المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > الدراسات الأمنية والإرهاب > التشرذم والتعقيد: كيف يبدو ملف العنف الطائفى فى باكستان؟
التشرذم والتعقيد: كيف يبدو ملف العنف الطائفى فى باكستان؟
- ديسمبر 26, 2024
- Posted by: Maram Akram
- Category: الدراسات الأمنية والإرهاب تقارير وملفات
لا توجد تعليقات
إعداد: آية أشرف
باحث مساعد في برنامج الإرهاب والتطرف
في قلب شبة القارة الهندية حيث تتمازج الحضارات والثقافات والأديان تقف “باكستان” عاجزة في خضم أعمال العنف والاقتتال الطائفي الذي يفتك بالنسيج المجتمعي الباكستاني، هذا المجتمع الذي تأسس بناء على قواعد إسلامية جامعة كانت لعقود طويلة هي مصدر القوة والثراء والتعايش المجتمعي وما لبثت إلا أن تحول هذا التنوع والثراء إلى ساحة صراع دموية على أساس ديني عقائدي بين الطوائف المختلفة في الداخل الباكستاني تحمّل تكلفتها المئات والآلاف من المدنيين وعملت على إشاعة الفوضى وانعدام الأمن في مختلف أنحاء البلاد.
ومن هذا المنطلق يحاول هذا التقرير إلقاء الضوء على سلسة العنف الطائفي التي تفتك بوحدة باكستان وسلامة شعبها في إطار أحدث حلقة من حلقات هذه السلسة في نوفمبر الماضي، وذلك من خلال تحليل الجذور التاريخية لهذه الظاهرة في سبيل الكشف عن العوامل والمحفزات التي ساهمت في تحويل دولة قامت على أسس التسامح والتجانس المجتمعي إلى واحدة من أعنف ساحات الصراع الطائفي في الآونة الأخيرة.
شمال غرب باكستان …. لم يعرف يوماً السلام
منذ يوليو 2024م يشهد إقليم “خيبر بختونخوا” وتحديداً منطقة “كورام” تصاعد في أعمال العنف الطائفي بين السنة والشيعة وصلت ذروتها في 21 نوفمبر الماضي حيث استهدفت مجموعة من المهاجمين المنتمين لجماعات سنية متطرفة موكباً لعدد من الحجاج الشيعة يرافقهم حراسة شرطية عمل هذا الهجوم على تحويل منطقة “كورام” لواحدة من أخطر ساحات العنف في باكستان في الآونة الأخيرة؛ حيث استمرت أحداث العنف لأكثر من عشرة أيام وأودت بحياة أكثر من 120 مدنياً فضلاً عن اصابة ما يقارب من 156 أخرين غالبيتهم من الطائفة الشيعية، وفي المقابل قامت مجموعة شيعية مسلحة باستهداف منطقة سوق “باغان” ذات الأغلبية السنية رداً على استهداف الحجاج الشيعية، الأمر الذي عمل على تفاقم الوضع الأمني بشكل أكثر حدة فضلاً عن تدمير عدد كبير من المنازل والمتاجر والبُنى التحتية في المنطقة، وفي المقابل نظم عدد من المدنيين مسيرات احتجاجية تندد بأعمال العنف هذه واصفين إيها ب “حمام الدم” مطالبين الحكومة بالتدخل بشكل فوري لوقف الاقتتال الطائفي الذي عمل على تعطيل كافة سبل الحياة في المنطقة. ([1])
باكستان الجامعة….حلم الوحدة الذي تلاشى
لم يكن الانقسام الطائفي والعرقي حاضر بأي شكل من الأشكال في المراحل الأولى منذ بداية التأسيس لدولة باكستان عام 1947؛ حيث سعى “محمد على جناح” مؤسس باكستان ذو الخلفية الشيعة إلى تحقيق الاستقلال للدولة تحت راية إسلامية جامعة تحافظ على هوية وثقافة الأغلية العظمى لسكانها من المسلمين الذين يمثلون حولي 95% من سكان باكستان وينقسمون ما بين 75% من المسلمين السنة 15% من المسلمين الشيعة وفي ذات الإطار المجتمعي تضمن الأمن والحرية في الحياة وممارسة الشعائر والمعتقدات الدينية للأقليات الأخرى من غير المسلمين من مسيحين وبنجاب وهندوس وغيرهم والذين يمثلون 5% من أجمالي السكان، وبالفعل نجحت القيادات الأولى لباكستان في تحقيق التعايش والتجانس السلمي إلى حد كبير بين مختلف هذه الطوائف، إلا أن تضافر عدد من العوامل والمحفزات دفع بقوة لإشعال شرارة التمايز الطائفي في البلاد. ([2])
بدأت باكستان تدخل بقوة في دائرة العنف الطائفي في فترة السبعينيات تحديداُ في الفترة منذ 1977م إلى الفترة 1988م تزامناً مع تولي الرئيس “ضياء الحق” زمام السلطة في باكستان حيث بدأ يُأسس لنظام سُني صارم من خلال سياسيات “الأسلمة المتشددة” التي فرضها بالقوة على المجتمع الباكستاني فضلاً عن دعمه للعديد من الجماعات الإسلامية السُنية المتطرفة التي تبنت خطاباً دينياً متطرفاً معادياً للشيعة بالإضافة إلى إقصاء الشيعة بشكل شبة متعمد من الحياة السياسية والاجتماعية، الأمر الذي أثار العديد من المخاوف لدى الأقلية الشيعية الباكستانية التي عبرت عن هذه المخاوف من خلال عدد من التظاهرات الاحتجاجية ضد نظام “ضياء الحق” والتي تطورت لاحقاً فأصبحت هجمات مسلحة. ([3])
وهنا وقبل الانخراط في تحليل العوامل التي دفعت إلى تأجيج الصراع الطائفي في باكستان لابد من الإشارة إلى أن المجتمع الباكستاني كسائر المجتمعات كان يشهد مراحل من الشد والجذب بين المواطنين فيما يتعلق بعدد من القضايا المدنية كالنزاعات حول الأراضي والملكية وغيرها وكات تفضل الحكومة الفيدرالية بشكل دائم أن تُحل هذه النزاعات في إطارها المجتمعي المدني من خلال ما يسمى بمجالس “الجيراغا” وهي مجالس قبلية تتكون من الوجهاء وزعماء القبائل وعدد من الشخصيات ذات التأثير إلا أن عدد من العوامل دفعت بشكل ما إلى تحويل هذه النزاعات المدينة إلى صراع طائفي أحدث صدعاً غائراً في المجتمع الباكستاني، تزامن هذا الوضع الداخلي المهيأ بشكل كبير لنمو بذور الفتنة الطائفية والعرقية مع ظروف إقليمية ودولية حرجة فقد كان لأحداث الثورة الشيعية في إيران 1976م والحرب الأفغانية ضد السوفييت انعكاس مباشرة على الداخل الباكستاني فضلا التشرذم الكبير في العالم الإسلامي في ذلك الوقت. ([4])
خيوط الصراع….عوامل تأجيج الطائفية في باكستان
من خلال العرض السابق يمكن تحليل العوامل والمحفزات التي دفعت نحو التحول الحاد في المجتمع الباكستاني المسالم نسبياً إلى هذا الوضع المتأزم من خلال تصنيفها لعوامل داخلية وعوامل خارجية يتمثل أهمها في:
1- عوامل داخلية
تتمثل هذه العوامل في المحفزات المرتبطة بالداخل الباكستاني والتي كانت سبب في نمو بوادر الفتنة الطائفية لا سيما بين السنة والشيعة ويتمثل أبرزها في ([5]):
-
ضعف المؤسسات الحكومية وسيادة القانون وغياب العدالة والمساواة وعدم محاسبة مرتكبي أعمال العنف الطائفي بل وتقديم الدعم السياسي لهم في بعض الأحيان الأمر الذي ساهم بشكل كبير في تعميق شعور بعض الطوائف خاصة الشيعة بالتهميش والظلم وعدم المساواة أمام القانون لا سيما في ظل نظام “ضياء الحق”.
-
الصراعات السياسية واستغلال الطائفية لتحقيق لأغراض سياسية حيث لجأت بعض الأحزاب السياسية إلى استغلال الانقسامات الطائفية لكسب الدعم الانتخابي وتوسيع نفوذها في البلاد بشكل غير مشروع ما ساهم في “تسيس الطائفية” وتحويلها إلى أداة للصراع على السلطة، فضلاً عن غياب أحزاب سياسية وطنية قوية تمثل جميع أطياف المجتمع مما ساهم في تعزيز الهويات الطائفية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.
-
الهشاشة الاقتصادي والاجتماعي حيث ساهمت الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة كالفقر والبطالة والتهميش المجتمعي والتفاوت الطبقي وانعدام الثقة بين الطوائف المختلفة في انتشار التطرف والعنف، حيث يستغل البعض هذه الظروف لتجنيد الشباب المحبطين والعاطلين عن العمل في الجماعات المتطرفة.
2- عوامل خارجية
ترتبط هذه العوامل بحيثيات البيئة الدولية والإقليمية التي لعبت دور محوري في تغذية محفزات الطائفية في باكستان والتي يمكن عرضها كالآتي:
-
الثورة الشيعية الإيرانية (1979م)
أثارت الثورة الإسلامية في إيران حماس الشيعة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك باكستان، حيث رأوا فيها نموذجًا لإقامة دولة إسلامية بقيادة رجال الطائفة الشيعية أدى هذا الإلهام إلى زيادة الوعي السياسي لدى الشيعة الباكستانيين ومطالبتهم بحقوق أكبر وتمثيل أوسع في الدولة، فضلاً عن أنه أثار عدد من المخاوف للنظام السُني آنذاك الذي رأى فيها تهديدًا لاستقراره ونفوذه مما دفعه إلى تبني مواقف أكثر تشددًا تجاه الشيعة واتهامهم بالولاء لإيران والسعي إلى نشر “التشيع” في باكستان، علاوة على ذلك قدمت إيران دعمًا ماليًا ولوجستيًا لبعض الجماعات الشيعية في باكستان ما زاد من حدة التوتر الطائفي ورأت بعض الأطراف السنية في ذلك تدخلًا خارجيًا يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد. ([6])
-
الحرب في أفغانستان (1979-1989 وما بعدها)
كان للحرب الافغانية التي قادتها حركة “طالبان” السُنية المدعومة دولياً بشكل واسع آنذاك لمواجهة السوفييت في إطار الحرب الباردة انعكاس مباشر على الوضع في باكستان خاصة في المناطقة الحدودية المجاورة للأراضي الأفغانية التي كانت معقل لقيادات “طالبان” والقاعدة”، فقد تدفق ملايين اللاجئين الأفغان إلى باكستان، بالإضافة إلى الأسلحة والمقاتلين الأجانب فضلاً ظهور العديد من الجماعات المتطرفة التي عملت على استقطاب سكان باكستان خاصة من السنة والعمل على التأسيس لأذرع فرعية لهذه الجماعات في الداخل الباكستاني ك “طالبان باكستان” ل تعمل على نشر الخطاب المعادي للطوائف الأخرى لا سيما الشيعة وتضمن للجماعات الأم ملاذات آمنة وقواعد خلفية في المناطق القبلية ذات الحكم الذاتي في باكستان، هذا الوضع ساهم في زعزعة الاستقرار في باكستان وزيادة انتشار التطرف والعنف. ([7])
الإرهاب العابر للحدود
استطاع تنظيم الدولة الإسلامية وتحديداً ولاية “خرسان” في إيجاد موطئ قدم له في باكستان من خلال جماعة “جند الله” التي أعلنت ولائها “لتنظيم الدولة” بعد انشقاقها عن “طالبان ” و حاولت ترسيخ دعائمها في المجتمع الباكستاني كما هو الحال في العراق وبلاد الشام من خلال استهداف الشيعة مدفوعةً بمبرات طائفية تكفيرية وفضلاً عن استهداف قوات الأمن و وكلات انفاذ القانون الباكستانية، علاوة على ذلك تحويل باكستان لساحة اقتتال فيما بينها وبين حركة “طالبان” وبالتالي خلق ظروف مواتية لجذب التدخلات الخارجية إلى الداخل الباكستاني تحت مظلة مكافحة الإرهاب مما يضع الأمن والاستقرار في باكستان في وضع حرج. ([8])
وأخيراً نجد أن نظرة سريعة لواقع ملف الطائفية في باكستان تُظهر بشكل جليّ مدى تقعد وتشابك الخيوط والأطراف ذات الصلة بهذا الملف وعليه لا نستطيع أن نجزم بشكل حاسم مدى فشل أو نجاح الحكومة الباكستانية في التعامل مع هذا الملف، ولكن من الممكن الوقوف على بعض النقاط المهمة التي يجب أخذها في الاعتبار للتعامل مع هذا الملف الخطير ولعل أهمها :
-
أن الاكتفاء بحكم مجالس “الجيراغا” في تسوية النزاعات المدينة بين المواطنين غير كافي قد يضمن سلام مؤقت ونسبي لكنه لن يضمن تسوية لهذه النزاعات بشكل جذري، لذلك لابد من تفعيل دور وسلطة الدولة بشكل حاسم وصارم على كافة المستويات في مختلف أنحاء البلاد لا سيما المناطق الحدودية ذات الطبيعة القبلية والعمل على عدم ترك أي مجال لوجود فراغات أمنية من الممكن أن تستغلها الجماعات المتطرفة سواء من السنة أو الشيعة.
-
ضرورة وجود خطة وطنية شامل ذات مدى زمني محدد تهدف إلى اقتلاع جذور الفتنة الطائفية والعرقية في البلاد تعمل على معالجة كافة الأسباب وأوجه القصور التي تعزز من وجود هذه الفتنة وفي مقدمتها الاسباب الاقتصادية والاجتماعية وتحيد كافة الانحيازيات السياسية وتغليب المصلحة الوطنية التي تضمن أمن وسلامة المواطنين ولابد من تدعيم هذه الخطة بميزانية مالية تتيح للأجهزة والجهات المختصة تطوير قدراتها لمواجه خطر الفواعل المنخرطة في هذا الصراع.
-
ولابد من إدراك أن بدأ أي مشروع مصالحة مع هذه الفواعل يجب أن يضمن في البداية إلقاء كافة هذه الفواعل لأسلحتها بشكل كامل ثم الدخول في مرحلة مراجعة شاملة للأفكار والمعتقدات التي تتبناها هذه الجماعات على اختلاف عقائدها وخلفياتها ثم العمل في إطار مشترك لتعزيز قيم التسامح ونبذ خطاب العنف والكراهية في المجتمع الباكستاني ولك من خلال تطوير مناهج التعليم ووسائل الإعلام والمؤسسات الدينية، الأمر الذي يتطلب من الدولة تقديم ضمانات كافية لهذه الجماعات تعزز ثقتها في الدولة التي عجزت لسنوات عدة عن التعامل بفاعلية مع احتياجاتها التي دفعتها للتوجه نحو مسار العنف.
-
أن قيام الحكومة والمجتمع المدني في باكستان بالتعاون مع الجماعات الطائفية والعرقية وتقديم ضمانات حقيقة لهذه الجماعات هو السبيل الوحيد على المدى الطويل الذي يضمن لباكستان الاستقرار والأمن والصمود أمام الاستقطابات الدولية والإقليمية الشديدة التي تشهدها البيئة الدولية في الوقت الحالي.