المقالات
الحرب التجارية: الصين من التكيف إلى المواجهة
- أبريل 8, 2025
- Posted by: hossam ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية

إعداد: مصطفى مقلد
باحث فى العلوم السياسية
مقدمة:
شهدت العلاقات الاقتصادية بين الصين والولايات المتحدة تحولاً في السنوات الأخيرة، حيث انتقلت من حالة التنافس التجاري إلى مواجهة شاملة تطال الأبعاد السياسية والتكنولوجية والاستراتيجية. ومع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وفرضه جولة جديدة من الرسوم الجمركية، وجدت الصين نفسها أمام تحدٍ غير مسبوق، خاصة في ظل هشاشة اقتصادية داخلية.
جولة جديدة من الحرب التجارية:
أعلن الرئيس الأمريكي “ترمب”، خلال ما أسماه “يوم التحرير”، فرض ضريبة أساسية بنسبة 10% على الواردات القادمة من مختلف دول العالم، بالإضافة إلى رفع الرسوم الجمركية على عدد كبير من الدول التي تحقق فوائض تجارية مع الولايات المتحدة، وتأثرت 185 دولة بتلك الإجراءات، وإن كان بنسب متفاوتة، حيث تراوحت معدلات الرسوم المفروضة على الواردات بين 10% وأكثر من 50%، في إطار استراتيجية تجارية تهدف إلى إعادة التوازن للعلاقات التجارية الأميركية. وضمن هذا التوجه، فرضت إدارة ترمب رسوماً بنسبة 34% على السلع المستوردة من الصين، و20% على واردات الاتحاد الأوروبي، في دلالة على استهداف أكبر اقتصادين شريكين لواشنطن.[1]
في المقابل، أعلنت الصين بعدها بيومين، أنها ستفرض رسومًا جمركية متبادلة بنسبة 34% على جميع الواردات من الولايات المتحدة اعتبارًا من 10 أبريل، كما أضافت الصين 11 شركة أمريكية إلى “قائمة الكيانات غير الموثوقة”، بما في ذلك شركات تصنيع الطائرات بدون طيار، وفرضت ضوابط تصدير على 16 شركة أمريكية لمنع تصدير المواد الصينية ذات الاستخدام المزدوج. وأعلنت وزارة التجارة عن فتح تحقيقات لمكافحة الإغراق في أنابيب الأشعة السينية الطبية المقطعية المستوردة من الولايات المتحدة والهند، بالإضافة إلى ذلك، فرضت بكين ضوابط على تصدير 7 أنواع من المعادن الأرضية النادرة إلى الولايات المتحدة.[2]
كما انتقدت وزارة الخارجية الصينية الولايات المتحدة لاستخدامها الرسوم الجمركية كسلاح “للضغط الشديد وتحقيق المصالح الذاتية”، قائلةً إن “التنمر الاقتصادي الأمريكي سيأتي بنتائج عكسية في النهاية”.[3]
تصاعد المخاطر الاقتصادية للصين:
قبل فرض ترامب الرسوم الجمركية، كانت سياسات الصين التجارية قد أصبحت مصدر توتر متكرر مع واشنطن. فالإغراق التجاري عبر بيع منتجات مدعومة حكومياً (مثل الصلب والألواح الشمسية) بأقل من تكلفتها، بالإضافة إلى القيود على وصول الشركات الأجنبية للسوق الصيني، شكلت مبرراتٍ رئيسية للعقوبات الأمريكية.
لذا تواجه الصين تهديدًا متجدّدًا من السياسة الجمركية الأميركية، شبيهًا بما واجهته خلال الولاية الأولى للرئيس دونالد ترمب، لكن هذه المرة في ظل ظروف اقتصادية أكثر هشاشة، فقد أصبح الاقتصاد الصيني أكثر اعتمادًا على الصادرات مقارنة بفترة الحرب التجارية الأولى، إذ بلغ الفائض التجاري في عام 2024 مستوىً قياسيًا يقارب تريليون دولار، وهو ما شكّل نحو ثلث النمو الاقتصادي لذلك العام، وهي النسبة الأعلى منذ عام 1997.
هذا الاعتماد المتزايد على الطلب الخارجي يسلّط الضوء على جملة من التحديات التي تواجه القيادة الصينية، وعلى رأسها استمرار الانكماش الاقتصادي، وضعف الاستهلاك المحلي، وتفاقم أزمة العقارات، فضلًا عن الضغوط الواقعة على العملة الوطنية، وعلى الرغم من تراجع أهمية السوق الأميركية كوجهة مباشرة للصادرات الصينية خلال السنوات الأربع الماضية، فإن الاقتصاد الأميركي ما يزال يُعدّ مصدرًا حيويًا للطلب النهائي على السلع الصينية، حيث استورد ما يزيد عن 500 مليار دولار من المنتجات الصينية في العام الماضي، وهو ما يعادل قرابة 3% من الناتج المحلي الإجمالي للصين. [4]
إذا أدت رسوم ترمب إلى تحويل الصادرات الصينية من أمريكا إلى أسواق أخرى، فقد تفرض تلك الدول الأخرى رسومًا جمركية خاصة بها على الصين. فوفقًا لإحصاءات منظمة التجارة العالمية، تم فتح 66 تحقيقًا لمكافحة الإغراق ضد الصين في النصف الأول من عام 2024 وحده، أي أكثر من عام 2023 بأكمله.
سبب أخر يجعل الحرب التجارية الثانية أسوأ بالنسبة للصين من الأولى هو أن أمريكا تبدو أكثر هشاشة هذه المرة، حيث تنخفض ثقة المستهلك الأمريكي بشكل حاد مع ظهور مخاوف من الركود في الولايات المتحدة. [5]
اختلاف نهج الرد الصيني: من التفاعل إلى المواجهة
يبرز تحول ملحوظ في طريقة تعامل بكين مع جولة التصعيد الجديدة في الحرب التجارية، خاصة في ظل عودة ترمب المحتملة إلى السلطة عام 2025، ففي الجولة الأولى من الحرب التجارية خلال ولاية ترمب الأولى، اتسم الرد الصيني بالتحفظ النسبي والتركيز على التفاوض، قبل أن يتوصلا إلى اتفاق “المرحلة الأولى” في يناير 2020. الذي شمل زيادة مشتريات الصين من المنتجات الزراعية الأمريكية بشكل مؤقت (مثل الصويا) لاحتواء غضب المزارعين الأمريكيين، وتخفيض رسوم جمركية على بعض الواردات الأمريكية (مثل السيارات) كبادرة تفاوضية، وعقدت 12 جولة مفاوضات بين 2018-2019، مع تجنب الخطاب العدائي في الإعلام الرسمي، كما غابت العقوبات غير الجمركية الصينية، وعكس ذلك رغبة الصين في تجنب توحيد الغرب ضدها (خاصة مع دعم الاتحاد الأوروبي للولايات المتحدة آنذاك).
غير أن السياق الراهن يعكس اختلافًا جوهريًا في أسلوب الرد الصيني؛ إذ اختارت بكين استراتيجية أكثر شمولًا وتنوعًا في الأدوات. فالصين لم تعد تتعامل مع الحرب التجارية كأزمة مؤقتة، بل كجزء من مواجهة استراتيجية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة.
ويُعزى هذا التحول إلى قناعة صينية متزايدة بأن سياسة التهدئة التي تبنتها خلال رئاسة جو بايدن لم تؤتِ ثمارها. فعلى الرغم من انخفاض حدة الخطاب مقارنة بعهد ترمب الأول، لم تختلف السياسات الأميركية في جوهرها؛ إذ استمرت القيود على التكنولوجيا الصينية، وتم الإبقاء على العقوبات الاقتصادية، إضافة إلى تعزيز تحالفات جيوسياسية موجّهة ضد بكين، ووفق هذا المنظور، رأت بكين أن الاستيعاب لم يُكافأ، بل قوبل بمزيد من الضغوط مع عودة ترمب، كما تدرك الصين أن الحرب التجارية ليست مجرد نزاع على الميزان التجاري، بل معركة حول الهيمنة التكنولوجية والجيوسياسية، وتحاول الصين رفع تكلفة الإجراءات الأمريكية.
ويجسد هذا التحول توقيع رئيس مجلس الدولة الصيني “لي تشيانغ” مؤخرًا أمرًا بتنفيذ تعديلات على “قانون مكافحة العقوبات”، الذي يُمكّن السلطات الصينية من اتخاذ إجراءات قانونية وتنظيمية بحق الدول الأجنبية أو الكيانات التي يُنظر إليها على أنها تمارس التمييز أو محاولات “احتواء وقمع” ضد الصين. وبهذا، باتت الصين تسعى إلى خلق تكلفة سياسية واقتصادية على واشنطن مقابل أي إجراء عدائي.
دوافع الصين لتحدي السياسات الجمركية الأميركية:
الاستفادة من سياسات “أمريكا أولًا”:
رغم التحديات الاقتصادية الداخلية والخارجية، ترى بكين في تصاعد الحمائية الأميركية فرصة لإعادة تقديم نفسها كقوة تجارية مسؤولة. ففي الأسابيع الأخيرة، كثّفت حملاتها الدبلوماسية والتجارية لعرض نفسها كشريك موثوق للدول والشركات في الوقت الذي تتراجع فيه الولايات المتحدة عن التزاماتها الاقتصادية العالمية، حيث فرض ترمب رسوماً جمركية بنسبة 20 في المئة على أوروبا، وطرحت كلاً من باريس وبرلين فكرة فرض ضرائب على عمالقة التكنولوجيا الأميركيين كنوع من الرد المحتمل.[6] وعبرت باولا بينيو، الناطقة باسم فون دير لايين، إن رئيسة المفوضية “على اتصال مع قادة الاتحاد الأوروبي في شأن هذه القضية المهمة” من أجل التوصل إلى “رد منسق مع مداولات القادة”.[7]
تعزيز التعاون الإقليمي:
تُعد اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التي دخلت حيز النفاذ 2022، من الأدوات التي تستخدمها الصين لتعزيز وجودها في أسواق آسيا وتعزيز تكامل سلاسل القيمة الإقليمية. كما أعلنت اليابان وكوريا الجنوبية والصين، “تسريع” المفاوضات من أجل إبرام اتفاق ثلاثي في مجال التجارة الحرة لمواجهة الوتيرة المتسارعة للرسوم الجمركية الإضافية التي تفرضها واشنطن، حيث يعتمد اقتصاد الدول الثلاث إلى حد كبير على الصادرات.[8]
ممارسة ضغوط انتقائية ومدروسة:
بدلاً من التصعيد الشامل، اتبعت بكين استراتيجية ضغط انتقائي، فيرى محللون أن الردود الصينية تشمل فرض رسوم على صادرات أميركية ذات الحساسية السياسية مثل المعدات الصناعية والمنتجات الزراعية، وتوسيع “قائمة الكيانات غير الموثوقة” التي قد تشمل شركات أميركية محددة. بالإضافة إلى ذلك، قيود على تصدير مدخلات الإنتاج الاستراتيجية.
التحفيز الداخلي في مواجهة الضغوط الخارجية:
من جهة أخرى، تسعى الحكومة الصينية إلى تحفيز الطلب المحلي كجزء من استراتيجية إعادة التوازن الاقتصادي في ضوء الانكماش المتوقع في صادراتها إلى الولايات المتحدة. [9] وفي ظل هذه الأوضاع، اتخذت السياسات الاقتصادية الصينية منحى أكثر إيجابية مؤخرًا، حيث وعدت الحكومة بوقف تراجع سوق العقارات وتعزيز الاستهلاك المحلي، بالإضافة إلى تقديم مرونة أكبر للحكومات المحلية في الاقتراض، وتشير الحكومة الصينية إلى عودة رواج المشاريع الخاصة، وأن الاستثمار الأجنبي موضع ترحيب.
الانخفاض في الاعتماد على الولايات المتحدة:
تمكنت الصين من تقليل اعتمادها على الولايات المتحدة كوجهة لصادراتها أو كمصدر للتقنيات الحيوية، فالصادرات الصينية إلى أمريكا تمثل حاليًا 15% فقط من إجمالي صادراتها، وهو انخفاض ملحوظ عن النسبة التي كانت تصل إلى 20% في 2017. [10] من جهة أخرى، ازدادت قدرة الشركات الصينية على التنافس التكنولوجي. على سبيل المثال، أثبتت شركة “هواوي” قدرتها على إنتاج أشباه موصلات ذات جودة عالية رغم الحواجز التي فرضها ترامب، في حين أظهرت شركة “ديب سيك” تقدمًا في الذكاء الاصطناعي.
التصعيد الأميركي وأثره على الاقتصاد العالمي:
في مقابل الاستراتيجية الصينية، ظلّت أهداف ترامب غامضة وغير واضحة، فالرسوم الجمركية التي فرضها يعبر عنها كأداة للمساومة، مثل مطالبته للصين ببيع “تيك توك”، كما أن هذه الرسوم قد تكون في بعض الأحيان أداة لجذب الاستثمار في قطاع التصنيع أو محاولة تقليل العجز التجاري، وغموض أهداف ترامب من وراء الرسوم الجمركية يقلص فرص الوصول إلى اتفاقات مستقرة، وهذا يفسر كيف أن بكين تلجأ إلى ضغط انتقائي.
ختاما، في خضم التصعيد المتزايد بين الولايات المتحدة والصين، تبرز الحرب التجارية الحالية كاختبار حاسم لمستقبل النظام الاقتصادي العالمي، فقد تجاوزت هذه المواجهة مجرد نزاع على الفوائض التجارية لتصبح معركة حول الهيمنة التكنولوجية والنفوذ الجيوسياسي. ومن اللافت أن رد الفعل الصيني هذه المرة يأتي أكثر حزماً وتنظيماً مقارنة بالجولة السابقة، مما يعكس تحولاً استراتيجياً في رؤية بكين لطبيعة العلاقة مع واشنطن، فلم تعد الصين ترى في نفسها شريكاً تجارياً يحاول تجنب الصراع، بل خصماً استراتيجياً يملك أدوات الرد والضغط. الأهم من ذلك، أن هذه الحرب تترك آثاراً عميقة تتجاوز الطرفين، فهي تعيد تشكيل سلاسل التوريد العالمية.
المصادر:
[1] رسوم ترمب… حرب تجارية ساخنة.. https://linksshortcut.com/jFEDB
[2] الصين ترد بإجراءات انتقامية على تعرفة ترامب بداية من 10 أبريل.. https://linksshortcut.com/YXbtE
[3] الصين ترد على رسوم ترامب الجمركية: “لا نخشى الصراع مع أمريكا”.. https://linksshortcut.com/PcrKz
[4] الصين تترقب جولة ثانية من الحرب التجارية مع عودة ترمب.. https://linksshortcut.com/VMDti
[5] As Donald Trump’s trade war heats up, China is surprisingly confident.. https://linksshortcut.com/lHzbS
[6] ماسك ينفصل عن ترمب بعد الرسوم الجمركية.. https://linksshortcut.com/cJcuC
[7] ترمب في “يوم التحرير” : العصر الذهبي لأميركا سيعود بقوة كبيرة.. https://linksshortcut.com/LQyQA
[8] سياسات ترمب تدفع سيول وطوكيو وبكين إلى اتفاق تجارة حرة.. https://linksshortcut.com/SvHYY
[9] China vows to counter Trump’s ‘bullying’ tariffs as global trade war escalates.. https://linksshortcut.com/jLdez
[10] Trump’s tariffs threaten to escalate a trade war… https://linksshortcut.com/rGpYJ