطن ٢٢٪ من موازنة الحلف سنويًّا، وفي الفترة من ٢٠١٢ إلى ٢٠١٨ أنفقت الولايات المتحدة ٣.٤٪ من إجمالي دخلها القومي، فيما أنفقت الدول الأوروبية الأعضاء في الحلف ١.٥٪ من إجمالي دخلهم القومي.[9]
وذلك ما يترك ترامب في حالة مراجعة دائمة للحلف ولجدوى البقاء به، خصوصًا وأن الدول الأوروبية الأعضاء لا يدفعون حصصهم في ميزانية الدفاع، في الوقت الذي يُعدُّون أكثر المستفيدين من الحلف الذي يحفظ الأمن الأوروبي وليس الأمن الأمريكي بشكلٍ أساسيٍّ، خاصَّةً أن ترامب يرى أن الدول الأوروبية الأعضاء لديهم اقتصاد قوي ومتكافئ مع الاقتصاد الأمريكي إلى الحدِّ الذي يمكنهم من إنفاق المزيد من الأموال لإنشاء قواتهم العسكرية وعدم تحميل واشنطن العِبْء الأكبر للدفاع عنهم.
رؤية مغايرة للصين
من منظار ترامب، يجب أن توجه الإدارة الأمريكية تركيزها الأكبر تجاه الصعود الصيني الذي تراه تهديدًا مباشرًا لواشنطن، ومن شأنه أن يهدد قوة واستقرار الاقتصاد الأمريكي؛ لذلك سيتعين على ترامب توجيه كافَّة الجهود للمواجهة الاقتصادية الشَّرِسة مع بكينوليست أوكرانيا.
في حين أن غالبية دول الناتو لا ترى في الصين عدوًا رئيسيًّا لهم، بل هناك شراكات ومصالح اقتصادية بين الدول البارزة الأوروبية في حلف الناتو كفرنسا وألمانيا وبين الصين، والدول الأوروبية الأعضاء ليسوا على استعداد لتبنِّي حرب ترامب التجارية والاقتصادية على بكين ومحاولة إخضاعها لسياسات ترامب.
ثالثًا: استعدادات دول الحلف في حالة الانسحاب الأمريكيوانعكاسات ذلك على الحرب “الروسية – الأوكرانية”
من الصعب تصوُّر حلف الناتو دون الولايات المتحدة الأمريكية، التي تُشكِّلُ العمود الفقري لتماسُك الحلف، وقد يُعطِّلُ انسحاب واشنطن عن الحلف قدرة الناتو على التنسيق الفعّال، ويضعف قدرته على اتخاذ القرارات الإستراتيجية، إذا حدث ذلك، قد يُمثِّلُ نقطة تحوُّلٍ حاسمةٍ في تاريخ الحلف؛ حيث سيكون أمامه خياران: إمَّا أن يعيد تنظيم نفسه لمواجهة التحديات المستقبلية الناتجة عن هذه الخطوة، أو قد يكون ذلك بدايةً لنهاية الحلف.
لا غبار على أن الناتو أقوى من أيِّ وقتٍ مضى بعد مرور ٧٥ عامًا على تأسيسه؛ حيث أصبحت الدول الأعضاء أكثر عددًا، فقد تفاقم العدد من ١٢ عضو إلى ٣٢، وأصبح الحلف على أعلى مستوى في التسليح والدول الأعضاء به تُعدُّ من أغنى وأقوى إقتصادات العالم، ولكن مما لا شكَّ فيه أن انسحاب واشنطن -إن حدث- قد يُمثِّلُ ضربةً قاسمةً للحِلْف.
ولكن ذلك يستدعي أن يضع الحلف كُلَّ الاحتمالات أمامه، ويضع خطةً أمام كل احتمال، في ذلك السياق، من المتوقع سماع بعض الأصوات مجددًا، تلك التي كانت تنادي في الماضي بإنشاء جيشٍ أوروبيٍّ مُوحَّدٍ، وهو ما دعى إليه ماكرون عام ٢٠١٧ بعد فوزه بالانتخابات، مشيرًا إلى رغبته في تقليل الاعتماد على الناتو (أيْ أمريكا)، ويبدو أنه لم يُرِدْ الإشارة صراحةً وقتها إلى استقلال أوروبا عن الولايات المتحدة فيما يخُصُّ الأمور الدفاعية عن القارة وقطع كونها تابعًا للسياسات والتوجيهات الأمريكية الأمنية، فيما من الممكن أن تكون هذه فرصة جيدة لإعادة تقييم الحلف داخليًّا من قِبَلِ الأعضاء الأوروبيِّين ورفع المستوى الأمني به، ورفع حِصَص مشاركتهم بالحلف؛ ما يعوض غياب واشنطن عن الحلف، مع الاستمرار في إقامة علاقات ثنائية مع الولايات المتحدة قائمة على الصفقات والتدريبات والتعاون مدفوع الأجر، وذلك من المحتمل أن يلاقي ترحيبًا من ترامب الذي يُقدِّسُ الصفقات التي تعود عليه بالربح.[10]
في هذا السياق، أشار ماكرون في عدة مناسبات إلى أنه “لم يعُدْ بإمكان الدول الأوروبية الاعتماد على أمريكا للدفاع عن الحلف، إستراتيجيًّا وسياسيًّا”،[11] في خطوةٍ تبدو وكأنها تمهيدٌ لدور أكبر لفرنسا في قيادة الحِلْف، وقد تبنَّى الرئيس التشيكي، بيتر بافيل، في أكتوبر 2023 الموقف نفسه داعيًا إلى تقليص الاعتماد الأوروبي على الولايات المتحدة في القضايا الدفاعية، وهو ما يتناغم مع موقف ماكرون.[12]
من الواضح أن الدول الأوروبية بحِلْف الناتو تفتقر إلى القيادة وإلى الشخصيات السياسية البارزة، كأمثال الرؤساء الأمريكيِّين الذين لطالما يأتون بشخصية دولتهم، شخصية قيادية قادرة على جعْل الحلف يلتف حول سياسات واشنطن، وهي بالطبع مستمدة من قوة الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، باعتبارها القُوَى العُظْمى في النظام العالمي الحالي؛ لذلك، سيظل من المحتمل أن تلتزم الدول الأوروبية في الناتو بتقديم التنازلات الضرورية؛ من أجل الحفاظ على عضوية الولايات المتحدة في الحلف.
مستقبل الحرب “الروسية – الأوكرانية”:
بالرغم من أن ترامب يعِدُ بتسوية الحرب “الروسية – الأوكرانية”، ولكن في حالة فشله في تحقيق ذلك وتمسُّكه من الناحية الأخرى بالانسحاب من حلف الناتو، لو لم تقُمْ الدول الأعضاء بزيادة النفقات الدفاعية، فإن ذلك سيكون له تأثيرٌ كبيرٌ على مسار الحرب “الروسية – الأوكرانية”، وفي حال حدوث ذلك، ستواجه الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو تحديات كبيرة في إدارة الصراع المستمر في أوكرانيا.
استمرار الدعم العسكري والمادي لأوكرانيا:
من المحتمل أن تواصل الدول الأوروبية، وبالأخصِّ دول أوروبا الشرقية، دعم أوكرانيا في مواجهة الهجوم الرُّوسي، وبدون القيادة الأمريكية، ستضطر الدول الأوروبية إلى اتخاذ قرارات أكثر استقلالية بشأن تقديم الدعم العسكري والمادي؛ ما قد يُعزِّزُ التوتُّرات داخل الحلف بشأن مقدار ونوْع الدعم المُقدَّم.
غموض التزام الناتو بحماية أوكرانيا:
في حال انضمام أوكرانيا إلى الناتو (وهو ما يظلُّ هدفًا مهمًا بالنسبة لها)، فإن انسحاب الولايات المتحدة سيخلق حالةً من الغموض في التزام الحلف بحماية أوكرانيا، وفي حال غياب واشنطن، قد يتردد بعض أعضاء الناتو في اتخاذ إجراءات صارمة ضد روسيا، إذا قررت الأخيرة توسيع هجماتها على أراضٍ أوكرانيا.
الضغط على الدول الأوروبية للقيام بعمل منفرد:
في غياب القيادة الأمريكية، قد تحاول بعض الدول الكُبْرى في أوروبا، مثل فرنسا وألمانيا، أخْذ زمام المبادرة، ومع ذلك، فإن هذه الدول قد تكون مترددةً في التصعيد المباشر ضد روسيا؛ بسبب القلق من العواقب العسكرية والاقتصادية لهذا التصعيد. ومن المحتمل أن تستمر محاولات التوصُّل إلى تسويةٍ سلميةٍ، لكن في ظل غياب القوة العسكرية والاقتصادية الكُبْرى، مثل الولايات المتحدة، قد تكون هذه التسويات أقلّ تأثيرًا.
خاتمة:
إن احتمالية انسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تظلُّ قضيةً مُعقَّدةً ومفتوحةً على عِدَّة احتمالات، وذلك يعتمد بدرجةٍ كبيرةٍ على مدى استجابة الدول الأوروبية الأعضاء للمطالب الأمريكية المتعلقة بتقاسُم الأعباء المالية والدفاعية، ومن جانب آخر، قد تكون الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على حلفائها الأوروبيِّين مُجرَّد وسيلةٍ لتحفيزهم على الوفاء بتعهُّداتهم المالية، دون أن تصل إلى حدِّ اتخاذ خطوة الانسحاب، هذا الخيار سيُجنِّبُ واشنطن الصَّدْع الكبير في العلاقات عبْر الأطلسي والتفكُّك المحتمل داخل الحلف؛ ما قد يتسبَّبُ في تقويض قدرة الناتو على مواجهة التحديات العالمية، سواء على صعيد الأمن الأوروبي أو في مواجهة تهديدات من دولٍ كروسيا أو الصين.
مع ذلك، لا يمكن الجزْم بما ستؤول إليه الأمور، في ظِلِّ التوجُّهات السياسية المتغيرة لترامب، والتي يصعُبُ التنبُّؤُ بها، وفي كل الأحوال، فإن هذه الفترة الحرِجَة تُمثِّلُ اختبارًا كبيرًا لحلف الناتو؛ فسواء استمرت الولايات المتحدة في التزامها بالحلف أو اتخذت خطوة الانسحاب، فإن انعكاسات هذه القرارات ستكون عميقةً؛ ما يستدعي من الناتو مراجعةً شاملةً لسياساته وإستراتيجياته، ففي حال استمرار الولايات المتحدة في الضغط على حلفائها الأوروبيِّين لزيادة أعبائهم المالية، قد يتحقق التوازن المالي الذي يُعزِّزُ استقرار الحلف، وفي حال اتخاذ قرار بالانسحاب، سيكون أمام الناتو خياران: إما إعادة بناء هيكلته وتعديل إستراتيجياته للتكيُّف مع الوضع الجديد، أو أن يشهد مرحلةً من التفكُّك تدفعه نحو التراجُع والتفكيك.
وبذلك، تقف فترة ما بعد 2024 كمرحلةٍ مِفْصَلِيَّةٍ لحلف الناتو؛ إذ يتعين عليه اتخاذ قرارات حاسمة قد تؤدي إلى التحوُّل إمَّا نحو تعزيز الوحدة والقدرة على التكيُّف، أو الانزلاق نحو انقسامٍ يعكس تحديات المرحلة القادمة.
المصادر:
[1] Marc Perelman, NATO’s Stoltenberg Expects Us to Remain ‘Committed Ally’, Even If Trump Returns, France 24, February 19, 2024, https://tinyurl.com/4spk7pdh
[2] Zachary B. Wolf, Congress acted to protect NATO But it might not be enough to stop Trump, CNN,
[5] Christina Pazzaneseand Harvard Staff Writer, Should NATO step up role in Russia-Ukraine war?, The Harvard Gazette, May 4, 2024, https://tinyurl.com/r2nek7cy
[6] Federico Baccini, NATO Discussing 100-Billion Dollar Fund To Aid Ukraine Over Five Years, Eunews, April 2024, https://tinyurl.com/235cey38
[7] Helene Cooper, NATO Putson A Show of Force in The Shadow of Russia’s War, The New York Times, April 24, 2024, https://tinyurl.com/5xpnenc3
[8] Years Of NATO: US, Europe ‘Spat’ Over Russia, China Conflicts; Time to Break Free from US Hegemony?, The EurAsian Times, April 4, 2024, https://tinyurl.com/2ratyvun
[9] Hans Binnendijk, R. D. Hooker, Jr., and Alexander Vershbow, NATO Cannot Survive Without America, Foreign Affairs, May 13, 2024, https://tinyurl.com/ypue7rks
[10] Years Of NATO: US, Europe ‘Spat’ Over Russia, China Conflicts; Time to Break Free from US Hegemony? Op.Cit
[11]What If Trump Withdraws the US From NATO? Consequences And Implications, Fitch Solutions, February 8, 2024, https://tinyurl.com/7s6jadx8
