المقالات
التنافس الجيوسياسي في عصر الذكاء الاصطناعي
- فبراير 16, 2025
- Posted by: hossam ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية

مصطفى مقلد
باحث فى العلوم السياسية
مقدمة:
يشهد العالم سباقًا محمومًا في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث تتنافس القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين، للهيمنة على هذه التكنولوجيا التي أصبحت عنصرًا حاسمًا في الاقتصاد والأمن القومي حيث يعيد تشكيل الأسواق وتوازن القوى العالمية، مؤثرًا في النمو والإنتاجية والمنافسة والدفاع والثقافة، ومع تصاعد الاستثمارات الضخمة، مثل مشروع “ستارغيت” الأمريكي، وظهور شركات ناشئة مثل “ديب سيك” الصينية، ويؤثر هذا السباق على النظام العالمي بما يحمله من تداعيات جيوسياسية لهذه المنافسة المتسارعة.
فالسباق نحو الهيمنة على الذكاء الاصطناعي يعمل على تكثيف التنافسات الجيوسياسية، حيث تسعى البلدان إلى تسخير إمكانات الذكاء الاصطناعي لتحقيق الميزة الاقتصادية والتفوق التكنولوجي والتأثير على المعايير العالمية. إن الذكاء الاصطناعي التوليدي يؤدي إلى تفاقم التوترات حول سيادة البيانات وحقوق الملكية الفكرية والاعتماد التكنولوجي على الأسواق شديدة التركيز، مثل أشباه الموصلات الراقية والعناصر الأرضية النادرة.[1] مما يؤدي إلى استخدام أدوات مثل العقوبات وضوابط التصدير والسياسات الصناعية لتعزيز التفوق التقني.
تطورات متسارعة:
بدا عام 2025 منذ بدايته عامًا حافلًا في مجال الذكاء الاصطناعي مع استثمارات ضخمة، ففي يناير، أعلنت الصين عن إنشاء صندوق استثماري في الذكاء الاصطناعي ردًا على ضوابط التصدير الأمريكية، كما أعلن ترامب عن مشروع “ستارجيت” الذي سيستثمر 500 مليار دولار في تطوير البنية التحتية للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، وفي وقت لاحق من الشهر، أحدث نموذج الذكاء الاصطناعي الصيني Deepseek”” منخفض التكلفة ضجة في السوق، متسببًا في خسارة شركةNVIDIA” ” 600مليار دولار من قيمتها السوقية. وتكشف هذه الأحداث أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتطور بموارد أقل، ما يثير تساؤلات حول فعالية الضوابط الأمريكية.[2]
من ناحية أخرى، أنهى ترامب أساليب بايدن لتنظيم الذكاء الاصطناعي، وألغى أمرًا تنفيذيًا بشأن الذكاء الاصطناعي الآمن والجدير بالثقة والذي كان يُفهم على أنه مخطط لنهج الولايات المتحدة في إدارة الذكاء الاصطناعي على المستوى المحلي والعالمي على أساس مواجهة المخاطر. وهو ما يبرز تحولًا في إدارة التكنولوجيا بالولايات المتحدة، مع تركيز أكبر على القطاع الخاص، وفي الوقت نفسه، يشير نطاق ستارجيت إلى التقارب المتزايد بين الأمن القومي والبنية التحتية ومصالح قادة التكنولوجيا وهو ما يمثل تحديًا لأوروبا في ظل فرص قيادة محدودة.[3]
صعود :”Deepseek”
في عام 2023، أثار المشرعون الأمريكيون مخاوف جدية بشأن الاستثمارات الصينية الكبيرة في مجالات الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، معتبرين أن هذه الاستثمارات قد تُضعف التفوق الغربي في مجال الذكاء الاصطناعي على المدى الطويل. ونتيجة لذلك، ظهرت مطالبات بفرض حظر على تقنيات الرقائق “مفتوحة المصدر” التي لا تحكمها قيود ملكية فكرية صارمة، خشية أن تساهم في تسريع التقدم الصيني في مجال الذكاء الاصطناعي. لكن بحلول ذلك الوقت، كان التقدم الصيني في هذا المجال قد بلغ مرحلة متقدمة.[4]
فقد أدى الظهور المفاجئ لشركة DeepSeek، وهي شركة صينية ناشئة لم تكن تحظى بشهرة كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي، إلى إعادة تقييم كبير للقيمة السوقية لعمالقة التكنولوجيا الأمريكية المتخصصة في هذا المجال. وتزعم DeepSeek أنها قادرة على تحقيق ما تفعله شركة OpenAI الرائدة رغم اعتمادها على استثمارات أقل بكثير وعدم امتلاكها لأحدث رقائق الكمبيوتر المحظورة بموجب قيود التصدير الأمريكية. وتشير هذه التطورات بوضوح إلى أن تفوق الولايات المتحدة في الذكاء الاصطناعي لم يعد أمرًا محسوما. وعلى الرغم من تداعيات هذا التغيير، إلا أنه يعكس جانبًا إيجابيًا يتمثل في إمكانية امتلاك دول أخرى لمنصات ذكاء اصطناعي محلية، مما يعزز التنافسية العالمية في هذا المجال.
ويساهم ذلك الصعود في توسيع الصين نطاق “سياستها الجيوتكنولوجية” بعد أن أصبح الذكاء الاصطناعي ساحة تنافس رئيسية للقوة العالمية، حيث يسهم في تعزيز الاقتصاد والقدرات العسكرية ورفع كفاءة الخدمات العامة.
ومع ذلك، لا يخلو الأمر من بعض الجوانب السلبية. فمن الناحية التقنية، لا يمكن اعتبار DeepSeek منافسًا مباشرًا لمنصات الذكاء الاصطناعي الأمريكية، حيث يركز بشكل أساسي على تحسين النماذج القائمة بدلاً من تطوير نماذج جديدة قادرة على مجاراة الابتكارات الرائدة في الولايات المتحدة. ورغم أن تحسين النماذج يمثل خطوة مهمة ومفيدة، إلا أنه لا يغني عن الحاجة إلى تطوير تقنيات مبتكرة بالكامل.
بمعنى آخر، نجحت DeepSeek في خفض تكاليف الحوسبة بشكل كبير وابتكار هياكل أكثر كفاءة تقلل الفجوة بين النماذج الصغيرة والكبيرة، لكنها لم تتمكن من تجاوز “قانون القياس”، الذي ينص على أن النماذج الأكبر عادة ما تحقق أداءً أفضل. وبالتالي، تظل الموارد المالية الضخمة عاملاً حاسمًا في الهيمنة التكنولوجية.
حظر “Deepseek“:
تخزن شركة DeepSeek بيانات المستخدمين على خوادم تقع داخل الصين، وفقًا لسياسة الخصوصية الخاصة بها. وقد أثار هذا الأمر مخاوف كبيرة، خاصة مع وجود قوانين صينية تفرض على الشركات التعاون مع أجهزة الأمن القومي. وأشار مركز Soufan، وهو منظمة غير ربحية تركز على قضايا الأمن العالمي، إلى أن هذا الجمع المكثف للبيانات قد يوفر فرصًا كبيرة للحكومة الصينية لاستخدامها في أغراض استخباراتية. بالإضافة إلى ذلك، تفتقر DeepSeek إلى آليات فعالة لمراقبة وإزالة المحتوى غير الدقيق، مما يزيد من المخاوف المتعلقة بموثوقية التطبيق. [5]
لذا واجهت DeepSeek إجراءات حظر وتدقيق في عدة دول. ففي إيطاليا، تم حظر التطبيق على مستوى البلاد اعتبارًا من يناير 2025، بينما فرضت تايوان حظرًا على استخدامه في الوكالات الحكومية. كما اتخذت دول مثل أستراليا، كندا، هولندا، كوريا الجنوبية إجراءات مماثلة بسبب مخاوف تتعلق بنقل البيانات عبر الحدود وأمن المعلومات. في الولايات المتحدة، حظرت وكالات مثل ناسا والبنتاجون استخدام التطبيق، وأصدرت البحرية الأمريكية حظرًا شاملاً على أفرادها من استخدامه “بأي صفة”.
وفي الولايات المتحدة، تدرس إدارة ترامب فرض قيود تصدير أكثر صرامة على تقنيات الذكاء الاصطناعي لمنع استخدامها في تعزيز القدرات العسكرية والاستخباراتية الصينية، وقد تؤدي القيود الأكثر صرامة إلى تعميق الفصل التكنولوجي، مما قد يدفع الصين إلى بناء سلاسل توريد مستقلة للذكاء الاصطناعي وتقليل اعتمادها على التكنولوجيات الغربية. كما قدم السناتور الجمهوري “جوش هاولي” مشروع قانون يقترح حظر استخدام التطبيقات وتقنيات الذكاء الاصطناعي الصينية، مع فرض عقوبات صارمة على المخالفين تصل إلى السجن وغرامات تبلغ مليون دولار. إذا تم تمرير هذا القانون، ستكون الولايات المتحدة ثاني دولة تفرض حظرًا كاملًا على التطبيق بعد إيطاليا. وفي أوروبا، تقوم سلطات حماية البيانات في بلجيكا وفرنسا وأيرلندا بالتحقيق في كيفية تعامل DeepSeek مع البيانات الشخصية، مما قد يؤدي إلى حظر التطبيق في هذه الدول أيضًا.[6]
البيئة التنافسية:
بينما تعتمد الولايات المتحدة على نموذج السوق المفتوحة لتعزيز الابتكار السريع، يركز الاتحاد الأوروبي على تطوير ذكاء اصطناعي أخلاقي عبر لوائح صارمة، فيما تسعى الصين لتحقيق السيادة الرقمية من خلال رقابة الدولة وتوطين البيانات. وقد تواجه الصين مزيدًا من القيود الأمريكية على تصدير التقنيات والشراكات البحثية، مما قد يدفعها إلى تعزيز اكتفائها الذاتي. قد يؤدي هذا الفصل التكنولوجي إلى خلق بيئات ابتكارية موازية، على غرار الانقسام بين الشرق والغرب خلال الحرب الباردة.
وتلعب الدول المتوسطة مثل المملكة المتحدة والإمارات وإسرائيل واليابان وهولندا وكوريا الجنوبية وتايوان والهند دورًا محوريًا في دفع المزيد من الاستثمار والبحث والتطوير، وقد تشكل تحالفات ابتكارية مع القوى الكبرى.[7]
يساهم هذا التباين في تشكيل نظم بيئية رقمية منفصلة، حيث تواجه الشركات العالمية تحديات الامتثال التنظيمي وتضطر إلى تبني استراتيجيات إقليمية. كما أن صعود الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر، كما أظهر نموذج DeepSeek، يعزز اللامركزية التكنولوجية.[8]
أهداف جوهرية:
تشير تصريحات ديميس هاسابيس، رئيس قسم الذكاء الاصطناعي في “غوغل”، إلى أن السباق على تطوير الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد منافسة تقنية، بل تحول إلى معركة جيوسياسية كبرى. فالدول المتقدمة، خاصة الولايات المتحدة وحلفاءها، تسعى إلى الحفاظ على تفوقها في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال وضع معايير عالمية تعكس قيم الديمقراطية، الحرية، وحقوق الإنسان. هذا التوجه يعكس في جوهره قلق الغرب من فقدان السيطرة على المعايير التنظيمية إذا ما هيمنت الصين أو دول أخرى على هذا المجال.
تهيمن شركات التكنولوجيا الغربية الكبرى على البنية التحتية الرقمية في العديد من الدول النامية، لا سيما في أفريقيا، آسيا، وأمريكا اللاتينية. هذه الهيمنة تتجلى من خلال احتكار الأسواق، حيث تسيطر شركات مثل Google وMicrosoft وAmazon على تخزين البيانات، تطوير البرمجيات، والبنية التحتية السحابية، مما يجعل الاقتصادات النامية أكثر اعتمادًا على التكنولوجيا الغربية. بالإضافة إلى ذلك، فإن هذه الشركات تفرض معاييرها الخاصة على الإنترنت، مما يؤدي إلى تعزيز الثقافة الغربية وإضعاف المنافسة المحلية.
على الجانب الآخر، تحاول الصين تقديم نفسها كبديل للهيمنة الغربية، مستغلة التكنولوجيا كأداة دبلوماسية لتعزيز نفوذها العالمي. من خلال استراتيجيات مثل “الحزام والطريق التكنولوجي”، تقدم الصين بنية تحتية رقمية منخفضة التكلفة للدول النامية عبر شركات مثل Huawei وAlibaba، مما يمنحها موطئ قدم قويًا في الأسواق الناشئة. كذلك، تسعى بكين إلى تشكيل القواعد التنظيمية العالمية للذكاء الاصطناعي من خلال دعم مبادرات مثل “قرار الأمم المتحدة بشأن الذكاء الاصطناعي”، في محاولة لإعادة توجيه حوكمة الذكاء الاصطناعي وفقًا لمصالحها الاستراتيجية.
رغم أن الصين تروج لنفسها كداعم لتطوير الذكاء الاصطناعي عالميًا، إلا أنها تفرض قيودًا صارمة على استخدامه داخل أراضيها. فالشركات الصينية مثل DeepSeek ملزمة بالتقيد بالسرديات الرسمية للدولة، مما يحدّ من الشفافية ويثير الشكوك حول نوايا الصين في الأسواق التي تعتمد على حرية تدفق البيانات، مثل الولايات المتحدة وأوروبا. وبالتالي، فإن “الانفتاح المتحكم فيه” الذي تمارسه الصين قد يعيق انتشار تقنياتها في الأسواق التي تشترط معايير عالية للخصوصية والشفافية.
أصبح الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية أدوات رئيسية في سباق النفوذ الجيوسياسي، حيث تحل التكنولوجيا محل القوة العسكرية والتدخلات التقليدية كوسيلة أكثر فاعلية للسيطرة. الدول التي تهيمن على تقنيات الذكاء الاصطناعي تتحكم ليس فقط في مستقبل الاقتصاد، ولكن أيضًا في أنظمة الأمن، التجارة، والإعلام. كما أن “التنظيم كأداة للهيمنة” بات استراتيجية واضحة، حيث تسعى كل من الولايات المتحدة والصين إلى فرض معاييرها التنظيمية عالميًا، مما يعزز نفوذها على المدى الطويل.
مواجهات مفتعلة:
يشير الصراع بين الولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي إلى أنه لم يعد مجرد منافسة اقتصادية، بل أصبح سلاحًا جيوسياسيًا يُستخدم للضغط والتأثير على موازين القوى العالمية. فرضت إدارة ترامب رسومًا جمركية بنسبة 15% على المنتجات الصينية في محاولة لتقييد نمو القطاع التكنولوجي الصيني. في المقابل، ردّت الصين بفرض قيود على بعض منتجات “غوغل”، بالإضافة إلى دعم مشروعات محلية مثل “ديب سيك” لمنافسة الشركات الأمريكية. يعكس هذا التصعيد كيف أن الحماية التجارية أصبحت أداة رئيسية في معركة السيطرة على التكنولوجيا المستقبلية.
لم تعد الشركات التكنولوجية الكبرى كيانات اقتصادية محايدة، بل أصبحت تلعب دورًا استراتيجيًا في السياسة الخارجية للدول الكبرى، وظهر ذلك بوضوح عندما أعلنت “تشات جي بي تي” عن شراكة مع شركة عسكرية أمريكية لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي لصالح “البنتاغون”. كذلك، دخلت “أنثروبيك” في تعاون مع وكالات الاستخبارات والدفاع الأمريكية لتوفير أنظمة متقدمة لمعالجة البيانات. هذا التحالف بين التكنولوجيا والجيش يؤكد أن الصراع التكنولوجي لم يعد منفصلًا عن التنافس العسكري والأمني، بل أصبح عنصرًا حاسمًا في تعزيز النفوذ الجيوسياسي. [9]
إن فرض القيود المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة على الشركات التكنولوجية لا يهدف فقط إلى حماية الأسواق المحلية، بل يسعى أيضًا إلى إضعاف نفوذ الشركات المنافسة والسيطرة على تدفق البيانات والتكنولوجيا، وفي هذا السياق جاء دعم الصين لمشروع “ديب سيك” لبناء رؤية أوسع لإنشاء منظومة تكنولوجية مستقلة عن التأثير الأمريكي. بالمثل، تسعى الشراكات العسكرية الأمريكية مع شركات الذكاء الاصطناعي إلى ضمان استمرار الهيمنة الأمريكية في المجالات الأمنية والعسكرية عبر أحدث التقنيات الذكية.
هذه المواجهات المفتعلة بين الشركات الكبرى لها تأثيرات بعيدة المدى على الاقتصاد العالمي، إذ تؤدي إلى:
-
زيادة الحمائية الاقتصادية، مما يفرض مزيدًا من القيود على التجارة التكنولوجية بين الدول الكبرى.
-
تقسيم الأسواق العالمية، حيث تضطر الشركات إلى تطوير منظومات تكنولوجية منفصلة بدلاً من التعاون المشترك.
-
إضعاف التعاون العلمي والتكنولوجي، حيث يصبح تبادل الأبحاث والابتكارات بين الولايات المتحدة والصين أكثر تعقيدًا، مما يبطئ التقدم التكنولوجي عالميًا.
تأثيرات عميقة:
يجلب الذكاء الاصطناعي فرصًا هائلة لكل دولة، لكنه في الوقت نفسه يطرح تحديات جيوسياسية، فالتقاطع بين الذكاء الاصطناعي والأسلحة التقليدية، مثل الأسلحة النووية مثلا، يزيد من تعقيد المشهد الجيوسياسي، كما أنه تاريخيًا، كانت التحالفات أساس الحروب، لكن الذكاء الاصطناعي يُحدث انقسامات عالمية، حيث تسلك كل دولة مسارها الخاص في سباق الذكاء الاصطناعي ما قد يهدد استقرار التحالفات.[10]
المنافسة التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين على هيمنة الذكاء الاصطناعي ستكون لها عواقب سيئة على أوروبا. فمن المرجح أن يحدث انقسام إلى عالمين للذكاء الاصطناعي نتيجة لتشديد ضوابط التصدير، والانخفاض الحاد في التعاون العلمي والتنظيم. وبذلك لن تستطيع أوروبا، العمل في النظامين، مما يقلل من مكاسب الكفاءة المحتملة لتقدم الذكاء الاصطناعي. [11]
قمة باريس للذكاء الاصطناعي ودلالاتها الجيوسياسية
-
تعزيز مكانة فرنسا وأوروبا في سباق الذكاء الاصطناعي
انعقاد قمة “العمل في مجال الذكاء الاصطناعي” في باريس يومي 10 و11 فبراير يعكس طموح فرنسا لتعزيز دورها كلاعب رئيسي في هذا المجال. ركزت القمة على تطوير ذكاء اصطناعي مفتوح، شفاف، وأخلاقي، مع مراعاة الأطر الدولية والاستدامة التقنية، في محاولة لمواجهة هيمنة الولايات المتحدة والصين. كما شهد الحدث إطلاق استثمارات ضخمة بقيمة 300 مليار دولار، مما يعكس استعداد أوروبا للمنافسة بقوة في هذا القطاع المتنامي.
-
تحول تركيز القمة من المخاطر إلى الفرص الاقتصادية
على عكس القمم السابقة التي هيمنت عليها المخاوف من مخاطر الذكاء الاصطناعي، ركزت قمة باريس على الابتكار، خلق الوظائف، والفرص الاقتصادية.[12] هذا التحول يعكس إدراك أوروبا لضرورة تسريع التطوير التكنولوجي بدلاً من التركيز فقط على تنظيمه، حيث بدأت شركات مثل “ميسترال أي آي” في اتخاذ خطوات لتقليل الاعتماد على مزودي الخدمات الخارجيين، مما يعكس توجهاً نحو تعزيز الاستقلالية الرقمية الأوروبية.
-
تحالفات جديدة لتعزيز السيادة الأوروبية في الذكاء الاصطناعي
شهدت القمة إطلاق تحالف أوروبي لتعزيز السيادة التكنولوجية، يضم 60 شركة كبرى، مثل “إيرباص”، “سبوتيفاي”، و”لوريال”. كما أعلن قصر الإليزيه عن استثمارات تتجاوز 110 مليار يورو خلال السنوات القادمة، لدعم بناء مراكز بيانات حديثة وتطوير الذكاء الاصطناعي المفتوح. ومن اللافت أن الإمارات العربية المتحدة استثمرت 50 مليار يورو لإنشاء حرم جامعي مخصص للذكاء الاصطناعي، مما يعكس رغبتها في أن تكون جزءًا من المشهد التكنولوجي الأوروبي. [13]
-
مواقف متباينة: التحالف الأوروبي-الآسيوي مقابل التحفظ الأمريكي-البريطاني
شهدت القمة تقاربًا بين أوروبا ودول آسيوية كالصين والهند، حيث وقّعت فرنسا والصين والهند إعلانًا يدعو إلى استخدام مستدام ومسؤول للذكاء الاصطناعي، ودعا بيان باريس لتعزيز دور الأمم المتحدة عبر الإشارة إلى الميثاق الرقمي العالمي، ولتضييق فجوة التفاوت في الذكاء الاصطناعي ومساعدة الدول النامية، مدعومًا بمنصة تركز على الذكاء الاصطناعي كمنفعة عامة في خطوة تشير إلى محاولة أوروبا بناء تحالفات خارج الإطار الغربي التقليدي.
في المقابل، رفضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة التوقيع على بيان القمة، بحجة أنه لا يتناول بشكل كافٍ الحوكمة العالمية وتأثير التكنولوجيا على الأمن القومي. ويبدو أن هذا الموقف يعكس مخاوف واشنطن ولندن من أن تقود أوروبا والصين وضع معايير جديدة للذكاء الاصطناعي قد تحدّ من الهيمنة التكنولوجية الأمريكية. كما جاءت تصريحات نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس، الذي انتقد “التنظيم المفرط” في أوروبا، لتؤكد أن الولايات المتحدة تفضل عدم الالتزام بقيود تنظيمية دولية قد تعيق تقدم شركاتها التكنولوجية. [14]
-
تداعيات القمة على المشهد الجيوسياسي للذكاء الاصطناعي
-
-
تعزيز مكانة أوروبا كمركز تكنولوجي مستقل، بعيدًا عن النفوذ الأمريكي والصيني.
-
تقارب أوروبي-آسيوي من خلال الشراكة مع الصين والهند، مما قد يعيد تشكيل التحالفات التكنولوجية العالمية.
-
دخول دول جديدة، مثل الإمارات والهند، كمنافسين محتملين في سباق الذكاء الاصطناعي، عبر استثمارات استراتيجية في مراكز الأبحاث والبيانات.
-
كانت القمة شديدة الانتقاد لاحتكارات الذكاء الاصطناعي وإساءة استخدام الملكية الفكرية، مما يتعارض مع النهج الأميركي الداعم للأعمال التجارية في ظل حرصها على تجنب الأطر المتعددة الأطراف التي قد تحد من هيمنتها التكنولوجية. كما شكلت نكسة للمملكة المتحدة التي سعت لوضع نفسها كمركز عالمي لسلامة الذكاء الاصطناعي.[15]
-
التأخر الروسي:
تسعى روسيا لتحسين موقعها في تصنيفات الذكاء الاصطناعي العالمية بحلول عام 2030. على الرغم من العقوبات الغربية المفروضة عليها، ويُعدّ «سبيربنك» في طليعة جهود تطوير الذكاء الاصطناعي في روسيا، التي تحتل حالياً المرتبة 31 من بين 83 دولة على مؤشر الذكاء الاصطناعي العالمي لشركة «تورتويز ميديا» البريطانية، متأخرة بشكل ملحوظ عن الولايات المتحدة والصين، وكذلك عن بعض أعضاء مجموعة «البريكس»، مثل الهند والبرازيل.[16]
ديسمبر الماضي، قال الرئيس الروسي، إن روسيا ستطور الذكاء الاصطناعي مع شركائها في مجموعة “بريكس” ودول أخرى، في محاولة لتحدي هيمنة الولايات المتحدة على هذه التقنية. وقال بنك “سبيربنك”، أكبر بنك في روسيا، إن شبكة تحالف الذكاء الاصطناعي الجديدة ستشهد شراكة بين مؤسسات ذكاء اصطناعي من الصين، التي تعد واحدة من أكبر قوتين في هذا المجال على مستوى العالم، ومن روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا.[17]
يُشير تأخر روسيا في تصنيفات الذكاء الاصطناعي العالمية إلى تحديات استراتيجية تواجهها في المنافسة على التكنولوجيا المتقدمة، خاصة في ظل العقوبات الغربية التي تعيق الوصول إلى التقنيات والمواهب والتمويل الدولي. وعلى الرغم من طموحاتها لتعزيز موقعها العالمي في هذا المجال بحلول عام 2030، إلا أن اعتمادها المتزايد على الصين في تطوير الذكاء الاصطناعي يكشف عن محدودية استقلاليتها في هذا السباق.
تحالف روسيا مع دول “البريكس”، وخاصة الصين، يمنحها فرصة لتعويض بعض الفجوات التكنولوجية، لكنه أيضاً يضعها في موقع التبعية النسبية لشريك أقوى في هذا المجال، مما قد يحدّ من قدرتها على تشكيل ملامح النظام العالمي الجديد الذي تسعى للترويج له تحت شعار “عالم متعدد الأقطاب”. حتى لو انتهت الحرب الأوكرانية، فإن موقع روسيا في المنافسة التكنولوجية سيظل متأثراً بفجوة الابتكار الحالية، ما لم تحقق قفزات نوعية في البحث والتطوير الداخلي وتقليل الاعتماد على الشركاء الخارجيين.
ختاما، فإن التنافس الجيوسياسي في مجال الذكاء الاصطناعي يعكس صراعًا أوسع على الهيمنة التكنولوجية، حيث تسعى كل قوة كبرى لضمان تفوقها الاستراتيجي في هذا المجال الحاسم. ومع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، وتراجع الضغوط التنظيمية في الاتحاد الأوروبي، وتنامي دور الشركات التكنولوجية العملاقة كجهات فاعلة مستقلة، يبدو أن العالم يتجه نحو انقسام رقمي قد يعيد تشكيل العلاقات الدولية.
في ظل هذا المشهد، لن يكون مستقبل الذكاء الاصطناعي مجرد مسألة تقنية، بل سيكون عاملًا محوريًا في تحديد النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري للدول. فبينما تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على قيادتها من خلال سياسات الحماية التكنولوجية، تواصل الصين توسيع نفوذها عبر استراتيجيات طويلة المدى، في حين يحاول الاتحاد الأوروبي إيجاد توازن بين الابتكار والتنظيم.
المصادر:
[1] The geopolitics of generative AI.. https://2u.pw/JEaHJjzX
[2] Trump, Stargate, DeepSeek: A new, more unpredictable era for AI?.. https://2u.pw/yf3HVaZ5
[3] Ibid.
[4] DeepSeek: how China’s embrace of open-source AI caused a geopolitical earthquake.. https://2u.pw/Fi6UFXSu0
[5] CNA Explains: Are countries banning DeepSeek for legitimate reasons?.. https://2u.pw/ak3DwlDu
[6] Where in the world is DeepSeek banned and why?.. https://2u.pw/vImyDUuP
[7] The Global AI Race: The Geopolitics of DeepSeek.. https://2u.pw/CyVirnMJ
[8] Artificial Intelligence: Strategic and Geopolitical Consequences After the Rise of DeepSeek.. https://2u.pw/mbFdvZS8
[9] هل دنا العالم من سباق التسلح بالذكاء الاصطناعي؟.. https://2u.pw/ZF94ji4s
[10] The Geopolitics Of Artificial Intelligence.. https://2u.pw/JsjKWXgB
[11] The geopolitics of artificial intelligence after DeepSeek.. https://2u.pw/7FOHQ45H
[12] 5 Notes From the Big A.I. Summit in Paris.. https://2u.pw/9ptRq3Us
[13] قمة الذكاء الاصطناعي… استثمارات ضخمة ومنافسة أوروبية على الريادة… https://2u.pw/40ichZtH
[14] US and UK refuse to sign Paris summit declaration on ‘inclusive’ AI.. https://2u.pw/1okqCQdR
[15] The Paris AI Summit: A Diplomatic Failure or a Strategic Success?.. https://2u.pw/sqabGBwP
[16] روسيا تعتزم تحسين تصنيفها العالمي في الذكاء الاصطناعي بحلول 2030.. https://2u.pw/UlGyvr5S
[17] روسيا تؤسس تحالفا في قطاع الذكاء الاصطناعي.. https://2u.pw/Qk3aNlqU