تُعدُّ القارةُ الأفريقيةُ مُنْذُ عقودٍ ساحةً للصراعات الداخلية والإقليمية، التي تتنوَّعُ أسبابُها بين العِرْقِيَّة والسياسية والاقتصادية، وتشهدُ تحدياتٍ كبيرةً تتعلق بالانفلات الأمني وعدم الاستقرار السياسي، هذه الصراعات لا تنْبُعُ فقط من الخلافات الداخلية، بل تتأثر بشكلٍ كبيرٍ بعواملَ خارجيةٍ، تشمل التدخُّلات الدولية والإقليمية؛ حيث لَعِبَتْ التدخُّلات الخارجية دورًا مِحْوَريًّا في تشكيل وتفاقُم العديد من هذه النزاعات، وتسعى الدول الكُبْرى، سواء من خلال القُوَى الاستعمارية السابقة، أو عبْر قُوَى جديدة؛ لتعزيز نفوذها الجيوسياسي والاقتصادي بالقارة، وقد تدخَّلت في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية بطُرُقٍ متعددةٍ، بدْءًا من الدعم العسكري والاقتصادي للأطراف المتنازعة، وصولًا إلى التوسُّط في عمليات السلام أو إدارة الموارد الحيوية؛ حيث إنها استمرت في التفاعُل مع الشؤون الأفريقية؛ لتحقيق مصالحها الإستراتيجية، سواء من خلال السيطرة على الموارد الطبيعية أو تأمين طُرُق التجارة أو تعزيز نفوذها العسكري والسياسي.
مظاهر التدخُّلات الخارجية في الصراعات الأفريقية
تُعدُّ أفريقيا ساحةً للتنافُس بين القوى الدولية الكبرى بشأن مسألة النفوذ؛ لذلك تستغلُّ تلك الدول الصراعات والأزمات المتواجدة بالقارة؛ لفرض نفوذها وتعزيز هيْمنتها بالمنطقة، وتتسمُ الصراعات الأفريقية بتداخُل العوامل الداخلية والخارجية؛ حيث أصبحت التدخُّلات الخارجية أحد العناصر الأساسية في صياغة مسار تلك النزاعات؛ ما ينعكس سلبًا على الاستقرار السياسي والأمني بالمنطقة، وتسعى الدول الكُبْرى إلى جانب المنظمات الدولية والإقليمية لتحقيق أهدافها الجيوسياسية وتأمين مصالحها الاقتصادية، من خلال هذه التدخُّلات، والتي غالبًا ما تعقد الصراعات الداخلية وتُعزِّز الانقسامات السياسية وتدفع نحْو التوجُّه للحروب الأهلية، كما أنه يتمُّ استخدام الوساطات الدولية والعقوبات الاقتصادية كأدوات للضغط السياسي على دول القارة؛ لضمان استمرارية التبعية لسياسات القوى الكبرى، وهناك أشكالٌ عِدَّة للتدخُّل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية، منها؛ الوساطة الدولية والدعم المالي والمساعدات الإنسانية وغيرها، ويُعدُّ أبرزها؛ التدخُّل العسكري المباشر، وهو ما سيتم تناوله بشيءٍ من التفصيل.[1]
التدخُّل العسكري المباشر
يُعدُّ التدخُّل العسكريُّ هو أبرز أشكال التدخُّلات الخارجية في الصراعات الأفريقية، ويتمثَّلُ هذا التدخُّل بإرسال قواتٍ عسكريةً من دول أو تحالفات خارجية إلى ساحات الصراع؛ لدعْم طرفٍ مُعيَّنٍ أو لتحقيق أهداف إستراتيجية خاصَّةً، وهو الشَّكْل الذي تتبعه الولايات المتحدة الأمريكية في العديد من دول القارة، وتعتبر الحماية هي المِظَّلة الكُبْرى التي يندرجُ تحتها مُبرِّرات إرسال قواتٍ عسكريةً خارجيةً، مثل:
أ- مكافحة الإرهاب: أرسلت الولاياتُ المتحدةُ الأمريكيةُ قواتٍ عسكريةً للدول الأفريقية؛ بهدف حماية المنطقة من تفاقُم العمليات الإرهابية والتصدِّي للجماعات المتطرفة والحدِّ من توسُّع نفوذها، مثل “بوكو حرام” في تشاد، وحركة “الشباب” الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة في الصومال، و “داعش” في مدينة سرت بليبيا، إضافةً إلى “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش، والقاعدة) في دول الساحل الغربي “مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو”؛ حيث تتغلغلُ وتتمدَّدُ الجماعات المتطرفة، ولكنه على الرغم من الاستعانة بقواتٍ عسكريةٍ خارجيةٍ لم يتم اقتلاع جذور الإرهاب من المنطقة، بل هناك حالةٌ من التمدُّد والانتشار بين الدول، وأصبح وجود الجماعات الإرهابية جُزْءًا لا يتجزأ من القارة الأفريقية، خاصَّةً مع تغيُّر الأنظمة السياسية وتفاقُم الأزمات الأمنية التي أدَّت إلى طرْد القوات الغربية واستبدالها بالقوات الروسية التي لم تحقق نجاحًا في مهمتها حتى الآن.[2]
ب- حماية حكومات الدول من الجماعات المتمردة:قد تتدخَّلُ القُوَى الخارجية لدعْم الحكومات المحلية ضد الجماعات المتمردة أو المعارضة المسلحة، كما حدث في ليبيا؛ حيث انخرطت دول مختلفة لدعْم الأطراف المتصارعة؛ ما أدَّى إلى تعقيد الأزمة وتفاقم الانقسامات الداخلية، إلى جانب الصراع في مالي؛ حيث تدخَّلت القوات الأمريكية لردْع تمرُّد الطوارق، ولكنها لم تكمل مهمتها بعد طرْدها من الأراضي المالية واستبدالها بالقوات الرُّوسية التي لم تستطعْ التصدِّي بقوةٍ أمام هجمات الطوارق، بل واستطاعت إلحاق خسائرَ فادحةً بالجيش المالي، وفي النيجر عقب الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المنتخب محمد البازوم، في ٢٠٢٣، أُتيحت الفُرْصَةُ للتدخُّل العسكري الإقليمي والدولي، خاصَّةً مع طرْد القوات الفرنسية “القوة الاستعمارية السابقة” والاستعانة بالقوات الرُّوسية بدلًا عنها.[3]
ت- حماية المصالح الاقتصادية والإستراتيجية: فيما يتعلق بتجارتها واستثماراتها بالمنطقة، فقد زاد اهتمام الصين في السنوات الأخيرة بالقارة الأفريقية؛ إذ إنها تُعتبرُ منطقةً إستراتيجية للأمن الاقتصادي والبحري لبكين؛ حيث تمُرُّ بها غالبيةُ التجارة الصينية البحرية إلى أوروبا، عن طريق مضيق باب المندب؛ ما يجعل السِّلَع والبضائع والتجارة الصينية – عامَّة – عُرْضَةً للخطر، في ظل التوتُّرات الإقليمية وعدم استقرار الأوضاع الأمنية وانتشار القراصنة؛ فشرعت في توطيد علاقاتها مع دول القارة الأفريقية، خاصَّةً الواقعة على البحر الأحمر، وأنشأت أوَّلَ قاعدة عسكرية لها خارج الحدود الصينية في چيبوتي، وسارت في ذلك على خُطَى فرنسا؛ حيث احتفظت بقواعدها في چيبوتي؛ لمراقبة المدْخل الجنوبي للبحر الأحمر، كما عملت بكين على تعزيز نفوذها عسكريًّا في المنطقة أمام النفوذ الرُّوسي والأمريكي، خاصَّةً بعْد تغيير الأنظمة السياسية وتعاقُب الانقلابات العسكرية، ومن ناحيةٍ أُخرى، تسعى كُلٌّ من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية إلى تعميق العلاقات مع الدول الأفريقية؛ للسيطرة على الموارد الطبيعية ومنابع النفط والبترول والثروات المعدنية وتعزيز نفوذهم بالمنطقة.[4]
كُلُّ هذه المظاهر للتدخُّل العسكري إلى جانب قوات حفظ السلام والبعثات الأممية، التي من المفترض أن تتواجد في مناطق النزاعات؛ لإيقاف الهجمات المسلحة بين أطراف النزاع، ولكن في حقيقة الأمر؛ التدخُّل العسكري في الدول الأفريقية زاد الأمور تأزُّمًا وتعقيدًا؛ فعلى سبيل المثال، القوات الأمريكية لم تمنع الانقلابات العسكرية المتعاقبة، والقوات الرُّوسية لم تستطعْ حماية الجيش المالي ومواجهة الطوارق، كما أنهما لم يُحقِّقَا نجاحًا في التصدِّي لاستشراء الجماعات الإرهابية التي تتوغَّلُ في منطقة الساحل الغربي وفي أفريقيا بشكلٍ عامٍ؛ إذ إن التدخُّل العسكري يؤدى إلى إطالة أَمَدِ الصراعات وتصاعُد التوتُّرات الإقليمية؛ ما يؤثر مباشرةً على تفاقم الأزمات الإنسانية من تفشِّي الأمراض والأوبئة وزيادة أعداد النازحين، وأخيرًا اشتداد أعمال العنف.[5]
الدوافع التي أفضت للاستعانة بالقوات الخارجية
يعكس اتجاه الدول الأفريقية للاستعانة بالقوات الخارجية مدى تعقيد البيئة الأمنية والسياسية في القارة؛ حيث تواجه العديد من الدول الأفريقية تحديات متعددة، مثل الإرهاب والنزاعات المسلحة والأزمات الإنسانية وانعدام الاستقرار السياسي؛ نظرًا لمحدودية قدرات بعض الدول الأفريقية على معالجة هذه التحديات بمفردها، أصبح اللجوء إلى القوات الخارجية خيارًا إستراتيجيًّا، تسعى من خلاله الحكومات إلى استعادة الاستقرار وتعزيز الأمن الداخلي، وهناك عددٌ من العوامل التي دفعت الدول الأفريقية للاستعانة بالقوات الخارجية منها:
أ- نقْص الموارد العسكرية:تفتقر العديدُ من الدول الأفريقية إلى الجيوش المُدّرَّبَة والمُجَهَّزة بشكلٍ كافٍ؛ لذا تستعين بالقوات الخارجية لتوفير الدعم الفني والتدريبي واللوجيستي، سواء من دول أُخرى أو منظمات، مثل الأمم المتحدة أو الاتحاد الأفريقي.
ب- المصالح السياسية والاقتصادية: تلجأ بعضُ حكومات الدول الأفريقية إلى القُوَى الأجنبية لضمان بقائها في السلطة أو حماية مصالحها السياسية والاقتصادية، على سبيل المثال، بعض الحكومات تستدعي قوات خارجية لحماية الموارد الطبيعية (مثل النفط والغاز)، أو لتحقيق الاستقرار الأمني والسياسي، الذي يسمح بجذْب الاستثمارات.
ت- مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة: تُعاني بعض الدول الأفريقية من تهديدات أمنية خطيرة، مثل الجماعات الإرهابية (كالقاعدة، بوكو حرام، وداعش) أو الحركات الانفصالية والميليشيات المُسلَّحة، ولأنها تفتقر إلى القدرات العسكرية الكافية لمواجهة هذه التهديدات؛ تلجأ إلى الدول الكبرى أو المنظمات الدولية للمساعدة في استعادة الاستقرار الأمني للدولة.
ث- الاستجابة للأزمات الإنسانية: تلجأ الدول الأفريقية في بعض الأحيان إلى القوات الخارجية؛ للمساعدة في مواجهة الكوارث الطبيعية أو الإنسانية، سواء بسبب الحروب الأهلية أو المجاعات أو الأوبئة، وفي هذه الحالة، قد تُقدِّمُ الدول الأجنبية بعض المساعدات الطبية.[6]
تداعيات التدخُّلات الخارجية على الأوضاع الأمنية في أفريقيا
أدَّت التدخُّلات الخارجية إلى تداعيات خطيرة على مختلف الأصعدة الأمنية والسياسية والاقتصادية للدول الأفريقية:
التداعيات السياسية والأمنية
أضعفت التدخُّلات الخارجية السيادة الوطنية للدول؛ حيث تصبح حكومات الدول غير قادرة على السيطرة الكاملة على شؤونها الداخلية، خاصَّةً من الناحية الأمنية؛ فتضطر للاعتماد على القُوَى الخارجية للحفاظ على الاستقرار، وهذا ما حدث بوضوحٍ في الصومال؛ حيث تعتمد الحكومة على قوات الاتحاد الأفريقي مُنْذُ سنواتٍ في مواجهة حركة الشباب؛ ما جعل الحكومة الصومالية عاجزةً عن إدارة ملفها الأمني بشكلٍ مستقلٍ، كما أن التدخُّلات الخارجية تؤدي أحيانًا إلى تفاقُم النزاعات الداخلية، مثلما حدث في ليبيا، بعد تدخُّل حلف الناتو، في عام 2011، ورغم الإطاحة بالنظام الحاكم؛ أدَّى التدخُّل إلى تفكُّك الدولة واندلاع صراعات داخلية بين الفصائل المسلحة المتنافسة؛ ما خلق حالةً من الفوضى الأمنية التي لا تزال مستمرةً حتى اليوم، وتتسبَّبُ هذه التدخُّلات في زيادة التوتُّرات الإقليمية، خاصَّةً عندما ينظر إليها جيران الدولة المتدخلة على أنها تهديد لأمنهم القومي أو استقرار المنطقة، مثل التدخُّل الفرنسي في مالي، عام 2013؛ لمواجهة الجماعات الإرهابية في الشمال، والذي رغْم نجاحه النِّسْبي – في البداية – أدَّى إلى توتُّرات إقليمية مع بعض الدول المجاورة، مثل “الجزائر، وموريتانيا”، اللتان تخوَّفتا من تصاعُد العمليات الإرهابية في مناطق حدودية؛ نتيجة هذا التدخُّل، كما أنها تؤدي إلى إطالة أَمَدِ الصراعات بدلًا من حلِّها؛ حيث إنه في العديد من الحالات تدخل القوى الأجنبية لتحسين الوضع الأمني يؤدي إلى استقرارٍ مُؤَقَّتٍ، ولكن بمُجرَّد انسحاب هذه القوات يتمُّ إعادة استخدام العُنْف والصراعات هذا ما حدث في جمهورية أفريقيا الوسطى؛ إذ أدَّى التدخُّل العسكري الدولي إلى تخفيف الصراع مُؤَقَّتًا، لكنه لم يعالج الأسباب الجِذْرِيَّة للنزاع، مثل الفقر والانقسامات العِرْقِيَّة والدينية؛ ما أدَّى إلى استمرار الاضطرابات حتى بعد انسحاب القوات الأجنبية.[7]
التداعيات الاقتصادية
أثَّرت التدخُّلات الخارجية بشكلٍ عميقٍ على الدول الأفريقية من الناحية الاقتصادية؛ فقد أثَّرت على الاستقرار الاقتصادي؛ نتيجة ما يُخَلِّفُهُ التدخُّل الخارجي من زعزعةٍ للاستقرار السياسي وتعميقٍ للانقسامات السياسية في دول القارة، من خلال دعْم أنظمة سياسية حاكمة أو جماعات مُعيَّنة؛ ما يفاقم الأزمات الإنسانية وتخلُخل الأوضاع الأمنية؛ ما يؤدي إلى انهيار النُّظُم الاقتصادية للدولة، ويجعلها بيئةً غير جاذبةٍ للاستثمارات الأجنبية، كما أنه يتسبَّبُ في خلْق التبعيَّة الاقتصادية والاعتماد على الدول المانحة والشركات متعددة الجنسيات؛ ما يُضْعِفُ قدرة الدول الأفريقية على تنويع اقتصادها، وبالتالي تصبح هذه الدول أكثر عُرْضةً للتأثُّر بالأزمات الاقتصادية العالمية، كالأزمات التي قد تحدث نتيجة انخفاض أسعار السِّلَع أو تقلُّص الطلب العالمي، إضافةً إلى الاستنزاف المالي وتحمُّل أعباء الديون؛ فالكثير من الدول الأفريقية تعتمد على القروض من المؤسسات المالية الدولية والدول المتقدمة، وغالبًا ما تُقرض بشروط غير مواتيةٍ؛ تجعلها تتحمل أعباء ديونٍ ضخمةٍ، يصْعُبُ سدادُها، وتساهم تلك الديون في زيادة الاعتماد على المساعدات الخارجية وتقليل القدرة على بناء اقتصادٍ مستقلٍ، وأخيرًا؛ السيطرة على الموارد الطبيعية؛ حيث تسعى العديد من القوى الخارجية إلى الاستفادة من الموارد الطبيعية الغنيَّة في أفريقيا، مثل النفط والغاز والمعادن عبْر الاستثمارات والشركات متعددة الجنسيات، وفي الغالب، تذهب معظم العوائد إلى الشركات الأجنبية، بينما تستفيد الاقتصادات المحلية بحدٍّ أدْنى؛ بسبب غياب سياسات توزيعيَّة عادلة.[8]
انعكاسات التدخُّلات الخارجية على بعض الدول الأفريقية
الانقسامات السياسية في ليبيا
تُعدُّ ليبيا من أبرز الدول الأفريقية التي تمزَّقت بين الصراعات الدولية على ساحتها لتحقيق مصالحهم الشخصية؛ حيث وقفت ليبيا أمام حائط سدٍّ في عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتفاقم الأزمة كلما اقتربت من حلِّها، ويزداد الصراع عُمْقًا بين أطراف النزاع، وحتى الآن لم تُحل الأزمة، بالرغم من الجهود الإقليمية المبذولة لإعادة الاستقرار السياسي والأمني في ليبيا؛ فالصراعات الداخلية ما زالت مستمرةً في ليبيا، مُنْذُ الثورة الليبية ٢٠١١، وتفاقمت الانقسامات السياسية والتكالُب للوصول إلى السُّلْطة، ولم تستطعْ الدولة إعادة بناء مؤسساتها وزادت المطامع الخارجية؛ حيث أصبحت ليبيا ساحةً للصراع الدولي؛ بفضل التدخُّلات الخارجية للدول الكُبْرى التي تسعى لتحقيق مصالحها الشخصية، وعلى هذا الأساس، دعمت أطراف النزاع؛ حيث انقسمت الدول، كالآتي:
أ- فرنسا: رأت في تواجُد حفتر تحقيقًا لمصالحها الأمنية والاقتصادية في المنطقة، فوقفت بجانب الجيش الوطني الليبي، منذ ٢٠١٤، في هجومه العسكري على مدينة طرابلس، وقامت بإمداده بالمساعدات العسكرية وتدريب القوات، إضافةً إلى تقديم المعلومات الاستخباراتية، ولكن تمَّ كُلُّ ذلك بشكلٍ سِرِّيٍّ ولم تعترفْ به فرنسا، على الجانب الآخر، دعمت فرنسا حكومة الوفاق بشكلٍ معلنٍ، وكانت تقوم باستضافة فايز السراج؛ لتأكيد اعترافها بالحكومة الشرعية، وهنا؛ يتسم موقف فرنسا بالتناقُض؛ ما بين الدعم العسكري السِّريِّ لحفتر والدعم المُعْلَن لـ “الوفاق الوطني”.[9]
ب- روسيا: حافظت في البداية على الوقوف على الحِيَاد والموازنة بين السلطة والمعارضة، وتدخلت في ليبيا؛ خوفًا على مصالحها الاقتصادية؛ لِمَا تُمثِّلُه من أهمية للمشروعات والاستثمارات الروسية؛ لذلك قامت روسيا بدعْم حفتر دبلوماسيًّا وعسكريًّا، وأرسلت مجموعةً من المرتزقة الرُّوس، إضافةً إلى ١٤ طائرةً مقاتلةً وقنَّاصةً في الحرب ضد حكومة الوفاق الوطني، ولم يكن غريبًا أن تتبع روسيا النَّهْج الفرنسي المزدوج نفسه؛ حيث كان هناك اتفاقٌ مع حكومة الوفاق الوطني، أَثَمَرَ مشروعًا مشتركًا للنفط والغاز بين ليبيا وروسيا، إضافةً إلى زيارة وفدٍ روسيٍّ رفيع المستوى لليبيا، في ٢٥ أبريل ٢٠١٧، ومقابلة فايز السراج، وتناولوا الحديث عن سُبُل التعاون بين البلديْن.[10]
ت- تركيا: فمُنْذُ بداية الثورة، اتسم موقفها بالحَذَر الشديد، وكانت على وشك لعب دور الوسيط بين أطراف الصراع والمساهمة في جهود الإغاثة الإنسانية، ولكنها انخرطت عسكريًّا في الأزمة الليبية؛ بناءً على طلب حكومة الوفاق الوطني، ووقَّعت معها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية في البحر المتوسط، في ٢٧ نوفمبر ٢٠١٩، ومذكرةً للتعاون الأمني والعسكري، تتيحُ لتركيا تقديم كُلِّ أشكال الدعم الأمني والعسكري لحكومة الوفاق؛ بما في ذلك، بناء القواعد العسكرية على الأراضي الليبية؛ ما أدَّى إلى تغيُّر ميزان القُوَى في ساحة الصراع لصالح حكومة الوفاق.[11]
ث- إيطاليا: اتسم موقفها في البداية بالغموض؛ حيث تُمثِّلُ ليبيا مجالًا حيويًّا لها، وتربطهما مصالح اقتصادية، وتعتبر إيطاليا من أكثر المتضررين من الأزمة الليبية؛ حيث إن المسافة الفاصلة بين الدولتيْن لا تتعدَّى ٣٠٠ كم تقريبًا؛ لذلك تأثَّرت بانتشار الإرهاب وارتفاع أعداد المهاجرين؛ الناتج عن الفوضى السياسية في ليبيا، ونتيجة الضغوط التي مُورِسَت على إيطاليا؛ اضطرت للتدخُّل في الصراع الليبي، وبما أن المنطقة الغربية في ليبيا ترتبط بمصالحها الاقتصادية في مجال الطاقة والأمن، خاصَّةً أنها نُقْطَةُ تدفُّق المهاجرين غير الشرعيِّين؛ بدأت في دعْم حكومة الوفاق سياسيًّا فقط، ولكن مع بداية ٢٠٢٠، رغبت إيطاليا في لعب دورٍ أكبرَ في ليبيا؛ للحصول على امتيازات التنقيب عن النفط في المياه الإقليمية الليبية؛ فارتفعت سياسة الانفتاح على جميع الأطراف.[12]
الصراع في السودان
تُعدُّ حالةُ الصراع في السودان من الحالات المشتعلة حتى الآن؛ إذ إن اندلاع الاشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في أبريل 2023، ويعكس الصراع التعقيدات والانقسامات الداخلية؛ نتيجة التأثُّر بالتدخُّلات الخارجية، سواء كانت من دول الجوار أو القُوَى الإقليمية أو العالمية؛ فقد أثَّرت بشكلٍ كبيرٍ على مُجْرَيات النزاع الدائر في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، اللذان يسعى كُلٌّ منهما لفرض سيطرته على الدولة، إضافةً إلى تأثيرها من الناحية الاقتصادية؛ حيث إنها تُعاني من أزماتٍ اقتصاديةٍ متفاقمةٍ؛ الأمر الذي أدَّى إلى تفاقُم الأزمات الاجتماعية والإنسانية، وجعل الدولةَ أكثرَ عُرْضَةً للتدخُّلات الخارجية التي جاءت كالآتي:
روسيا: قدَّمت روسيا الدَّعْم غير المباشر؛ عن طريق مجموعة “فاغنر” لقوات الدعم السريع، كما أنها تسعى لتعزيز نفوذها في البحر الأحمر، من خلال دعمها لهذه القوات؛ إذ إن لديها طموحات، بإنشاء قاعدة بحرية على الساحل السوداني، إلى جانب سعيها للسيطرة على الموارد الطبيعية في السودان؛ بما أنها دولة غنيَّة بالموارد الطبيعية، خاصَّةً الذهب، وتستغل مصالحها الاقتصادية مع قوات الدعم السريع في دعْم وتمويل عملياتها في السودان ودول أفريقية أخرى.
إثيوبيا: تنظر إثيوبيا بقلقٍ إلى الصراع في السودان؛ بسبب التوتُّرات الحدودية وقضية السَّدِّ الإثيوبي؛ فهي تسعى للتأثير عليه بصورةٍ غير مباشرة؛ حيث تعمل على دعْم استقرار السودان؛ بما يخدم مصالحها، خاصَّةً أنها تخشى من تدفُّق النزاع إلى حدودها، وتأثيره على استقرارها الداخلي؛ فالصراع في السودان يُشكِّلُ تهديدًا على الأمن الإثيوبي.
هناك دولٌ أُخرى، مثل “الولايات المتحدة الأمريكية، والسعودية، وقطر”، تلعب دوْر الوساطة، ودَعَتْ لوقْف إطلاق النار وتحقيق الأمن والاستقرار في السودان، ولكن التأثيرَ السلبيَّ للتدخُّلات الخارجية قد طَغَى؛ إذ إن الأوضاع الأمنية ما زالت غير مستقرة بالسودان حتى الآن، ويزداد الصراع اتساعًا وعُمْقًا بين الأطراف المعنيَّة، وتفاقم الأزمة كلما زاد الدعم الخارجي لكلا الطرفيْن.[13]
ختامًا:
يعكس التدخُّل العسكري المباشر في الصراعات الأفريقية التنافُس على النُّفُوذ والسيطرة في المنطقة الإقليمية، سواء تحت غطاء محاربة الإرهاب أو حماية المصالح الإستراتيجية، ورغم أنه قد يُسْهِمُ في بعض الأحيان في تحقيق الاستقرار المُؤَقَّت، إلَّا أنَّ تأثيره غالبًا ما يكون سلبيًّا على المدى الطويل؛ حيث يُعَمِّقُ الأزمات ويزيد من تعقيد الحلول السياسية، خاصَّةً عندما يرتبط بأهداف جيوسياسية أو اقتصادية تخدم مصالح الدول المتدخلة على حساب الدول الأفريقية؛ ما يؤدي إلى تفاقُم الصراعات الداخلية وإطالة أَمَدِها، ويعتبر أكبر دليلٍ على ذلك؛ الصراعات الأفريقية التي ما زالت مشتعلةً ولم تقتلع الخارجية جذورها، بل حفَّزت الانقسامات والخلافات وعمَّقت الصراعات بشكلٍ أكبرَ، مثل حالتيْ “ليبيا، والسودان”، اللتان تمَّ تناولهما بشيءٍ من التفصيل؛ لذلك يجب تمكين المؤسسات الإقليمية، مثل الاتحاد الأفريقي ومنظمات المجتمع المدني الأفريقية؛ لدعم عمليات السلام والتنمية المستدامة، وتعزيز التعاون الدولي والإقليمي، بدلًا من فرْض الحلول الخارجية أو التدخُّلات العسكرية التي غالبًا ما تزيد من تعقيد الأزمات.
المصادر:
[1] أحمد إبراهيم محمود، غرب أفريقيا: تحولات الصراع والعنف في بيئة مضطربة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ٧ ديسمبر ٢٠٢٣، https://acpss.ahram.org.eg/News/21062.aspx ، ٢٠ اكتوبر ٢٠٢٤.
[2] د. حكيم الادي نجم الدين، الإرهاب في غرب أفريقيا والساحل: ما بعد تغير الأنظمة السياسية والمبادرات البديلة لمكافحته، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية،١١ سبتمبر ٢٠٢٤، https://acpss.ahram.org.eg/News/21262.aspx ، ٢٠ اكتوبر ٢٠٢٤.
[3] 10 بؤر ساخنة آخرها النيجر.. أفريقيا تغرق في مستنقع الصراعات، سكاي نيوز عربية، ١١ أغسطس ٢٠٢٤، https://rb.gy/9wffsd ، ٢٠ اكتوبر ٢٠٢٤.
حزام عدم الاستقرار: دوافع حمى الانقلابات العسكرية في غرب ووسط أفريقيا، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، ١١ سبتمبر ٢٠٢٤، https://t.ly/aHvzn ، ٢١ اكتوبر ٢٠٢٤.
[4] محمد مكرم بلعاوى، ما موقع أفريقيا في عقيدة الصين العسكرية؟، الجزيرة نت، ١٥ سبتمبر ٢٠٢٤، https://t.ly/tDv6j ، ٢١ اكتوبر ٢٠٢٤.
د. أحمد عسكر، تحولات السياسة الأمنية والعسكرية الصينية في أفريقيا، مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، ١٧ اغسطس ٢٠٢٤،https://acpss.ahram.org.eg/News/21247.aspx ٢١ اكتوبر ٢٠٢٤.
د. راوية توفيق، السياسة الفرنسية في أفريقيا.. الأداة العسكرية في خدمة المصالح الاقتصادية ودعاوى المهمّة الحضارية، قراءات أفريقية، ٢٨ نوفمبر ٢٠٢١، https://t.ly/GjHq7 ، ٢١ اكتوبر ٢٠٢٤.
[5] حمدي عبد الرحمن، عسكرة الصراعات في أفريقيا، الجزيرة نت، ٢١ فبراير ٢٠١٤، https://rb.gy/hezgtu ، ٢١ اكتوبر ٢٠٢٤.
إدريس آيات، أفريكوم.. كيف صاغت أميركا نفوذها العسكري في أفريقيا؟، الجزيرة نت، ١٦ إبريل ٢٠٢٤، https://t.ly/AFx0d ، ٢١ اكتوبر ٢٠٢٤.
[6] أحمد إبراهيم محمود، غرب أفريقيا: تحولات الصراع والعنف في بيئة مضطربة، مرجع سابق.
حمدي عبد الرحمن حسن، حالة عدم اليقين: عودة اللاجئين ومستقبل مختلف في عام 2024، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، ١٨ مارس ٢٠٢٤، https://www.idsc.gov.eg/Article/details/9130 ، ٢٣ اكتوبر ٢٠٢٤.
حزام عدم الاستقرار: دوافع حمى الانقلابات العسكرية في غرب ووسط أفريقيا، مرجع سابق.
[7] سعيد ندا، ظاهرة الانقلابات العسكرية في أفريقيا: أسبابها، ومآلاتها، وكيفية التَّحكُّم فيها، قراءات أفريقية، ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤، https://t.ly/Y7Ot0 ، ٢٢ اكتوبر ٢٠٢٤.
إيهاب عياد، “الأمن الجيوسياسى للقرن الأفريقى وديناميات القوى الفاعلة” “الآفاق المستقبلية لإعادة الصياغة الجيوسياسية “، مجلة السياسة والاقتصاد، العدد ١١، https://jocu.journals.ekb.eg/article_181406.html ، ٢٢ اكتوبر ٢٠٢٤.
[8] الصادق، حسن. “التحديات الاقتصادية للدول الأفريقية في ظل التدخل الأجنبي: دراسة مقارنة”. مجلة الدراسات الأفريقية والشرق أوسطية 5، العدد 2 (2020): 45-78.
“التدخلات الاقتصادية وأثرها على التنمية في أفريقيا”، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. 15 يناير 2022. https://www.dohainstitute.org، ٢٥ اكتوبر ٢٠٢٤.
التدخلات الاقتصادية في أفريقيا: الواقع والتحديات”. الشبكة العربية للأبحاث والنشر. 20 فبراير 2023. https://www.arabnetwork.com، ٢٥ اكتوبر ٢٠٢٤.
