المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > التواجدُ التركي في ليبيا: محددات وآفاقٌ جديدة
التواجدُ التركي في ليبيا: محددات وآفاقٌ جديدة
- أغسطس 31, 2024
- Posted by: hossam ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات
إعداد: هنا داود
باحث مساعد في برنامج دراسات الدول التركية
مقدمة
يَشَكلُ التواجد التركي في ليبيا أحد أبرز القضايا التي تشغل الساحة السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وذلك لما له من تأثيرٍ كبيرٍ على التوازنات الإقليمية والدولية، كما يُعتبرُ هذا الملف جوهريًا في السياسة الخارجية التركية، حيث تسعى تركيا من خلال وجودها في ليبيا إلى تعزيز نفوذها الإقليمي وتحقيق أهدافها الاستراتيجية. ومع ذلك، تُثارُ العديد من التساؤلات حول دوافع هذا التواجد وما إذا كان مدفوعًا بمصالح براغماتية بحتة أم أنه يحمل في طياته – كما تشير تركيا – أبعادًا أخلاقية تسعى لتحقيق الاستقرار وتوحيد الصف الليبي. يتناول هذا الموضوع التحليلات المختلفة لآثار التواجد التركي في ليبيا، مسلطًا الضوء على التحولات الأخيرة في علاقات تركيا مع مختلف الأطراف الليبية، ومتسائلًا عن الدوافع الحقيقية وراء هذه التحركات.
جذورُ الأزمةِ الليبية
بدأت الأزمة الليبية مع الحراك العربي الذي انطلق في عام 2011، وشهدت البلاد فترة انتقالية لم تنتهِ حتى الآن، وتعود جذورُ الأزمة الليبية الحالية، التي تحولت إلى أزمة إقليمية، إلى حكم العقيد معمر القذافي الطويل، حيث سيطر على إدارة الدولة وحظر قيام مؤسسات سياسية حقيقية. انتهى حكمه بثورة 17 فبراير 2011 بعد قتالٍ طويل أفضى إلى أزمةٍ تمثلت في وجود حكومةٍ مستقلةٍ في الشرق الليبي تدعمها قوات المشير خليفة حفتر، وحكومة الوفاق الوطني التي تدير شؤون العاصمة طرابلس والمنطقة الغربية. استمرَ هذا الانقسام والاقتتال الداخلي حتى وقتنا الحالي، لتُصبحَ الأزمة الليبية من أبرز الأزمات في المنطقة العربية والشرق الأوسط، حيث أثرت بشكل كبير على الأمن والاستقرار في الإقليم. توسعت الأزمة وامتد أمدها، وأصبحت محورًا لتدخل دول المنطقة، وأبرزها دول الخليج وتركيا، كما لم تخلُ من تدخل القوى الدولية الكبرى، مثل الولايات المتحدة، وفرنسا، وروسيا.
الموقف التركي من الأزمة الليبية
تركزت اهتماماتُ تركيا في ليبيا قبل اندلاع الأزمة على تعزيز مصالحها الاقتصادية، خاصة في قطاعات البناء والتجارة. وفي بداية الثورة الليبية، رفضت تركيا التدخل العسكري الخارجي خلال أحداث الثورة، ولم تطلبْ من القذافي التنحي إلا في وقتٍ متأخرٍ. لاحقًا، تحوّل الموقف التركي إلى دعم المجلس الانتقالي، ثم بدأت تركيا دعمها لحكومة الوفاق الوطني. يمكن القول إن البراغماتية السياسية التركية جعلت موقفها تجاه الأزمة الليبية يتباين مع كل مرحلة.
ومع توسعِ الأزمة الليبية إقليميًا، بدأت تركيا بدعم الفصائل المعارضة للمشير خليفة حفتر، وبعد توقيع الاتفاق السياسي الليبي “الصخيرات” الذي نتج عنه تشكيل حكومة الوفاق الوطني، أعربت تركيا عن استعدادها التام لتقديم كافة أنواع الدعم لهذه الحكومة.
منذ ذلك الحين، بدأ الدعمُ العسكري التركي بشكل علني، حيث أعلن أردوغان في عام 2019 عن تقديم الدعم العسكري لحكومة الوفاق الوطني وفقًا لاتفاق “التعاون العسكري” بهدف إعادة التوازن في طرابلس في مواجهة قوات خليفة حفتر المدعومة دوليًا من الإمارات العربية المتحدة ومصر. في العام ذاته، وقعت تركيا مع حكومة الوفاق الوطني مذكرة تفاهم بشأن السيادة على المناطق البحرية في البحر الأبيض المتوسط، وهو أحد أهم الأهداف التركية لضمان التوازن في خلافات منطقة شرق المتوسط، والمتعلق أيضًا بأهداف اقتصاديةٍ تَشملُ استخراجَ النفط والغاز. إلى جانب ذلك، تم توقيع مذكرة للتعاون الأمني تضمنت التدريبَ العسكريَ، ومكافحة الإرهاب، ونقل الخبرات. وأكد أردوغان على استمرار إرسال الدعم العسكري الجوي والبري والبحري إلى ليبيا بناءً على طلب حكومة الوفاق الوطني.
وفي عام 2020، وافَقَ البرلمانُ التركي على تدخلٍ عسكري لمدة عام في ليبيا، يشمل تقديم الأسلحة والتدريب العسكري والقوة الجوية للجيش الوطني. يمثل هذا الاتفاقُ فرصةً كبيرة لتعزيز الوجود التركي في شمال إفريقيا، وتتمسك تركيا بهذا الوجود العسكري وتستمر في تمديده، إذ ترى أن الوجودَ التركي أسْهمَ في تحقيق قدرٍ من الاستقرار في الداخل الليبي.
دوافعُ ومحدداتُ التواجدِ التركي في ليبيا
يمكن القولُ إن النفوذَ التركي في ليبيا كان موجودًا قبل نشوب الأزمة، ولكنه ازداد تدريجيًا. وعلى الرغم من أن توجهاتِ السياسةِ الخارجية التركية تتغير باستمرار، إلا أن البراغماتية تظل جزءًا أصيلًا منها، وهذا لا ينفي عنها صفة الأخلاقية. وبالتالي، فإن لهذا التواجد التركي في ليبيا بعض الدوافع التي تدعمه.
1- دوافعُ اقتصادية:
من أهمِّ ما يدفع تركيا للتواجد والحفاظ على دورها البارز في المشهد الليبي هو المصالح الاقتصادية التي كانت موجودةً قبل اندلاع الأزمة. تمتلك تركيا مصالح اقتصادية كبيرة منذ فترة حكم القذافي، أبرزُها اتفاقيات في مجال البناء والاستثمارات التركية الضخمة في هذا القطاع. بالإضافة إلى ذلك، استثمرت تركيا منذ 2018 في العديد من المشاريع، باعتبار ليبيا جزءًا من الاستراتيجية الاقتصادية والسياسية التركية في إفريقيا. أضف إلى ذلك مسألةَ اكتشاف مصادر الطاقة في شرق المتوسط، والتهديدات التي واجهتها تركيا خلال تشكيل منتدى غاز شرق المتوسط، مما دفعها إلى تثبيت وجودها العسكري للتأكيد على حقوقهِا في المنطقة باعتبارها لاعبًا وفاعلًا أساسيًا. تسعى تركيا إلى الاستفادة من هذه المصادر، وتوفير مصدر دائم للطاقة، ولَعِبِ دور الموزع للنفط الليبي إلى أوروبا.
2- دوافعُ سياسية واستراتيجية:
تأتي رغبة تركيا في بَسْطِ نفوذِها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشكل عام كأحد أهم الدوافع المحركة لها. ولعل وجودَها العسكري في ليبيا يُعد وجودًا استباقيًا يضمن الحفاظ على مصالحها، مع بسط هيمنتها وسيطرتها وضمان استمرار الاتفاقيات الموقعة مع حكومة الوفاق الوطني، سواء الأمنية أو البحرية، والتي تضمن لتركيا البقاء في مساحات واسعة في منطقة شرق المتوسط. تعتبر هذه الاتفاقيات بمثابة ورقة ضغطٍ هامة للجانبِ التركي. إلى جانب ذلك، فإن تواجدها في ليبيا يُكسِبُها أوراقَ قوةٍ في مواجهة الاتحاد الأوروبي في ملفات الطاقة والأمن والهجرة.
تُعد هذه أبرز الدوافع، ولكن تتسع الدوافع أيضًا لتشملَ دوافع جيوسياسية تتعلق بالموقع الاستراتيجي الليبي، والرغبة التركية في الهيمنة عليه لاكتساب نقاط قوة تساهم في تحقيق التوازن في منطقة شرق المتوسط. كما أن وجودها العسكري هناك يُكسبُها نفوذًا قويًا على الصعيدين الإقليمي والدولي.
تداعياتُ التدخلِ العسكري في تركيا
تتباينُ وتختلفُ وجهات النظر الدولية والإقليمية وكذلك الآراء داخل ليبيا حول تداعيات التدخل العسكري التركي وآثاره في تشكيلِ الوضع الحالي. تشير عدة تحليلات إلى أن الوجودَ العسكري التركي أدى إلى نتائج سلبية، حيث زاد من تعقيدِ الأزمة الليبية، وعمّق حدة الصراع، ودفع نحو غلبة الحلول العسكرية. كما أن التدخل التركي انتهك السيادةَ الليبية نتيجة للاتفاقيات المبرمة التي سمحت لتركيا بالإشراف على أعمال التنقيب في المناطق المشمولة في الاتفاق، واستنزف الموارد المالية والاقتصادية. وترى بعض التحليلات أن هذا التواجدَ ليس إلا محاولةً للسيطرة على مواردِ الطاقة وضمان وجود قوي في منطقة شرق المتوسط.
من ناحية أخرى، تشير بعض التحليلات إلى أن التواجد العسكري التركي ساعد في فرض نوع من الاستقرار والهدوء، وهو ما لم يكن ليحدث قبل عام 2019. ويُعتقد أن تركيا، من خلال تأمين الموارد الاقتصادية ومصادر الطاقة، قد حمت ليبيا من خطر المرتزقة والجماعات الإرهابية وضمنت سلامة الشعب الليبي إلى حين استقرار الوضع بشكل تام. كما ترى هذه التحليلات أن دعم قوات خليفة حفتر كان السبب الأساسي في تعثر الوضع. وعلى الرغم من أنه لا يمكن الجزم بنتائج التدخل العسكري التركي في الوقت الحالي، فإن الجمود في تحليل الوضع لا يصلح. وإذا كانت للتدخل العسكري التركي مساوئ، فهذا لا يعني أنه خالٍ من المكاسب. وعلى الرغم من أن تركيا تتخذ خطواتها بشكل براغماتي، إلا أن وجودَها العسكريَ ودعمَها لحكومة الوفاق الوطني قد أسهما في تحقيق بعض التوازن. وهذا ما تُشيرُ إليه “حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة”، حيث يُقِرُّ عبد الحميد الدبيبة بجهود تركيا في دعم الاستقرار، إلى جانب سعيها لتوحيد الجانبين كهدف أسمى في النهاية.
زيارةُ بلقاسم حفتر إلى أنقرة
تُشيرُ زيارة بلقاسم حفتر إلى تركيا إلى تحولات في المشهد السياسي، وتوضح ملامح مرحلة جديدة يتم العمل على رسمها وإنجاحها والتخلص من التوترات الشديدة بين اللواء حفتر، المهيمن على الشرق الليبي، والنظام التركي. ولعل التغييرات والتوترات على الساحة الإقليمية، بالإضافة إلى التصالحِ التركي المصري، كانت الدافعَ الأساسيَ لمثل هذه الخطوة. وتشير عدة تحليلات إلى وجود رغبةِ فعليةِ في التعاون بما يَدعمُ مصالحَ الطرفين. يؤكد ذلك الخطوات التي اتخذها بلقاسم حفتر قبل زيارته إلى أنقرة، والتي تمثلت في منح الشركات التركية أعمالًا في مجال الصيانة والإنشاءات، مما يجعل تركيا تستثمر في الشرق الليبي أيضًا، وهذا يوضح تخلي سلطات شرق ليبيا عن تحفظاتها تجاه النظام التركي.
آفاقٌ مستقبليةٌ جديدة
يمكن استشراف الآفاق المستقبلية للتواجد التركي في ليبيا على النحو التالي:
-
استمرار التواجد العسكري التركي: من المتوقع أن يستمرَ الوجودُ العسكري التركي في الغرب الليبي دون تغيير في الفترة المقبلة. تركيا لا تنوي سحب هذا الوجود، الذي يُعززُ من نفوذها العسكري في المنطقة. بعد دعمها لحكومات الغرب الليبي، مع الحفاظ على علاقات قوية ومبنية على التفاهم.
-
تعزيز التعاون العسكري: تسعى تركيا إلى دعمِ إعادةِ هيكلة وتدريب القوات المسلحة وقوات الأمن الليبية بهدف تعزيز قدراتها الدفاعية، كما يتضح من مذكرة التفاهم الموقعة في مارس 2024. هذه المذكرة تؤكدُ استمرارَ التفاهمات السابقة وتمنحُ القواتِ التركيةَ الحصانة القانونية في ليبيا. على الرغم من الانتقادات في الداخل الليبي، التي تعتبر أن هذه المذكرة قد تجعل ليبيا قاعدةً عسكريةً لتركيا أو حتى قد تُفَسَّرُ على أنها احتلال تركي، فإن تركيا تسعى جاهدة لدعم استقرار الوضع الأمني.
-
الوساطة والتوحيد: تُبدي تركيا رغبةً في حل الخلافات الداخلية الليبية والتوسط لتوحيد الشرق والغرب الليبي. هذا يشير إلى تحولٍ استراتيجيٍ في المشهد الليبي، حيث قد تُسهمُ التفاهمات الجديدة والمصالح المشتركة في تحقيق استقرار أكبر. زيارة نجل حفتر إلى أنقرة تعكس هذا الاتجاه نحو تلاقٍ أكبر للمصالح، مما يجعل المشهد المستقبلي أكثر إيجابية بالنسبة لتركيا ولليبيا على حد سواء.
وما سبق يشير الى أن تركيا ستواصلُ تعزيزَ تواجدها العسكري وتوسيعَ نفوذها في ليبيا، مع التركيز على تعزيز الاستقرارِ والأمنِ في البلاد، وهو ما قد يُسهمُ في تحقيق استقرارٍ سياسي مستقبلي إذا تمت معالجة المخاوف المحلية والدولية المتعلقة بهذا التواجد.
الخاتمة
يُشَكلُ الوجودُ التركي في ليبيا نقطة حاسمة في المشهد الإقليمي، حيث تتشابكُ المصالحُ الإقليمية والدولية بشكل معقد. بعد سنوات من الصراع والانقسام، بدأت تتبلورُ معالمُ مرحلةٍ جديدة في العلاقات الليبية التركية، والتي تحملُ في طياتها فرصًا وتحديات على حدٍ سواء. تؤكد الزيارة الأخيرة لبلقاسم حفتر إلى أنقرة رغبة الطرفين في إعادةِ بناء الثقة وبناءِ علاقاتٍ تعاونيةٍ جديدة. يَعْكِسُ هذا التحول الاستراتيجي إدراكًا متزايدًا لدى الأطراف الليبية بأن الحلَّ العسكري ليس خيارًا مستدامًا، وأن التعاونَ الإقليمي هو السبيلُ الوحيد لتحقيق الاستقرار والتنمية.
ومع ذلك، فإن التحدياتِ التي تُواجهُ هذا التعاون لا تزال كبيرةً. التدخلات الخارجية المستمرة، والانقسامات الداخلية العميقة، والفساد المستشري، كلها عوامل تُعيقُ عمليةَ البناء الوطني في ليبيا. كما أن الاتفاقياتِ الأمنيةَ والعسكرية التي أبرمتها تركيا مع حكومة الوفاق الوطني واستكملتها مع حكومةِ الوحدة الوطنية المؤقتة تُثيرُ مخاوف بشأن السيادةِ الليبيةِ وتداعياتها على التوازنِ الإقليمي.
المصادر
-
توفيق بوستي، التدخل التركي في ليبيا: الدوافع والتداعيات، مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية، يناير 2024، التدخل التركي في ليبيا: الدوافع والتداعيات – Mediterranean Center (mediterraneancss.uk)، الدخول 23/8/ 2024
-
جمال جوهر، سلطات شرق ليبيا توسّع انفتاحها على تركيا، الشرق الأوسط، يوليو 2024، سلطات شرق ليبيا توسّع انفتاحها على تركيا (aawsat.com)، الدخول 24/8/2024
-
ليبيا: انتقادات واسعة للدبيبة بعد كشف بنود اتفاق موقّع مع تركيا، الشرق الأوسط، أغسطس 2024، ليبيا: انتقادات واسعة للدبيبة بعد كشف بنود اتفاق موقّع مع تركيا (aawsat.com)، الدخول 24/8/2024
-
حنان دريسي، التدخل التركي في الأزمة الليبية: المحددات والتداعيات، مجلة الناقد للدراسات السياسية، 2022.