في خضِمّ التحولاتِ الجديدةِ على الساحة السورية، والتي أبرزتْ تناميَ النفوذ التركي محل النفوذ الإيراني والروسي في سوريا، دخلت فرنسا بشكلٍ غير متوقع على خط المواجهة والتنافس مع تركيا، بإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده لن تتخلى عن حلفائها المقاتلين الأكراد، وأن باريس سترافقُ العمليةُ الانتقاليةُ في سوريا من أجل قيام “سوريا حرة” تحترمُ تعدديتَها الإثنية والسياسية والطائفية. وقد أثارت تلك التصريحات غضب أنقرة، التي أعلنت على لسان وزير خارجيتها هاكان فيدان رفضها لأيِّ دورٍ للقوات الفرنسية في سوريا.
وقد تزامنَ هذا التصعيدُ مع تزايد احتمالات شنِّ تركيا لعمليةٍ عسكريةٍ جديدةٍ في شمال سوريا بالتعاون مع الجيش الوطني السوري الموالي لها، ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي تحظى بدعمٍ غربيٍ خاصة من فرنسا التي تُعدُ من أبرزِ الدول المشاركة في التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” ولها وجودٌ عسكريٌ في شمال شرق سوريا.
يمثلُ التنافسُ التركي-الفرنسي على الساحة السورية في أحد جوانبه تهديدًا للأمن الإقليمي، خصوصًا في ظل تعقُّد المصالح المتداخلة في المنطقة. فمن جهة، تسعى أنقرة إلى تأمين حدودها الجنوبية من التهديدات الكردية، ومن جهةٍ أخرى، تواصلُ باريس دعمَ القوى الكردية المسلحة تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، وأصبح يشكلُ مصدرًا لعدمِ الاستقرار في سوريا، ويزيدُ من تعقيد المشهد الأمني في منطقة الشرق الأوسط.
سياقاتٌ راهنةٌ للنفوذ التركي- الفرنسي على الساحة السورية:
تواجهُ سوريا في الوقت الراهن تحولاتٍ سياسيةً وعسكريةً، إلى جانب تغيّر في موازين القوى الفاعلة على الأرض، وفي هذا الإطار يبرزُ التنافس التركي-الفرنسي على الساحة السورية، حيث تتقاطعُ مصالح الدولتين وتتعارض في مناطق النفوذ لا سيما في ظل الصراع المستمر بين الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا وقوات “قسد”، مما يُسهم في تعميقِ التوتراتِ على الصعيدين المحلي والإقليمي، ويؤثرُ بشكلٍ كبيرٍ على الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط.
على الجانب التركي، تُعد أنقرة من أبرز الأطراف الساعيةِ إلى إعادةِ تشكيلِ المشهد السوري بما يحققُ أهدافها الاستراتيجية، فقد استفادتْ بشكلٍ كبيرٍ من الظروف السياسية والعسكرية الراهنة لتعزيز نفوذها العسكري والسياسي، كدعم سيطرة القيادة الجديدة ممثلة بـ”هيئة تحرير الشام” في دمشق، بالإضافة إلى مساعدة “الجيش الوطني السوري” على توسيع نفوذه والاستيلاء على مناطقَ كانت ضمن سيطرة قوات “قسد”.
تركزُ التحركاتُ التركيةُ الحالية، لا سيما حول منطقة سد تشرين، على فتح الطريق نحو مدينتي عين العرب (كوباني) والرقة، ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى إضعاف “قسد” وتحييد خطرها على الأمن القومي التركي، وضمان تقليص دورها في مستقبل سوريا، كما ازدادَ المشهدُ تعقيدًا مع إعلان “قسد” رفضها الانضمام إلى الجيش السوري الجديد إلا ككتلة موحدة، وليس على مستوى الأفراد، وهو موقف أثار اعتراض دمشق وقلق أنقرة في آنٍ معًا.
في المقابلِ، تسعى فرنسا لتعزيزِ حضورها في المشهد السوري من خلال تبنّي سياسةٍ داعمةٍ لقوات “قسد”، التي تعتبرها شريكًا أساسيًا في جهود مكافحة الإرهاب، وخاصة في إطار التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، وقد عززت دعمها لـ”قسد” عبر تزويدها بطائراتٍ مسيّرة، استُخدمت مؤخرًا في استهداف فصائل “الجيش الوطني” في مناطق سد تشرين وجسر قرقوزاق بريف حلب الشرقي، كما شجّعت شخصيات معارضة على الانضمام إلى مجلس سوريا الديمقراطية، في محاولةٍ لتشكيلِ منصةٍ سياسيةٍ مشتركةٍ يمكنها المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني المتوقع انعقاده في دمشق، وهذه الخطوات عكست رؤية فرنسا لدور أكثر فعالية في صياغة مستقبل سوريا، لكنها في الوقت ذاته أثارت استياء أنقرة، التي تعتبر الدعم الفرنسي لـ”قسد” عاملاً يزيد من تعقيد الأوضاع ويُشكل تهديدًا مباشرًا لمصالحها.
المصالحُ والأهدافُ التركيةُ والفرنسية في سوريا:
ترى فرنسا أن لها إرثًا تاريخيًا في سوريا يعود إلى فترة الانتداب الفرنسي (1920-1946) وتعتبر الشرق الأوسط منطقة نفوذ تقليدي لها، مما يدفعها إلى الحرص على الحفاظ على دورها الإقليمي. في المقابل، تسعى تركيا إلى إعادة بناء نفوذها التاريخي المستمد من الحقبة العثمانية في المنطقة، بما في ذلك سوريا، مما يضعها في حالةِ تنافسٍ مباشرٍ مع فرنسا، التي ترى في هذه التحركات تحديًا لدورها.
وخلال السنوات الأخيرة، ظهرتْ خلافاتٌ بارزةٌ بين أنقرة وباريس حول العديد من المصالح الاستراتيجية لكل منهما، من أبرزها محاولةُ تركيا ملء الفراغ الذي تركته فرنسا بعد انسحابها من منطقة غرب إفريقيا، لا سيَّما في دول الساحل الإفريقي، بالإضافة إلى ذلك دعمت فرنسا اليونان في مواجهة تركيا بشأن التنقيب عن الغاز في المياه المحيطة بقبرص وعددٍ من الجزر اليونانية، كما دعمت باريس أرمينيا في صراع ناجورني كاراباخ، بينما وقفت أنقرة إلى جانب أذربيجان. وفي ليبيا، انقسم الدعم بين البلدين؛ حيث دعمتْ فرنسا معسكر الشرق، في حين قدمت تركيا دعمهَا لمعسكرِ الغرب. بالتالي، يُعد التنافس التركي-الفرنسي في سوريا امتدادًا لصراعٍ أوسع على النفوذ الإقليمي والدولي، حيث تتباين مصالح وأهداف البلدين.
المصالحُ التركية في سوريا
تركيا، بحكمِ موقعها الجغرافي وحدودها الطويلة مع سوريا، ترى في الصراع السوري تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، أبرز هذه التهديدات يتمثل في القضية الكردية، حيث تعتبرُ أنقرة أن تنامي نفوذ التنظيمات الكردية المسلحة يشكل خطرًا استراتيجيًا، كما أن هذا النفوذ الذي تعززه التحالفات الدولية مع فرنسا والولايات المتحدة، يثيرُ مخاوفَ أنقرة من احتمال قيام كيانٍ كرديٍ مستقل على حدودها الجنوبية، مما قد يعززُ النزعةَ الانفصاليةَ داخل أراضيها، خصوصًا في المناطق ذات الأغلبية الكردية.
لذلك، اعتمدتْ تركيا سياسةَ التدخلِ العسكري المباشر، وأطلقت عدة عمليات عسكرية منذ عام 2016 “درع الفرات”، و”غصن الزيتون”، و”نبع السلام”، وكان الهدفُ المُعلنُ لهذه العمليات هو مكافحةَ الإرهاب، بينما يتمثلُ الهدفُ غير المُعلنِ في إنشاء منطقة آمنة يُعاد فيها توطين اللاجئين السوريين في المناطق الخاضعة لسيطرة “الجيش الوطني السوري”، إضافة إلى تفكيك أي تواصل جغرافي بين المناطق ذات الأغلبية الكردية، وهذه الاستراتيجية لم تكنْ مجرد ردّ فعلٍ أمنيٍ، بل شكلت جزءًا من رؤية تركية لتعزيز نفوذها الإقليمي وتثبيت نفسها كفاعل رئيسي في مستقبل سوريا السياسي.
إلى جانب ذلك، استثمرت أنقرة في دعم المعارضة السورية المسلحة، التي اعتبرتها حليفًا استراتيجيًا لها في مواجهة النظام السوري السابق والتنظيمات الكردية، كما سعت إلى تحقيق أهداف أيديولوجية تعزز نفوذها داخل العالم الإسلامي، حيث دعمتْ جماعات ذات طابع إسلامي معتدل بالتزامن مع ممارسة ضغوطٍ على قيادة هيئة تحرير الشام لتغيير نهجها المتشدد نحو مقاربات تتوافق مع القيم الديمقراطية، وذلك في إطار طموح أنقرة لتولي دور قيادي في العالم الإسلامي عبر خطاب يدعو إلى دعم الشعوب المظلومة ومواجهة الأنظمة الاستبدادية.
المصالحُ الفرنسية في سوريا
في المقابل، تتبنّى فرنسا مقاربةً مختلفةً للصراع السوري تعكسُ مصالحها التاريخية والجيوسياسية، حيث تُعد مكافحة الإرهاب الهدف الأساسي للسياسة الفرنسية في سوريا، خاصة في ظل التهديدات التي شكلها تنظيم “داعش” على أوروبا، والهجمات الإرهابية التي استهدفت مدنًا فرنسية. من هذا المنطلق، انخرطت باريس في التحالف الدولي لمحاربة “داعش” وقدمت دعمًا كبيرًا لقوات سوريا الديمقراطية، التي تتألفُ بشكلٍ رئيسيٍ من المقاتلين الأكراد، ورأت فرنسا في هذه القوات شريكًا موثوقًا يمكن الاعتماد عليه لاستقرار المناطق المحررة من “داعش”، على الرغم من المعارضة التركية لهذا الدعم.
علاوةً على ذلك، تسعى فرنسا إلى استعادة نفوذها التقليدي في الشرق الأوسط، معتبرة أن الأوضاعَ الحاليةَ في سوريا تُمثلُ مفتاحًا لاستعادة مكانتها كلاعبٍ مؤثرٍ في المنطقة، وكرد فعل على السياسات التركية التي اتبعتها ضد المصالح الفرنسية، خاصة في القارة الإفريقية. بناءً على ذلك، تعمل باريس على تعزيز وجودها الدبلوماسي والإنساني، مع السعي إلى دعم الأقليات الدينية والإثنية في سوريا، مثل الأكراد والدروز والمسيحيين.
وفي هذا الإطار، تعتزمُ باريس عقْدَ مؤتمرٍ دوليٍ حول سوريا في 13 فبراير المقبل يجمع أطرافًا دولية وإقليمية بهدف تشكيل رؤية موحدة حول مستقبل البلاد بعد سقوط نظام الأسد، كما تسعى إلى وضع خريطة طريق جديدة تشمل إعادة بناء المؤسسات السورية ومواجهة التحديات الأمنية وتعزيز الاستقرار، وهذه الخطوة تعكسُ محاولةَ باريس لبناءِ تحالفاتٍ جديدةٍ وإعادة توزيع الأدوار، لكنه يتطلب دعمًا أوروبيًّا ودوليًّا قويًّا لضمان نجاحه، كما أنه ومن خلال دعوة “هيئة تحرير الشام” إلى الحوار، تسعى فرنسا إلى إضعاف النفوذ التركي وتقديم نموذج أكثر استقرارًا للعلاقات الدولية.
تداعياتُ التنافس على الأمن الإقليمي:
1- التنافسُ بين تركيا وفرنسا في سوريا قد يؤدي إلى تعميق الانقسامات بين الفصائل السورية المختلفة، كما يزيد من حدة الخلافات المستمرة بين المكونات السورية، خاصة بين الجيش الوطني السوري والإدارة السورية الجديدة من جهة، وقوات سوريا الديمقراطية من جهةٍ أخرى، وهذا التنافس قد يتسببُ في تعطيل مسارات التوصل إلى حلول حول تشكيل الجيش السوري الجديد وعقد الحوار الوطني السوري المرتقب.
2- تزايدُ التنافسِ الإقليميِ والدولي على الساحة السورية يحوّل البلادَ إلى ساحةٍ لتصفيةِ الخلافات والحسابات، حيث تحاول فرنسا النفاذ الى سوريا لمل الفراغ الناتج عن الانسحاب الروسي المحتمل من سوريا، وهو ما يشكّلُ ردَّ اعتبارٍ لباريس على خلفية نفس السياسة التي اتبعتها موسكو في أفريقيا لمل الفراغ الذي تركته باريس. بالتالي، قد تلجأ روسيا إلى عقد صفقة مع الإدارة السورية الجديدة تضمن بقاء قواعدها في الساحل السوري، مقابل تقديم دعم في مجالات حيوية لإعادة بناء الدولة وربما الجيش السوري الجديد.
3- استغلالُ العناصر الإرهابية لمُجرياتِ الخلافات والتنافس وللمواجهات المسلحة بين المكونات السورية، من أجل إعادة تنشيطها وشنِّ هجماتٍ إرهابيةٍ جديدة، أو فتح مسارات هروب نحو بؤر جديدة أخرى في المنطقة، حيث أن غياب التنسيق الإقليمي يتيح لتلك التنظيمات فرصة لإعادة تنظيم صفوفها وتهديد الأمن الإقليمي.
4- قد تحاولُ إيران وروسيا استغلالَ الخلافاتِ التركية-الفرنسية لتصعيد التوترات في الداخل السوري، عبر احتمالية قيام طهران بتقديم دعم عسكري لقوات سوريا الديمقراطية عبر حزب العمال الكردستاني، بينما قد تقدم موسكو دعمًا للعلويين في الساحل المناوئين لدمشق، وهذه التحركاتُ من شأنها أن تُعيدَ سوريا إلى دائرة النزاعات والفوضى وحالة عدم الاستقرار.
5- استغلال إسرائيل لحالةِ عدمِ استقرار الأوضاع الأمنية في الداخل السوري لتعزيز سيطرتها واحتلالها لمزيد من الأراضي السورية، بهدف تشكيل منطقة عازلة تُسهم في حماية أمنها الداخلي.
6- عدمُ التوافق الدولي حول مستقبل سوريا يضعف من فرص بناء حكومة مركزية قوية قادرة على فرض الأمن والاستقرار في جميع أنحاء البلاد.
خلاصة القول:
استمرارُ التنافسِ التركي الفرنسي في الملف السوري يضعُ المنطقةَ أمام تحديات كبيرة، حيث قد يُعيق أيَّ تقدمٍ في المساعي الرامية إلى تحقيق استقرار دائم في سوريا، من خلال تعميق انقسامات المكونات السورية المختلفة، مما قد يُفضي إلى إطالة أمد الأزمة السورية، ويفاقم من معاناة الشعب السوري، كما لا يمكن إغفال تداعيات هذا التنافس على الأمن الإقليمي بشكل أوسع، حيث إن التوتراتِ المتزايدةَ بينهما تساهمُ في تصعيد الأوضاع الأمنية، مما ينعكسُ سلبًا على دول الجوار مثل العراق ولبنان، كما يمكن أن يؤديَ إلى تهديد التوازنات السياسية في تلك الدول، ويخلقُ ظروفًا غير مستقرةٍ يمكن أن تكونَ بيئةً خصبةً لانتشار الفوضى. بالتالي، تظلُ الحاجةُ إلى التعاون الدولي المستمر وتقديم التنازلات أمرًا بالغ الأهمية لتحقيقِ الأمنِ والاستقرار في المنطقة.
