تُمثل تجربةُ تركمانستان في مجال إحلال السلام والاستقرار نموذجًا استثنائيًا في السياسة الدولية، حيث نجحت الدولة في تحقيقِ توازنٍ دقيقٍ بين مصالحها الوطنية والمساهمة في الاستقرار الإقليمي والعالمي، وقد برزت عشق أباد كلاعب محوري على الساحة الدولية بفضل سياساتها الخارجية القائمة على التعاونِ البنّاءِ والحيادِ الإيجابي، الذي تم تعزيزه بتبنيها نهجًا دبلوماسيًا نشطًا ومبتكرًا.
لقد تُوِّج هذا المسارُ باعتماد الأمم المتحدة اقتراحها بجعل العام الحالي 2025 “عام السلام والثقة الدوليين” ولم تكنْ هذه المرة الأولى، وهو ما يعكسُ الاعترافَ الدوليَ بدور تركمانستان الفعّال في تعزيز قيم السلام والحوار، إن هذه الرؤية لم تكنْ مجردَ استراتيجيةٍ قصيرةٍ الأمد، بل تعبر عن فلسفة دبلوماسية طويلة الأمد جعلت من تركمانستان جسرًا للسلام والأمن على المستويين الإقليمي والعالمي.
تحليل السياق التاريخي والسياسي
يستند المقال[1] إلى تاريخ تركمانستان الحديث حيث يُعتبر عام 1991 نقطة تحول بارزة في تاريخها بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، في فترة التسعينيات، وخصوصًا في الوقت الذي كانت فيه أفغانستان تعيش صراعًا داخليًا، قامت تركمانستان باتخاذ خطوة استراتيجية من خلال إعلان حيادها الدائم مما يعكس فطنة دبلوماسية هائلة في ظل التقلبات السياسية التي كانت تسود منطقة آسيا الوسطى آنذاك، ومنذ الاعتراف الرسمي بهذا الحياد من قبل الأمم المتحدة في عام 1995، أصبحت تركمانستان تبرز كداعم رئيسي للسلام في المنطقة.
ولكن على الرغم من أن الحياد أعطى تركمانستان هوية مستقلة بعيدًا عن الهيمنة الإقليمية، إلا أن المنطقة شهدت تغيرات كبيرة بعد ذلك بما في ذلك توسع نفوذ الدول الكبرى مثل روسيا والصين، وموجات من النزاعات العرقية والسياسية وبجب عليها في إطار حفاظها على هذه السياسة ضمان مصالحها مع القوى الكبرى
تحليلُ السياسةِ الداخليةِ والدستوريةِ لتركمانستان
من خلال التركيز على الحيادِ الدائمِ كجزءٍ من دستور البلاد، يشير المقال إلى أن هذه السياسة أصبحتْ حجرَ الزاوية في العلاقات الخارجية للبلاد، حيث تشير المادة 2 من الدستور بوضوح إلى أن الحيادَ هو الأساسُ الذي يعتمد عليه التخطيط السياسي والدبلوماسي، هذه الإشارة إلى أن الحيادَ جزءٌ من النظامِ الدستوري يُعدُ أمرًا بالغ الأهمية لأن ذلك يعني أن الحكومة وقياداتها ملزمة بإتباع هذا المبدأ في كل قراراتها الداخلية والخارجية.
تسعى الدولة دومًا للإشارة للانتهاكات المتزايدة للقانون الدولي تمثل تهديدًا للاستقرار العالمي، وهو موقفٌ يعكسُ تفهمًا عميقًا لدور القانون الدولي كآليةٍ لضمان العدالة ومنْعِ النزاعات، من الناحية النظرية، يُعد هذا النهج ضروريًا في عالم يزداد تعقيدًا حيث تصبح النزاعات أكثر تداخلاً وتشابكًا، ومع ذلك، فإن التحدي يكمنُ في كيفية ضمان التزام الدول بالقانون الدولي في ظلِ غيابِ آلياتِ تنفيذٍ قويةٍ وعالميةٍ يمكن أن تواجه التجاوزات بفعالية[2].
دورُ تركمانستان في حفظِ السلام الإقليمي والدولي
تُبرز المقالة مساهمات تركمانستان المهمة في حفظ السلام في المنطقة والعالم، مثل وساطتها في الحرب الأهلية في طاجيكستان وتقديمِ المساعداتِ الإنسانيةِ في أفغانستان، هذا يُظهر بوضوح كيف نجحت تركمانستان في تحويل حيادها إلى أداةٍ ذات فاعليةٍ في بناء الثقة وتعزيز التعاون الإقليمي، الفضل الذي يُعطى لتركمانستان في هذه الأدوار يضيف وزنًا كبيرًا إلى صورتها كداعم للسلام، وعلى الرغم من هذا الدور إلا أنها لم تظهرْ بشكلٍ محوريٍ في الصراعات الحالية فغنيٌ عن الإشارة مثلا الوضع الحالي في الساحة الدولية والتي تشهد صراعين محتدمين وهما الصراع بين روسيا وأوكرانيا، والحرب الإسرائيلية على غزة واللتان لم تشهدا دوراً محورياً لتركمانستان في إرساء عملية السلام.
التقديرُ الدولي لتركمانستان وأثره على السياسات الخارجية
يشير المقال إلى تقدير الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، لسياسة الحياد التركمانستية ودورِها في التعاونِ الإقليمي والعالمي، إن هذا التقدير يعكسُ السمعةَ الدوليةَ الإيجابية لتركمانستان، ويُبرزُ دورَها المهمَ في تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) ، وعلى الرغم من أن سياستها الخارجية في الحياد هي عقيدةٌ راسخةٌ بل و العمود الفقري النظري للسياسة الخارجية لتركمانستان ما بعد الاتحاد السوفيتي، إلا أن هناك شكوكاً تُثارُ دومًا حول ما إن كانت هذه السياسة لخدمة توجهات داخلية أي يستخدمها النظام التركمانستاني لتعزيز موقفه الداخلي.
ولكن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن الأمم المتحدة، على الرغم من دعمها العلني لسياسة الحياد في تركمانستان، قد تتوقعُ المزيدَ من الأفعال الملموسة في المستقبل لدعم التنمية المستدامة، على سبيل المثال، هل يمكن لتركمانستان أن تلعبَ دورًا قياديًا في تعزيز قضايا حقوق الإنسان أو الديمقراطية في المنطقة؟
الحيادُ كأداةٍ استراتيجيةٍ ونتائجه السياسية
تمت الإشارة إلى أن الحيادَ في تركمانستان ليس مجردَ غيابٍ عن النزاعات العسكرية، بل هو سياسة استراتيجية تهدفُ إلى تعزيزِ هويةٍ وطنيةٍ قويةٍ والمساهمة في المجتمع الدولي بشكل إيجابي، والحياد، بمفهومه القانوني، يشير إلى الوضع الذي تمتنع فيه دولة عن المشاركة في الحروب أو النزاعات بين أطراف أخرى، مع تبنّي موقفٍ متوازنٍ وغير منحاز تجاه الأطراف المتحاربة، يعتمدُ هذا الوضعُ على قبول الأطراف المتنازعة لموقف الدولة المحايدة واحترام استقلاليتها، ويُعد هذا المفهوم أحدَ الأعمدة الأساسية التي تستندُ إليها الأمم المتحدة لتحقيق الثقة والتعاون مع مختلف الأطراف، خاصة في الأوقات التي تشهد احتدامات سياسية أو نزاعات معقدة.
يتماشى مفهوم الحياد مع المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، التي تُلزمُ الدولَ الأعضاءَ بتسوية نزاعاتها الدولية بالوسائل السلمية والامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو اللجوء إليها، وقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة على أهمية هذه الالتزامات من خلال قرارها 71/275، الذي أشار إلى الأدوار الإيجابية التي يمكن أن تؤديها سياساتُ الحيادِ الوطنيةُ في تعزيز السلام والأمن الدوليين، بالإضافة إلى دورها في بناء علاقات تعاون وثيقة ومتبادلة بين الدول[3]، ومن هذا المنطلق، تُسهمُ سياساتِ الحياد في تعزيز استخدام الدبلوماسية الوقائية، وهي أحد المهامُ الأساسية للأمم المتحدة وجزءٌ رئيسيٌ من مسؤوليات الأمين العام.
في الختام:
تُعتبرُ تجربةُ تركمانستان في مجال إحلال السلام والتعاون الدولي نموذجًا يُحتذى به في عالمنا المعاصر المتشابك، وقد أثبتت الدولة، بفضل حكمتها السياسية ونهْجها البراغماتي، قدرتَها على تحقيقِ توازنٍ دقيقٍ بين مصالحها الوطنية والمسؤوليات الدولية وإن اعتماد الأمم المتحدة لاقتراح تركمانستان بجعل عام 2025 “عام السلام والثقة الدوليين” هو شهادةٌ على هذا الدور الريادي. ولكن، يظل السؤال قائمًا حول كيفية توظيف هذا الدور الإيجابي بشكلٍ أكثرَ تأثيرًا في معالجة الأزمات الراهنة التي تهددُ السِلمَ والأمنَ العالميين، مثل الصراع الروسي الأوكراني والحرب على غزة.
[2] Mehmet Seyfettin, Turkmenistan Foreign Policy and Permanent Neutrality Status on the 30th Anniversary of its Independence, Ankara Center for crisis and policy Studies, 4/10/2021,
