المقالات
الروابطُ العميقةُ: العلاقاتُ التركيةُ الأذربيجانيةُ – دولتانِ وشعبٌ واحدُ
- مايو 15, 2024
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
إعداد: محمود حسن
باحث في شؤون الدول التركية
مقدمة:
منذُ نشأةِ مفهومِ “دولتانِ وشعبٌ واحدٌ”، الذي أطلقهُ مؤسسُ الجمهوريةُ التركيةِ مصطفى كمال أتاتورك وأكدهُ الرئيسُ الحاليُ رجب طيب أردوغان، فإنَّ العلاقاتِ الأخويةَ التركيةَ الأذربيجانيةَ ذاتَ الجذورِ التاريخيةِ العميقةِ والروابطِ الثقافيةِ المشتركةِ تزدهرُ بشكلٍ ديناميكيٍ وناجحٍ في جميعِ المجالاتِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والعسكريةِ، ممَّا يجعلهُا نموذجاً يُحتذىَ به في التعاونِ الإقليميِ.
على الرغمِ منْ وجودِ عقباتٍ متفرقةٍ على السطحِ، إلا أنَّ هذهِ العقباتِ لم تؤثرْ على اتساقِ المواقفِ التركيةِ والأذربيجانيةِ أو على أواصرِ التعاونِ الوثيقةِ بينَ البلدينِ، حيثُ ظلتْ الثقةُ والتفاهمُ المتبادلينِ أساساً للتقدمِ المستمرِ نحو تحقيقِ أهدافٍ مشتركةٍ وتعزيزِ الاستقرارِ والازدهارِ في المنطقةِ.
في هذا السياقِ، يأتيِ استمرارُ الارتباطِ الوثيقِ بين تركيَا وأذربيجان كتأكيدٍ على قوةِ العلاقاتِ الثنائيةِ وعمقِها التاريخيِ، وكذلك كدليلٍ على التزامِ البلدينِ بتعزيزِ التعاونِ المشتركِ في مواجهةِ التحدياتِ الإقليميةِ والدوليةِ وتحقيقِ الازدهارِ المشتركِ لشعبيِهما.
أولًا: العلاقاتُ السياسيةُ:
تُعدُ العلاقاتُ الدبلوماسيةُ التركيةُ-الأذربيجانيةُ أحدَ أقدمِ العلاقاتِ المؤسسيةِ في العالمِ حيثُ تعودُ إلى عامِ إعلانِ استقلالِ جمهوريةِ أذربيجانَ الديمقراطيةِ في 28 مايو 1918 واعترافِ تركيَا كأولِ دولةٍ بالاستقلالِ الأذربيجانيِ، وتمَّ إعادةُ تأسيسِ العلاقاتِ عندما استعادتْ أذربيجانُ استقلالهَا وأصبحتْ تركيَا أولَ دولةٍ – مجدداً – تعترفُ باستقلالهِا في 9 نوفمبر 1991. تُوجتْ العلاقاتُ الدبلوماسيةُ بينَ الدولتينِ في 14 يناير 1992 بافتتاحِ سفارةِ جمهوريةِ أذربيجانَ في أنقرةَ في أغسطسَ 1992 بالإضافةِ إلى قنصليتينِ عامتينِ لأذربيجانَ في إسطنبول وقارص. على الجانبِ الآخرِ، تأسستْ سفارةُ تركيا في أذربيجان في ينايرَ عام 1992. وتوجدُ قنصلياتٌ عامةٌ لتركيا في ناخيتشيفان وغانج.[1]
أما على مستوىَ التنسيقِ السياسيِ فيمكنُ رؤيةُ فاعليتهُ في قسمينِ: الطابعُ المؤسسيُ للعلاقاتِ وموقفُ تركيا الداعمُ بقوةٍ لأذربيجانَ بحربِ أرمينيا. أولاً، تتداخلُ المؤسساتُ السياسيةُ في الدولتينِ إلى حدٍ كبيرٍ مما يضمنُ التنسيقَ المشتركَ في الملفاتِ المختلفة. على سبيلِ المثالِ، يوجدُ فريقُ عملٍ للعلاقاتِ البرلمانيةِ الأذربيجانيةِ التركيةِ في “المجلسِ المليِ”-برلمانِ أذربيجان- وتتكونُ المجموعةُ من 59 عضوًا من البرلمانِ الأذربيجانيِ بينَما يصلُ عددُ أعضاءِ مجموعةِ الصداقةِ ذاتِها بتركَيا إلى 10 أعضاءٍ، ولضمانِ تنسيقٍ أكثرَ وثاقةٍ، تمَّ تأسيسُ مجلسُ التعاونِ الاستراتيجيِ والذي تمَّ إنشاؤُه بموجبِ الإعلانِ المشتركِ الموقعِ في اسطنبول في 15 سبتمبر 2010، لضمانِ متابعةٍ دوريةٍ لكافةِ الملفاتِ الثنائيةِ والقضايَا الإقليميةِ التي تجمعُ الدولتينِ.
علاوةً على ذلكَ، تلعبُ الزياراتُ المتبادلةُ والمنتظمةُ بينَ زعيميِ تركيا وأذربيجانَ رجب طيب أردوغان وإلهام علييف، على الترتيبِ، دوراً حيوياً في تعاونِ الدولتينِ في كافةِ الاتجاهات وتؤدي إلى نتائجَ متميزةٍ. وفي هذا الصددِ، قامَ رئيسا جمهوريةِ أذربيجانَ بأكثرَ من 44 زيارةً رسميةً وزيارةَ عملٍ إلى تركيَا في الفترةِ 1994-2024. وفي هذهِ الأثناءِ، قامَ الرئيسانِ التركيانِ بأكثرَ من 24 زيارةٍ إلى أذربيجانَ خلالَ هذهِ الفترةِ. وهذا يعكسُ كثافةَ التواصلِ الدبلوماسيِ والسياسيِ بينَ الدولتينِ وزخمَ العلاقاتِ البينيةِ.
ثانيًا، قدمتْ تركيا دعماً كبيراً على المستويينِ المعنويِ والدبلوماسيِ لأذربيجانَ خلالَ صراعِها المتجددِ مع أرمينِيا حولَ إقليمِ “كاراباخ” في سنواتِ 1992 و2020 و2023. وقامتْ أنقرةُ بدعمِ سرديةِ أذربيجان حولَ الإقليمِ المتمثلةِ في “عدمِ قانونيةِ الاحتلالِ” و”موقفِ أذربيجانَ العادل” خلالَ إعادةِ إنتاجِها بشكلٍ مستمرٍ بخطاباتِ أردوغان. وقد بلغتْ العلاقاتُ الثنائيةُ ذروتَها بتصديقِ برلمانيِ الدولتينِ على إعلانِ “شوشا” الصادرِ بتاريخِ 15 يونيو 2021. ومثّلَ هذا الإعلانُ طفرةً بمستوىَ العلاقاتِ كونهُ ارتقىَ بجميعِِ أشكالِ التفاعلاتِ الثنائيةِ بينَ البلدينِ وألزمَ أنقرةَ وباكو بتنسيقِ جميعِ الملفاتِ بشكلٍ دوريٍ. ناهيكَ عنْ وجودِ أهميةٍ رمزيةٍ لتوقيعِ الإعلانِ بمدينةِ “شوشا” نظراً لكونِها المدينةَ التاريخيةَ والثقافيةَ لإقليمِ “كاراباخ” ممَا يرسخُ سيادةَ أذربيجانِ على الإقليمِ ويؤكدُ على دعمِ تركيا لأذربيجانِ بأيِ مفاوضاتٍ أو مواجهاتٍ مستقبليةٍ مع أرمينِيا.
كذلكَ، يُعطيِ انخراطَ تركيا المستمرَ في الشئونِ القوقازيةِ لأنقرةَ ثقلاً مهماً بالإقليمِ ويقدمُ أنقرةَ كراعٍ أمنيٍ بديلٍ عنْ موسكو والتي هيمنتْ تاريخياً على المنطقةِ إلا أنَّ انشغالَ روسيَا بالحربِ في أوكرانيَا وعدمَ تقديمِها مساعدةً ملموسةً لأرمينِيا بحربِ 2023 في مواجهةِ أذربيجان أثارَ شكوكاً للدولِ القوقازيةِ الأخرىَ حولَ مصداقيةِ روسيا كحليفٍ موثوقٍ، بلْ وفي أهميةِ معاهدةِ الأمنِ الجماعيِ العسكريةِ الموقعةِ بينَ دولِ القوقازِ وروسيا. بالتاليِ، تركَيا بما تمتلكهُ منْ قدراتٍ عسكريةٍ هائلةٍ وروابطَ لغويةٍ وثقافيةٍ معَ دولِ الإقليمِ تستطيعُ ملأَ الفراغِ الروسيِ في المنطقةِ وتعزيزَ دورِ منظمةِ “الدولِ التركيةِ” كبديلٍ عن معاهداتٍ روسيةٍ أو غيرِها.[2]
ثانيًا: العلاقاتُ العسكريةُ:
تعدُ العلاقاتُ العسكريةُ أحدَ أهمِ أبعادِ العلاقاتِ التركية-الأذربيجانية. وعلى مدى 30 عاما، تمَّ توقيعُ العديدِ من الاتفاقياتِ والبروتوكولاتِ بينَ البلدينِ، ممَّا ساهمَ في تطويرِ علاقاتهِما العسكرية. كانَ المبدأُ الأساسيُ لهذهِ العلاقةِ العسكريةِ هو تلبيةَ احتياجاتِ تدريبِ الضباطِ في الجيشِ الأذربيجانيِ. وفي السنواتِ اللاحقةِ، توسعَ هذا التعاونُ ليشملَ التدريباتِ العسكريةَ المشتركةَ والتعاونَ في قطاعِ الدفاعِ. وكان ذروةُ التعاونِ العسكريِ بينَ البلدينِ إعلانَ “شوشا” بشأنِ علاقاتِ الحلفاءِ السالفِ ذكرهِ.
على سبيلِ المثالِ، تمَّ التوقيعُ على أربعِ اتفاقياتٍ أساسيةٍ بينَ أذربيجان وتركيا تشكلُ أساسَ تعاونِهما العسكريِ وتحددُ اتجاهَ العلاقةِ: اتفاقيةُ التعاونِ في مجالِ التدريبِ العسكريِ لعامِ 1992؛ واتفاقيةُ التعليمِ العسكريِ والتعاونِ الفنيِ والعلميِ الموقعةِ بينَ الطرفينِ في 10 يونيو 1996؛ واتفاقيةُ الشراكةِ الاستراتيجيةِ والمساعدةِ المتبادلةِ في 16 أغسطس 2010؛ وإعلانُ “شوشا” بشأنِ علاقاتِ الحلفاءِ في 15 يونيو 2021.[3]
كمَا امتدَ هذا التعاونُ والتنسيقُ العسكريُ إلى الحروبِ الأرمينيةِ-الأذربيجانيةِ واتخذَ أشكالاً عدةً مثلَ تدريبِ الضباطِ في الجيشِ الأذربيجانيِ، تقديمَ الدعمِ الاستخباراتيِ خصوصاً بحربِ “كاراباخ الثانية” عامَ 2020. خلال هذا الصراع، زودتْ تركيا أذربيجانَ بمركباتٍ جويةٍ بدونِ طيارٍ (UAV)، وتحديداً طائراتِ بيرقدار TB2 بدونِ طيارٍ، وأنظمةَ الدفاعِ الجويِ مثلَ القنابلِ الموجهةِ بالليزرِ منْ نوعِ MAM-L من روكيتسان، مما ساهمَ في انتصارِ أذربيجانِ العسكريِ على منطقةِ “كاراباخ” المتنازعِ عليَها. وقد كانَ لهذا الدعمِ التركيِ غيرِ المحدودِ التأثيرِ الأكبرِ في تقويةِ يدِ أذربيجان بالمفاوضاتِ الدبلوماسيةِ عقبَ حربيِ 2020 و2023 مما أسهمَ في تقديمِ أرمينيا لتنازلاتٍ مهمةٍ ومنَها إعادةُ أربعِ قرىً أذربيجانيةِ لحكومةِ باكو بتاريخِ 19 أبريل 2024. عبرَ عنْ التأثيرِ التركيِ وزيرُ الدفاعِ التركيِ يشار غولر خلالَ اللقاءِ الذي جمعهُ بالرئيسِ الأذربيجانيِ إلهام علييف بتاريخِ 27 أغسطسَ 2023 منْ خلالِ التأكيدِ أن “تركيَا تدعمُ أذربيجانَ في ساحةِ المعركةِ وفي طاولةِ المفاوضات”. [4]
وكتعبيرٍ عن استعراضِ القوةِ وتأكيدِ التحالفِ الأذربيجاني-التركي، عقدتْ القواتُ المسلحةُ التركيةُ والأذربيجانيةُ عدداً من المناوراتِ والتدريباتِ المشتركةِ لعلَّ أهمَها “مناوراتُ الإخوِة الثلاثةِ 2021” والتي ضمتْ باكستانَ بجانبِ تركيا وأذربيجان بالإضافةِ إلى “مناوراتِ مصطفى كمال أتاتورك 2023” والتي عبرتْ عن رمزيةٍ مهمةٍ لعدةِ عواملَ، الأول، إجراءُ المناوراتِ بالأراضيِ الأذربيجانيةِ المحررةِ منَ “الاحتلالِ الأرمينيِ” في رسالةِ تهديدٍ غيرِ مباشرةٍ لأرمينِيا. الثاني، حجمُ القواتِ المشاركةِ في التدريباتِ والتي وصلتْ ل 3 آلافِ جندي، ونحو 130 دبابةً ومدرعةً، و100 مدفع، و20 مقاتلةً ومروحيةً، مما يعبرُ عن استعراضٍ لقوةِ الدولتينِ وقدرةِ هذهِ القواتِ على العملِ بشكلٍ منسقٍ. الثالث، أنَّ المناوراتِ جرتْ بالتزامنِ معَ استضافةِ طهران الاجتماع الثاني لدول صيغة «3 + 3» بمشاركةِ وزراءِ خارجيةِ أرمينيا وأذربيجان، وروسيا، وتركيا، وإيران. لذلك، يمكنُ رؤيةُ هذه المناوراتِ كداعمٍ لصلابةِ الموقفِ التركيِ-الأذربيجانيِ خلالَ المفاوضاتِ أكثرَ منْ تعبيرهِ عن أهدافٍ عسكريةٍ.[5][6]
وأخيراً، تنتهجُ تركيَا وأذربيجانُ نهجاً جديداً في تقويةِ الأواصرِ العسكريةِ بينهَما لتفعيلهِ لمحاربةِ الإرهابِ في المناطقِ الحدوديةِ وتأمينِها لتكونَ قادرةً على إطلاقِ مشروعاتِ التنميةِ الاقتصاديةِ والتي حكومتي أردوغان وإلهام علييف بصددِ تنفيذها وعلى رأسها ممر “زانجزور”. نتيجةً لذلك، يقعَ ملفُ مكافحةِ الإرهابِ في جوهرِ المناقشاتِ العسكريةِ بينهَما لتوفيرِ البيئةِ الأمنيةِ المناسبة لمثلِ هذهِ المشروعاتِ. وهذا اتضحَ جلياً خلالَ اجتماعِ 28 نوفمبرَ 2023 والذي جمعَ وزيرَ الدفاعِ التركيِ يشار غولر، معَ نظيريهِ الأذربيجانيِ ذاكر حسنوف، والجورجيِ جوانشير بورشولادزه، في العاصمةِ الأذربيجانيةِ باكو، لمعالجةِ كيفيةِ التقدمِ على هذه المحاور.
ثالثًا: العلاقاتُ الاقتصاديةُ:
تمتدُ العلاقاتُ الثنائيةُ بينَ أذربيجان وتركيا إلى آفاقٍ اقتصاديةٍ متعددةٍ. على سبيلِ المثالِ، وقّعَ مسؤولونَ أتراكٌ وأذربيجانيونَ، بتاريخِ 19 فبراير 2024 على هامشِ لقاءِ رئيسيِ البلدينِ في أنقرةَ، ثلاثَ اتفاقياتٍ اقتصاديةٍ مهمةٍ تضمنتْ التعاونَ في مجالاتِ الضرائبِ لمنعِ الازدواجِ الضريبيِ ومكافحةِ التهربِ الضريبيِ. ووفقاً لبياناتِ لجنةِ الجماركِ الحكوميةِ الأذربيجانيةِ، بلغَ حجمُ التبادلِ التجاريِ التركيِ-الأذربيجانيِ 7.65 مليارَ دولار لعامِ 2023 محققاً زيادةً عملاقةً بنسبةِ 31% عن عامِ 2022 لتحلَ تركيا في المرتبةِ الثانيةِ بعدَ إيطاليَا من حيثُ حجمِ التبادلِ التجاريِ معَ أذربيجان.[7][8]
ويعدُ مشروعُ “ممر زانجزور” أحدَ أهمِ ركائزِ العلاقاتِ الاقتصاديةِ البينيةِ. يهدفُ المشروعُ إلى ربطِ أذربيجان بجمهوريةِ ناختشيفان الأذربيجانيةِ المتمتعةِ بالحكمِ الذاتيِ ومنَها إلى تركيا عبرَ إنشاءِ مجموعةٍ من الطرقِ البريةِ والسككِ الحديديةِ عبرَ الحدودِ الأرمينيةِ-الإيرانيةِ. وعبرَ أردوغانُ عن حماسهِ لتنفيذِ المشروعِ في سبتمبرَ 2023، لمَا لهُ منْ عوائدَ اقتصاديةِ هائلةٍ على تركيا كونهُ سيحولهُا إلى مركزِ نقلِ الطاقةِ والغازِ الأذربيجانيِ إلى أوروبا ممثلاً بديلاً للغازِ الروسي والذي تعانيِ الاقتصاداتُ الأوروبيةُ بغيابهِ.
على النقيضِ، تُبديِ يريفانُ وطهرانُ موقفاً متشدداً مناهضاً للمشروعِ كونهُ سيفتحُ البابَ نحوَ تعاونٍ أوثقٍ بينَ الدولِةِ التركيةِ من جهةٍ وسيعزلُ أرمينيا عنْ أهمِ حلفائِها -إيران- من جهةٍ أخرى. كذلكَ، يسحبُ الممرُ بساطَ مشروعاتِ “طريقِ الحريِر الصيني ” الجديدِ من تحتِ أقدامِ طهرانَ لقِصرِ المسافةِ بينَ أوروبَا والقوقاز. عبرَ عنْ ذلكَ وزيرُ النقلِ والبنيةِ التحتيةِ التركيِ عبد القادر أورال أوغلو بوصفهِ أنَّ “المشروعَ سينقلُ البضائعَ بين بكينَ ولندن بسهولةٍ”، في 13 يناير 2024. كما أكدَ الأخيرُ أن المشروعَ محورُ اهتمامِ الساسةِ الأتراكِ والأذربيجانيين لعام 2024. لذلكَ، يبرزُ الدورُ التركيُ الفاعلُ في ممارسةِ الضغوطِ على كلٍ من إيرانَ وأرمينيا لقبولِ المشروعِ بالإضافةِ إلى العملِ على تنفيذِ البنيةِ التحتيةِ المتعلقةِ بالمشروعِ داخلَ أذربيجان. نتيجةً لذلك، تمَّ الانتهاءُ من 80% من أعمالِ الطرقِ البريةِ، و45% منَ السكةِ الحديديةِ على الأراضيِ الأذربيجانيةِ دونَ حدوثِ تقدمٍ مماثلٍ على الجانبِ الأرمينيِ.[9]
كما امتدَ الانخراطُ الاقتصاديُ التركيُ إلى مشاركةِ الشركاتِ التركيةِ بنشاطٍ في أعمالِ إعادةِ إعمارِ الأراضيِ التي أصبحتْ تحتَ السيطرةِ الأذربيجانيةِ بعدَ حربِ الـ 44 يومًا التي اندلعتْ في سبتمبرَ 2023. علاوةً على ذلكَ، زارَ الرئيسُ التركيُ رجب طيب أردوغان عدةَ مراتٍ المطاراتِ التي افتتحتْ حديثاً في فضولي وزانجيلان كتعبيرٍ عن إسهامِ الشركاتِ التركيةِ في هذهِ المشروعاتِ.[10]
التحدياتُ أمامَ مستقبلِ العلاقاتِ التركيةِ-الأذربيجانيةِ:
ورغمَ متانةِ العلاقةِ التركيةِ-الأذربيجانيةِ إلا أنَّ مستقبلَها يشوبهُ بعضُ التحدياتِ وإن كانتْ ضعيفةَ التأثيرِ ولعلَّ أهمَها ما يلي:
(1) العلاقةُ معَ إسرائيلَ: أصابَ العلاقاتُ التركيةُ-الأذربيجانيةُ توتراً ملحوظاً في فبرايرَ الماضيِ عندما ضبطتْ الشرطةُ الإسرائيليةُ أسلحةً على الحدودِ معَ الأردن تضمنتْ 137 قطعةَ سلاحٍ ناريٍ، منهَا 120 مسدساً و17 بندقيةً هجوميةً من طرازِ م-16، فضلاً عن 250 خزنةَ خراطيشِ مسدساتٌ ورشاشاتٍ مخزنةٍ في أكياسٍ، بقيمةٍ تبلغُ 1.6 مليون دولارٍ، وكلّها ممهورةٌ بعبارةِ “صنعَ في أذربيجان”. كادتْ الحادثةُ أن تفجرَ العلاقاتِ الأذربيجانيةَ-الإسرائيليةَ – والتي تعدُ أحدَ أهمِّ أوثقِ العلاقاتِ في المنطقةِ خاصةً بمجالِ التعاونِ العسكريِ إلا أنَّ تحقيقاتِ الدولةِ الأذربيجانيةِ أثبتتْ أنَّ الأسلحةَ “تركيةُ الصنعِ”. بالتالي، نظراً للحادثةِ منْ عدساتٍ أذربيجانيةٓ أن أنقرةَ رغبتْ بتقديمِ الدعمِ للمقاومةِ الفلسطينيةِ على حسابِ مصالحَ باكو. لكن، لم تحققْ الحادثةُ توتراً دبلوماسياً يؤثرُ على شكلِ العلاقاتِ الثنائيةِ وتمَّ الاكتفاءُ بمناقشتهِ عبرَ قنواتِ الاتصالِ الاستخباراتيةِ.[11]
(2) التوتراتُ الأذربيجانيةُ-الإيرانيةُ: لعلَّ تصاعدَ التوتراتِ الأذربيجانيةِ -الإيرانيةِ قد يلعبُ دوراً حيوياً في محاولةِ تركيا أنْ تنأىَ بنفسِها عن أيِ صدامٍ مباشرٍ معَ طهرانَ والتي تتعددُ محاورُ خلافهِا مع باكو.[12] أولاً، الشراكةُ الأذربيجانيةُ-الإسرائيليةُ المذكورةُ أعلاهُ تمثلُ تهديداً للمصالحِ الإيرانيةِ ولعلَّ أهمَها برنامجُ الأخيرةِ النوويِ والذي تستهدفُ إسرائيلُ تدميرَه منذُ سنواتٍ. لذلك، تخشىَ طهرانُ إمكانيةَ استخدامِ سلاحِ الجوِ الإسرائيليِ للأراضيِ الأذربيجانيةِ كقاعدةِ انطلاقٍ نحوهَا في ضوءِ التنسيقِ العسكريِ الملحوظِ.
ثانيًا، افتتاحُ إيرانَ لقنصليِتها بأرمينِيا بمنطقةِ كابان بمقاطعةِ سيونيك بتاريخِ 21 أكتوبر 2022. ويحملُ مكانَ افتتاحِ القنصليةِ رمزيةً خاصةً، لوقوعهِ بالقربِ منَ المسارِ المخططِ لممرِ “زانجيزور”، في إشارةٍ إيرانيةٍ أن الحدودَ مع جارتِها الشماليةِ غيرِ قابلةٍ للتغييرِ.
ثالثًا، والتي ترتبطُ بشكلٍ مباشرٍ بأنقرةَ وهي تصاعدُ خطابِ قوميةِ الدولِ التركيةِ والتي تعتبرهُ طهرانُ تهديداً لوحدةِ أراضيِها بالأخذِ في الاعتبارِ وجودُ الأقليةِ الأذريةِ في إيرانَ والذين يمثلونَ قرابةَ 15-20% منْ عددِ سكانِها، فمنذُ استقلالِها تنظرُ إليها طهرانُ بقلقٍ بالغٍ، فمجردُ وجودُ دولةٍ تُسمىَ أذربيجانَ يحيي آمالَ الاستقلالَ لدىَ السكانِ الآذريينَ القاطنينَ شماليِ إيران.
بالتالي، سيقتصرُ الدعمُ التركيُ على تقديمِ الوساطةِ لحلِ المشكلاتِ بما يخدمُ مصالحَها خصوصاً بملفِ ممرِ “زانجيزور”. بالتالي، لن تخاطرَ تركيا بالمراهنةِ المباشرةِ على أذربيجانِ في نزاعٍ تختلفُ حساباتهُ كثيراً عن نظيرهِ معَ أرمينيا لتغايرِ القدراتِ العسكريةِ والتأثيراتِ الجيوسياسيةِ للدولتينِ. لكنْ، يبدو أن إيرانَ التي تعاني من عزلةٍ دبلوماسيةٍ خانقةٍ آثرَ حوادثِ التوترِ معَ إسرائيلَ بأبريل المنصرمِ، لنٰ تخاطرَ بالمزيدِ منَ العزلةِ معَ جيرانِها المباشرينَ لذلك ستُبدي مرونةً أكبرَ في الملفاتِ العالقةِ. هذا يجعلُ تأثيرَ هذا العاملِ أيضاً على قوةِ العلاقاتِ بين باكو وأنقرة هشاً.
(3) احتماليةُ التغييرِ السياسيِ للأنظمةِ الحاكمةِ: وإنْ كانَ هذا الاحتمالُ مستبعداً للغايةِ نظراً لفوزِ أردوغان بولايةٍ رئاسيةٍ جديدةٍ بالانتخاباتِ العامةِ المنعقدةِ مايو 2023 والتي ضمنتْ له البقاءَ في السلطةِ – على الأقلِ – حتَّى عامِ 2028. ورغمَ وجودِ فرصٍ متعددةٍ للرئيسِ التركيِ للمناورةِ السياسيةِ لتمديدِ فترةِ حكمهِ للبلادِ ومن ضمنِها حثُ حزبيِ العدالةِ والتنميةِ والحركةِ القوميةِ وغيرِها منَ الأحزابِ مستقبلاً التي قدْ تؤيدُ إجراءَ انتخاباتٍ رئاسيةٍ مبكرةٍ تتيحُ لأردوغانَ دستورياً الترشحَ لولايةٍ جديدةٍ، لقاءَ بعضِ التنازلاتِ لهذهِ الأحزابِ ولعلَّ في مقدمتِها حزبَ المساواةِ والديمقراطيةِ الداعمَ للحقوقِ الكرديةِ.[13]
إذاً، معَ وجودِ هذهِ الآليةِ التي تضمنُ وجودَ حليفٍ إلهام علييف في سُدةِ الحكمِ في تركيا، إلا أنَّ الانتخاباتِ المحليةَ المنصرمةَ والتي عُقدتْ بتاريخِ 31 مارس 2024، أثبتتْ تضاؤلَ شعبيةِ أردوغان وتصاعدَ الحراكِ القوميِ التركيِ المتمثلِ بحزبِ الشعبِ الجمهوريِ والذي حققَ فوزاً مهماً في الانتخاباتِ الماضيةِ وضعَ زعيمَ بلديةِ إسطنبول الموالي له، أكرم إمام أوغلو، كأحدِ أهمِّ الأسماءِ المرشحةِ لحكمِ تركيَا مستقبلاً. ومن الأهميةِ بمكانٍ ذكرُ أنَّ الأحزابَ القوميةَ والأحزابَ الحاكمةَ عموماً – باستثناءِ العدالةِ والتنميةِ- تتبنَى سياسةً خارجيةً تقتصرُ على التفاعلاتِ معَ الدولِ الغربيةِ وتقللُ منْ أهميةِ المحيطِ الجغرافيِ التركيِ والعواملِ الأيدولوجيةِ مثلَ قوميةِ الدولِ التركيةِ كمحددٍ لسياسةِ أنقرةَ الخارجيةِ. بالتالي، بتضعضعُ هذينِ العاملينِ المساهمينِ بفاعليةٍ في التقاربِ التركيِ الأذربيجانيِ، تنكمشُ مساحةُ التوافقِ والتنسيقِ بين البلدينِ. بغيابِ العدالةِ والتنميةِ قد نشهدُ موقفاً مماثلاً لحربِ “كاراباخ” الأولى عندمَا طلبَ الرئيسُ الأذربيجانيُ آنذاكَ أبو الفاز الشيبي من تركيَا عدةَ طائراتٍ هليكوبتر لنقلِ المدنيينَ – ولكنَّ طلبَه قوبلَ بالرفضِ. [14]
وإن كانَ احتماليةُ مغادرةِ أردوغان لسدةِ الحكمِ في تركيا مستبعداً إلى حدٍ كبيرٍ في المستقبلِ القريب. فعلى الجانبِ الآخرِ، لا توجدُ أيةُ مؤشراتٍ لتحققِ الأمرِ ذاتهِ في الجبهةِ الأذربيجانيةِ بحكمِ فوزِ إلهام علييف بالانتخاباتِ الرئاسيةِ المنعقدةِ بتاريخِ 8 فبراير 2024 لولايةٍ خامسةٍ. كذلكَ، يغيبُ المنافسُ الحقيقيُ القادرُ على خلقِ التغييرِ في المشهدِ السياسيِ الأذربيجانيِ عكسَ نظيرهِ التركيِ.[15]
ختامًا:
ربمَا تُعدُ العلاقاتُ الأذربيجانيةُ-التركيةُ أحدَ أوثقِ العلاقاتِ الثنائيةِ في العالمِ لمَا يجمعُ الدولتينِ من روابطَ لغويةٍ وثقافيةٍ أسهمتْ في مدِّ أواصرِ التعاونِ إلى كافةِ النواحيِ السياسيةِ والاقتصاديةِ والعسكريةِ. ومعَ استبعادِ حدوثِ تغيرٍ قريبِ المدى في الأنظمةِ الحاكمةِ للدولتينِ يتوقعُ لهذهِ العلاقاتِ النموُ في جميعِ المجالاتِ ورفعُ مستوىَ التبادلِ التجاريِ بما يعززُ انفتاحَ أذربيجانَ الاقتصاديِ على العالمِ ويحولُ تركيا لمركزٍ عالميٍ لنقلِ الطاقةِ. كذلكَ، يتوقعُ حدوثُ تطبيعٍ ومصالحةٍ كاملةٍ بينَ تركيا وأذربيجان من جهةٍ وأرمينيا منْ جهةٍ أخرىَ كونُ الأخيرةِ فقدتْ نفوذَها السياسيَ خلالَ المفاوضاتِ وبدأتْ بالفعلِ في تقديمِ تنازلاتٍ لإنهاءِ الوحشةِ السياسيةِ معَ البلدينِ بينمَا على الجانبِ الآخرِ، يظهرُ التحالف الأذربيجاني-التركي على أنه “غير قابل للانكسار” في الوقتِ الحاليِ مما يعززُ فرضيةَ التطبيعِ.
المصادر:
[1] Relations between Türkiye and Azerbaijan, Republic of Türkiye Ministry of Foreign affairs, Available at: https://www.mfa.gov.tr/relations-between-turkiye-and-azerbaijan.en.mfa
[2] في ظل تراجع روسيا.. الدور التركي قد يُقرّب أذربيجان وأرمينيا من الغرب، أرم نيوز، 29/4/2024، متاح على الرابط التالي: https://www.eremnews.com/news/world/zvnbc2kmlq
[3] Cavid Veliyev, Azerbaijan-Türkiye Military Relations in the Shadow of the Negotiations with Armenia, The Moshe Dayan Center for Middle Eastern and African Studies, 23/8/2023, Available at https://dayan.org/content/azerbaijan-turkiye-military-relations-shadow-negotiations-armenia
[4] Josephine Freund, Strong Azerbaijani-Turkish Relations Reinforced through Güler’s Visit to Azerbaijan, Caspian Policy Center, 29/8/2023, Available at
[5] محادثات عسكرية رفيعة بين تركيا وأذربيجان وجورجيا في باكو، TRT عربي، 28/11/2024، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/J57qSHQL.
[6] سعيد عبد الرازق، تركيا وأذربيجان تطلقان مناورات «أتاتورك 2023»، جريدة الشرق الأوسط، 23/10/2023، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/WbImYdoj.
[7] مؤمن ألتاش، علاء الدين مصطفى أوغلو، تركيا وأذربيجان تبرمان 3 اتفاقيات، وكالة أنباء الأناضول، 19/2/2024, متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/r10s2s9.
[8] رسلان ريهموف، سامي سوتا، التبادل التجاري بين تركيا وأذربيجان يسجل 7.65 مليارات دولار في 2023, وكالة أنباء الاناضول, 22/1/2024,، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/oPC05U9s.
[9] ممر زنغزور.. شريان بين تركيا وأذربيجان يعزز تجارة آسيا وأوروبا، صحيفة العربي الجديد، 13/1/2024، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/IXOdm37f.
[10] Ismi Aghayev, The Turkish elections could cost Azerbaijan a friend, IPS Journal, 4/5/2023, Available at: https://2u.pw/GpJS2lWr.
[11] عماد الشدياق، علاقات تركيا وأذربيجان إلى مزيد من التعقيد بسبب غزة، صحيفة القدس العربي، 23/2/2024، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/4AxLewcG.
[12] شروق صابر، تراكم الأزمات: هل تتصاعد الخلافات بين إيران وأذربيجان؟، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية, 6/2/2023، متاح على الرابط التالي: https://acpss.ahram.org.eg/News/17763.aspx
[13] “آخر انتخابات لي”.. ما “الرسائل” التي تحملها كلمات أردوغان ومن أبرز المرشحين لخلافته؟، قناة الحرة، 9/3/2024، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/CqN0jeB7.
[14] أكرم إمام أوغلو احتفظ بإسطنبول وهزم أردوغان.. ويستعد لزعامة تركيا، العربية.نت، 1/4/2024، متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/8cpZ3w2V.
[15] أذربيجان.. علييف يفوز بولاية رئاسية خامسة، سكاي نيوز عربية, 8/2/2024, متاح على الرابط التالي: https://2u.pw/UbX2g4NF.