أثارت قرارات الرئيس الكوري الجنوبي “يون سوك يول”، المتمثلة في إعلان الأحكام العُرْفية، الكثير من الجدل؛ إذ لم تشهدها البلاد منذ ثمانينيات القرن الماضي؛ ما أعاد إلى الأذهان الحِقَب غير الديمقراطية التي مرَّت بها سول. وتمثَّلت هذه القرارات في فرْض حالة الطواريء وحظْر جميع الأنشطة السياسية؛ بما في ذلك الاحتجاجات والأنشطة التي تقوم بها الأحزاب وإغلاق البرلمان، مبرِّرًا ذلك، بأنه يأتي في سياق حماية كوريا الجنوبية من القوات الشيوعية، والتصدِّي للعناصر المناهضة للدولة. وفي سياقٍ متصلٍ، قُوبِلَتْ هذه القرارات باعتراضات واسعة، ليس من الحزب الديمقراطي المعارض الذي يتزعمه “لي جاي ميونج” فقط، بل من حزب سلطة الشعب الذي ينتمي إليه الرئيس أيضًا، ومن ناحيةٍ أُخرى، سعت الجمعية الوطنية إلى إبطال هذه القرارات، من خلال تصويت أعضائها الذي قضى بالفعل بإلغائها؛ ما أعقبه عدول الرئيس عن قراراته؛ بحجة رفضها من قِبَلِ البرلمان. في هذا السياق المضطرب، تُثَار عِدَّة أسئلة، حول طبيعة الأزمات التي شهدها الداخل، والتي أوصلت كوريا الجنوبية إلى هذه اللحظة، وعن علاقة ما حدث بدولٍ، مثل” كوريا الشمالية، والولايات المتحدة الأمريكية”، بالإضافة إلى المستقبل السياسي للرئيس الحالي.
أزمات داخلية متعددة
جاءت القرارات التي أعلن عنها الرئيس الكوري الجنوبي؛ لتكون بمثابة حالة الذروة لمرحلةٍ شهدت العديد من الاضطرابات الداخلية، منذ انتخاب الرئيس الكوري الجنوبي في مارس من العام ٢٠٢٢:-
١-انقسامٌ سياسيٌّ حادٌّ
فاز الرئيس الكوري في انتخابات عام ٢٠٢٢ بفارق ضئيل جدًّا عن منافسه “لي جاي ميونج” زعيم الحزب الديمقراطي التقدُّمي، بلغ 0.8%، وهو يعتبر أضيق هامش فوزْ في تاريخ الانتخابات الرئاسية الكورية[1]، هذا الهامش الصغير أرسى دعائم فترةٍ رئاسيةٍ لمدة خمس سنوات غير قابلة للتمديد – بحسب الدستور – ليست بالسهلة، خصوصًا في عدم وجود إجماعٍ شعبيٍّ مقبولٍ تِجَاه الرئيس، وما زاد الأمر تعقيدًا هو تحقيق المعارضة بزعامة الحزب الديمقراطي فوْزًا كبيرًا في الانتخابات البرلمانية التي جرت في أبريل من العام الجاري؛ حيث تمكنت من الحصول على أكثر من 170 مقعدًا من أصل 300 مقعدٍ، في حين حقَّقَ حزب سلطة الشعب الحاكم حوالي 100 مقعدٍ فقط[2]، وبهذه النتيجة أصبحت المعارضةُ الكوريةُ شريكًا أساسيًّا في اتخاذ القرار، فضلًا عن إعاقتها لكثيرٍ من سياسات الرئيس.
٢-تراجُعٌ كبيرٌ في شعبية الرئيس
وسط الأزمة السياسية، المتمثلة في المواجهة المحتدمة بين المؤسسة الرئاسية والمعارضة، شهدت شعبية الرئيس الكوري تراجعًا كبيرًا؛ حيث تمثَّلَ ذلك في حصوله على أدنى نسبة تأييدٍ له منذ تولِّيه السلطة في مايو 2022؛ إذ حصل في آخر استطلاعات الرأي الذي أجريت منذ شهور قليلة على تأييد 19% فقط من إجمالي المشاركين في الاستطلاع[3]، ويعود ذلك إلى عدة عوامل، يأتي في مقدمتها، عدم الرضا الشعبي حول السياسات الاقتصادية الحكومية التي أدَّت إلى غلاء المعيشة وارتفاع أسعار السلع والخدمات، في ظل تكاليف السكن والضرائب، مع عدم اتباع الحكومة أساليب فعَّالة تساهم في تخفيف العِبْء على المواطنين؛ ما أدَّى في النهاية إلى انخفاض التأييد الشعبي إلى هذا الحدِّ غير المسبوق.
٣-فضائح سياسية متعلقة بدوائر الحكم
تصدر اسم زوجة الرئيس “كيم كيون هي” المشهد السياسي الكوري في أواخر العام 2023، وقبْل أشهر من الانتخابات البرلمانية في البلاد على خلفية تلقِّيها رشوةً من قسٍّ أمريكيٍّ على هيئة هدايا فاخرة[4]، ولم تمُر هذه القضية مرور الكرام، بل كانت محلَّ شدٍّ وجذْبٍ كبيرٍ لدى الرأي العام الكوري، وفي مقدمتهم الحزب الحاكم، الذي انتقد هذه الواقعة. فضلًا عن هذا، أصدر البرلماني الكوري مشروع قانون يهدف إلى تعيين مدعٍ خاصٍّ؛ للتحقيق في ملابسات الواقعة، لكن هذا المشروع، حَالَ بينه وبين تنفيذه، استخدام الرئيس حقَّ النقض “الفيتو” لتعطيله. علاوةً على هذا، يواجه عددٌ من المسؤولين في حزب سلطة الشعب الحاكم، العديدَ من الاتهامات المتعلقة بالفساد واستغلال النفوذ.
٤-أجندة سياسة معطَّلة
مثَّلت ميزانية الحكومة للعام الجاري 2024، والتي جرى التصويت عليها في أواخر العام 2023، نقطة جدلٍ كبيرةٍ في السياسة الكورية الجنوبية[5]، ففي الوقت الذي سعت فيه الحكومة إلى زيادة الميزانية في ظل ما تشهده البلاد من أزمةٍ اقتصاديةٍ وإضرابات، من أبرزها إضراب العاملين في القطاع الطبي، عملت المعارضة على تعطيل مشروع زيادة الميزانية التي اقترحته الحكومة. وعلى الرغم من إقرار الميزانية بعد جولاتٍ كثيرةٍ من التفاوض والتعديلات على الميزانية؛ أدَّت إلى خفْض الميزانية في النهاية إلى نسبةٍ وافقت عليها المعارضة، إلَّا أن هذا يعكس حالةً كبيرةً من التوتُّر وعدم التوافُق بين طرفي العملية السياسية بشكلٍ أعاق الحكومة من تنفيذ أجندتها وخططها وحصر وجودها بين قيود المعارضة من ناحيةٍ، وتراجع الشعبية من ناحيةٍ أُخرى.
٥-تبايُن حول طبيعة الدور الكوري خارجيًّا
تبنَّى الرئيس يون سوك يول نهْجًا متماشيًا مع السياسات الأمريكية حِيَالَ كوريا الشمالية والصين وروسيا؛ حيث أكَّد في العديد من تصريحاته على أهمية تعزيز التحالُف بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة في مواجهة التحديات الإقليمية والعالمية[6]، وفيما يتعلق بكوريا الشمالية، دعم يون نهْجًا قويًّا يتضمن المزيد من التعاون العسكري والاستخباراتي مع واشنطن؛ للرَّدِّ على التهديدات النووية والصاروخية من بيونج يانج. كما أكَّد على أهمية التصدِّي للنفوذ الصيني في المنطقة، خصوصًا في مجال الأمن والسياسة الاقتصادية، مع الحفاظ على علاقة اقتصادية إستراتيجية مع الصين، أمَّا في ما يخُصُّ روسيا، فقد تبنَّى يون مواقف قريبة من المواقف الأمريكية في دعم العقوبات ضد موسكو على خلفية حربها في أوكرانيا؛ ما يعكس تبنِّي كوريا الجنوبية لسياسةٍ متوافقةٍ مع الولايات المتحدة على الصعيديْن الأمني والدبلوماسي. في المقابل، تتخذُ المعارضة الكورية موقفًا أقلّ ميْلًا للرُّؤْية الأمريكية، وتجد أنه من الأفضل أن تُعزِّز البلاد علاقاتها مع حلفائها الإقليميِّين على أن تنحاز للمعسكر الغربي بشكلٍ مفرطٍ ضد دول جوارها في صراعات لا تعتبر كوريا طرفًا رئيسيًّا فيها، وفي قضايا لا تمسُّ مصالحها المباشرة.
مزاعم تدخُّل كوريا الشمالية
في خطابه الذي أعلن فيه عن فرْض الأحكام العُرْفية، أكَّد الرئيس عزْمه على القضاء على القُوَى المؤيدة لكوريا الشمالية والمناهضة للدولة وحماية النظام الدستوري. وعلى الرغم من إشارته إلى تلقِّي المعارضة دعْمًا من الجارة الشمالية، إلَّا أنه لم يقدم ما يثبت صحة هذه الادعاءات، كما لم يصدر أيُّ ردٍّ رسميٍّ من بيونج يانج – حتى هذه اللحظة – ينفي أو يؤكد هذه المزاعم، وبغضِّ النظر عن صِدْق هذه المزاعم من عدمه، فإنه بالنظر إلى المشهد السياسي الداخلي في كوريا الجنوبية وما يشهده من حالة انقسامٍ كبيرةٍ، فإن هذه الحالة ناتجة عن العملية الديمقراطية التي شهدتها البلاد، سواء على مستوى المؤسستيْن التنفيذية أو التشريعية؛ حيث نتج عن الانتخابات الرئاسية فوْز الرئيس يون بهامشٍ ضئيلٍ، كما نتج عن انتخابات الجمعية الوطنية فوْز المعارضة وامتلاكها عدد المقاعد الذي يُؤَهِّلُها من إعاقة أجندة الرئيس، وهو ما حدث بالفعل، إلَّا أن الشيء المؤكد، أنه لم يتم رصْد أيِّ تدخُلٍ خارجيٍّ يهدف لدعم المعارضة، من خلال التأثير في نتائج الانتخابات أو خلافه، كما أنه لا يمكن اعتبار موقف المعارضة الذي قد يرى أن ثمَّةَ مبالغةً من قِبَلِ السلطة الحاكمة في تعظيم التحالف مع الولايات المتحدة ودعم سياستها الخارجية على حساب العلاقات مع الجيران الإقليميين دليلًا على تلقِّي المعارضة دعمًا خارجيًّا، وتصويرها بالعامل الذي يهدف إلى تقويض الدولة، بل يأتي هذا التبايُن بين رُؤْية الحكومة ورؤية المعارضة كأيِّ تبايُنٍ طبيعيٍّ بين معسكريْن حزبيِّيْن في السَّاحة السياسية، كما هو حادث بالفعل في الولايات المتحدة من اختلافٍ حول رُؤْية الحزبيْن “الديمقراطي، والجمهوري”، حول قضية الدعم الموجَّه لأوكرانيا بين الاستمرار في تقديم المزيد من الدعم من ناحيةٍ، وإعادة النظر فيه من ناحيةٍ أُخْرَى. وفي جميع الأحوال، فإنه من المتوقع أن تتيح هذه الأحداث لكوريا الشمالية الفُرْصة لتوجيه الانتقادات للنموذج الديمقراطي الكوري الجنوبي المدعوم من واشنطن، وهو أمر معتاد منها في مثل هذه الأوقات، لا سيما في الفترة الأخيرة.
غموض الموقف الأمريكي
تبنَّت الولايات المتحدة موقفًا حَذِرًا تِجَاه التطوُّرات الأخيرة في كوريا الجنوبية؛ حيث أكَّدت على أهمية الحفاظ على الاستقرار السياسي هناك[7]، ومع ذلك، كان الموقف الأمريكي يعكس أيضًا القلق من تأثير هذه التطوُّرات على العلاقة بين واشنطن وسول، خاصَّةً فيما يتعلق بالتحالف العسكري والاقتصادي بين البلديْن، فبينما تسعى الولايات المتحدة لدعم كوريا الجنوبية في مواجهتها مع التهديدات من كوريا الشمالية، فهي أيضًا تدعو إلى تجنُّب أيِّ توتُّرات داخلية قد تؤثر على تحالفهما، في هذا السياق، فإن شيئًا من الغموض يدور حوا معرفة واشنطن المُسْبَقة، حول ما أقدمت الرئاسة الكورية على فعله، وما إذا كان ما حدث قد جاء نتيجةً لتنسيقٍ مع الإدارة الأمريكية؛ لضرْب المعارضة التي تعوق تنفيذ سياسات الرئيس يون، لا سيما في الوقت الراهن، الذي تحتاج فيه واشنطن لدعم كوريا الجنوبية العسكري لأوكرانيا، تماشيًا مع النَّهْج الهادف إلى تحسين الموقف التفاوضي لـ “كييف” قبْل مجيء إدارة ترامب، خصوصًا وأن البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة لديه من الصلاحيات ما يمنع هذه المساعي المستهدفة من قِبَلِ البيت الأبيض.
وبالعودة إلى التصريحات الأمريكية، فإنه لم يُشِرْ من قريبٍ أو من بعيدٍ إلى أن ما حدث جاء برعايةٍ أمريكيةٍ، لكن من المرجح، أن يكون لدى الإدارة الأمريكية علمٌ، وربما إذْنٌ قبْل اتخاذ هذه القرارات، خصوصًا وأن والرئيس الكوري الجنوبي حليف مهم بالنسبة لواشنطن، فضلًا عن حِرْصه منذُ تولِّيه الرئاسة على توثيق هذا التحالف؛ لذا فإنه من غير المتوقع أن يُقْدِمَ على خطوةٍ كبيرةٍ كهذه -حتى وإن تراجع عنها- بدون تنسيق مع الإدارة الأمريكية، باعتبارها الحليف الأول له من ناحية، وباعتبار كوريا الجنوبية حليفًا أساسيًّا للولايات المتحدة، في سياق صراعاتها متعددة الأوْجُه مع كوريا الشمالية والصين وروسيا من ناحيةٍ أُخرى.
ماذا بعد إلغاء قرارات الرئيس؟
على الرغم من إقدام الرئيس الكوري الجنوبي على إلغاء قرارته المثيرة للجدل، إلَّا أنه لا يبدو أن المسألة قد انتهت عند هذا الحدِّ، بل إن ما حدث هو بدايةٌ لسلسلةٍ من التطوُّرات التي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى إجبار الرئيس- تحت تأثير الضغوط الشعبية والحزبية – إلى الاستقالة أو عزْله، من خلال استخدام الجمعية الوطنية حقّها، المتمثل في التصويت على عزْله، من خلال تأييد ثلثيْ المجلس ذلك، ولا يتعلق الحديث عن أمور كالاستقالة أو العزْل بالتكهُّنات المستقبلية، بل ظهرت على الأرض – بالفعل – العديد من المؤشرات التي تدعم هذيْن المساريْن؛ حيث أدَّت الأحداث الأخيرة إلى إظهار الرئيس وحيدًا في مواجهة الجميع، بدايةً من حزبه الحاكم الذي اعترض على قراراته، والذي يطالبه حاليًا بالاستقالة من الحزب، فضلًا عن وزير الدفاع الذي على الرغم من تنفيذه أوامر فَرَضَ الأحكام العُرْفية، إلا أنه سارع وتقدَّمَ باستقالته، وكذلك قيام الأجهزة الشرطية بالتحقيق مع الرئيس بتهمة التمرُّد، بالإضافة إلى دور الجمعية الوطنية، وبالتحديد الحزب الديمقراطي المهيمن على الأغلبية البرلمانية، والذي يسعى حاليًا إلى تمرير مشروعٍ يهدف إلى عزْل رئيس.
ختامًا:
يمكن القول: إن الاضطرابات السياسية الداخلية التي واجهها الرئيس الكوري الجنوبي، المتمثلة في مواجهته لمعارضةٍ شَرِسَةٍ هي المُحفِّز الأول لاتخاذه القرارات الأخيرة، وذلك على الرغم من المبرِّرات التي قدَّمها، والتي جعلت من المعارضة وكوريا الشمالية حليفيْن يهدفان إلى العَبَثِ باستقرار البلاد، وأمام إلغاء الرئيس لقراراته تلك، لا يبدو أن الأمر قد توقَّف عند هذا الحدِّ، خصوصًا في ظل مطالبات شعبية وحزبية كبيرة تنادي بتخلِّيه عن منصبه، فإنه ليس من المستبعد أن يؤدي ذلك إلى استقالة الرئيس، أو ربما عزْله من قِبَلِ الجمعية الوطنية في حالة نجاحها في تحقيق الأغلبية المطلوبة، وهو ما ستسفر عنه الأيام القليلة القادمة.
المصادر:
[1] Yoon Suk-yeol’s rise from rebel prosecutor to president, East Asia Forum, 23/4/2022
