في خِضمِّ التحولاتِ الكبرى التي يشهدها العالم، تَبرزُ المملكةُ العربية السعودية كقوةٍ سياسيةٍ واقتصادية تتحدى التوقعات وتُعيدُ رسْمَ خريطة التأثير في العالم؛ لتصبحَ محطَ أنظار القوى العظمى عبر تبنيها سياسةً خارجيةً إيجابية قوامها الانفتاح على القوى الكبرى وتصفير الخلافات، وذلك انطلاقاً من دورها المحوري ومكانتها بوصفها صانعاً للسلام العالمي عبر جهودها في إيجاد حلولٍ للأزمات والتحديات الدولية، ودعم المساعي الهادفة إلى تحقيق الأمن والاستقرار للعالم أجمع.
وفي خطوةٍ تعكسُ الدورَ المتنامي للمملكة في الساحة العالمية، والذي يتجاوزُ حدودَ منطقة الشرق الأوسط ليصلَ إلى التأثيرِ في صناعة القرارات الكبرى على المستوى الدولي، تم اختيار الرياض لاستضافة القمة الأمريكية – الروسية المرتقبة بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، والتي تُعدُ بمثابة رسالةٍ عالميةٍ تترجمُ طموحاتِ السعودية الاستراتيجية في دورها كمحرك رئيسي للسياسة العالمية.
فمع هذه المكانة المتصاعدة والقدرة على استضافة مثل هذه القمم، هل أصبحتْ الرياض فعلاً “عاصمة الشرق الأوسط”؟ وهل باتتْ المملكةُ تقودُ التحولاتِ الكبرى في المنطقة والعالم، لتصبحَ مركزاً لا غنىً عنه في رسْمِ خرائط السياسة والاقتصاد الدولي؟
دلالاتُ اختيارِ السعودية لاستضافةِ القمة الأمريكية الروسية المرتقبة:
انطلقتْ المباحثاتُ، الثلاثاء 18 فبراير، بين وزيرا الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، ونظيره الروسي سيرجى لافروف، في العاصمة السعودية الرياض، بشأنِ تطبيعِ العلاقات الأمريكية الروسية، والتحضير لقمةٍ مرتقبةٍ بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، تمهد بدورها لخلْقِ مسارٍ تفاوضيٍ للأزمة الروسية الأوكرانية في نهاية المطاف. وستواصلُ الوفودُ الأمريكية والروسية اجتماعاتها وبالتنسيق مع الجانب السعودي للتحضير لكافة إجراءات القمة الروسية الأمريكية المرتقبة.[1]
وتأتي استضافةُ المملكة العربية السعودية لهذه القمة المرتقبة ضمنَ جهودِها المتواصلة لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، ويحملُ اختيار الرياض كداعمٍ للقمةِ المقبلة بين ترامب وبوتين دلالات استراتيجية عميقة، تؤكدُ مكانةَ السعودية كلاعبٍ إقليميٍ ودوليٍ عبر قيامها بدورِ الوسيط المحايد، فالمملكة لا تقتصر على كونها لاعباً اقتصادياً في أسواق النفط العالمية، بل أصبحت أيضاً واحدةً من القوى الدبلوماسية المؤثرة في حل الأزمات الإقليمية والدولية. وبالتالي هناك عدةُ عوامل تجعلُ من الرياض الخيار الأمثل لهذه القمة:
– سياسةُ الحيادِ الإيجابي للسعودية: انتهجت الرياض سياسة الحياد الإيجابي منذ بدايةِ الحرب الروسية الأوكرانية، وامتنعتْ عن الانضمام إلى الغرب في انتقاد موسكو، الأمرُ الذي مكنّها من توثيقِ علاقاتها مع جميعِ الأطراف الدولية سواء الجانب الأمريكي أو الروسي أو الاتحاد الأوروبي أو الصين، وبالتالي فقد لعبتْ سياسةُ الحياد دوراً هاماً في جعْلِ الرياض نقطةَ التقاءٍ بين واشنطن وموسكو، فالمعروف تاريخياً أن اللقاءات الروسية الأمريكية إما أن تكون في جنيف أو هلسنكي أو ريكيافيك، ولكنها الآن خارج القطر الأوروبي نظراً لخروجِ بعضِ الدول الأوروبية من معادلة الحياد بسبب الحرب الأوكرانية.[2]
– دورُ السعودية كوسيطٍ دولي: أثبتتْ السعودية قدرتها على لَعبِ دورِ الوساطةِ الفعالة في القضايا الإقليمية والدولية، حيث أصبحت الرياض أحدَ الأطراف التي يسعى إليها العالم للتوسط في النزاعات الكبرى، مثل الأزمات في اليمن وسوريا ولبنان وغزة، إضافةً إلى النزاع بين روسيا وأوكرانيا. وتجدرُ الإشارةُ إلى دورِ ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في جهوده السابقة لحلحة القضية الأوكرانية عبر اتصالاته المنتظمة مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي، والتوسط بين روسيا وأوكرانيا لتبادل الأسرى، فضلاً عن تقديمِ حزمةِ مساعداتٍ إنسانيةٍ لأوكرانيا بقيمة 400 مليون دولار. وبالتالي فإن استضافةَ هذه القمة سيعززُ من مكانةِ السعودية بدرجةٍ أكبر كداعمٍ للسلام وحلِّ النزاعات في الشرق الأوسط وفي العالم.
– ثِقلُها السياسي والاقتصادي العالمي:تعتبرُ السعودية من أبرزِ القوى الاقتصادية في المنطقة والعالم، وذلك بفضلِ مكانتها كمصدرٍ رئيسيٍ للطاقة، فهي عضوٌ في مجموعة العشرين، ولها دورٌ مؤثرٌ في العديد من القضايا العالمية مثل الطاقة، الأمن الإقليمي، الاقتصاد، والاستثمار، كما أنها تُعدُ واحدةً من أكبر شركاء التجارة والاقتصاد للعديد من الدول الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة وروسيا.
– الاستقرارُ السياسيُ والأمني: فالسعودية تُعتبر من الدول المستقرة في منطقةٍ مشتعلةٍ بالصراعات، مما يمنحها القدرةَ على ضمان أجواء آمنة لاستضافة قمة عالمية كهذه، علاوة على ذلك، لديها القدرة على تنظيمِ وتأمينِ أحداثٍ عالميةٍ ضخمةٍ، مما يجعلها المكانَ الأمثل للقاءات من هذا النوع. كما أنها ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرةَ اعتقالٍ بحق الرئيس الروسي بوتين، وهو ما يضمن عدم تعرضه للاعتقال خلال القمة المرتقبة.
– رؤيةُ المملكة 2030: تسعى السعوديةُ في السنوات الأخيرة إلى تعزيزِ مكانتِها كقوةٍ دبلوماسية عالمية، خاصة في سياق رؤيتها “رؤية 2030” التي تعمل على تعزيزِ نقاط القوة من خلال الموقع الجيوسياسي والمكانة الاقتصادية، مما يعززُ من التنوعِ الاقتصادي والانفتاح على العالم، وبالتالي فاستضافة قمةٍ أمريكيةٍ – روسية ستكون جزءاً من هذه الجهود لتعزيز دور المملكة على الساحة الدولية.
– العلاقاتُ الإستراتيجيةُ القوية مع الولايات المتحدة وروسيا: تتمتعُ السعوديةُ بعلاقاتٍ دبلوماسية واقتصادية عميقةٍ مع كل من واشنطن وموسكو، فبالنسبة لأمريكا، فإن المملكة العربية السعودية تربطها علاقاتٌ استراتيجيةٌ قويةٌ مع الولايات المتحدة منذ عقود، خاصة في مجالات الطاقة والأمن، وتشمل هذه العلاقات أيضاً التعاون في مكافحة الإرهاب، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، ودعمَ الأمنِ الإقليميِ في منطقة الخليج. وبالتالي فوجود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض كأولى محطاته الخارجية بعد تنصيبه، يعززُ من موقفِ المملكة كحليفٍ أساسيٍ لأمريكا في الشرق الأوسط، مما يُسهمُ في دفْعِ العلاقات الثنائية إلى مستويات أعلى.
أما بالنسبة لروسيا، فقد شهدت العلاقات السعودية الروسية تطورًا كبيراً في السنوات الأخيرة، فالجانبان السعودي والروسي تجمعهما شراكاتٌ استراتيجيةٌ هامةٌ، خاصة في مجالات الطاقة، ويأتي اتفاق “أوبك+” بين البلدين والذي يهدفُ إلى ضبطِ أسعار النفط العالمية، كمثالٍ على التعاون المثمر بين الرياض وموسكو. وبالتالي فإن استضافة الرياض لهذه القمة تشير إلى مستوى عالٍ من الثقة بين المملكة وروسيا، الأمرُ الذي يعززُ مجالاتِ التعاون في مجالاتٍ جديدةٍ مثل التكنولوجيا والفضاء، بالإضافة إلى تعزيز التنسيق بينهما في ملفات إقليمية وعالمية.[3]
انعكاساتُ القمةِ المرتقبة:
تحملُ القمةُ الأمريكية الروسية المرتقبة انعكاسات متعددة سواء على مكانة السعودية في السياسة العالمية، والتأثيرات المتوقعة للقمة على العالم العربي، فضلاً مصير المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا:
أولًا: تعزيزُ مكانةِ السعودية في السياسة العالمية
من خلال استضافتها هذا الاجتماع المهم، تُظهر السعودية قدرتها على استضافة قمةٍ تجمعُ زعماء عالميين من مختلف الاتجاهات السياسية، وهو ما يعزز مكانتها كداعمٍ للاستقرارِ والأمن الدولي، ويُسهم في تحسين علاقاتها مع القوى الكبرى بما يتماشى مع طموحاتها في رؤية 2030، وهو ما يمنحها دوراً محورياً في السياسة الدولية، مما يرفعُ من مكانتها الدبلوماسية ويجعلها نقطةَ التقاءٍ للأطراف المتنافسة. ومن جهةٍ أخرى ستزدادُ مصداقيتُها كوسيطٍ محايدٍ بشكلٍ كبير في مختلف القضايا الدولية الشائكة، خصوصاً في المناطق المتوترة مثل الشرق الأوسط وأوكرانيا.
ثانيًا: انعكاساتُ القمةِ المرتقبة العالم العربي
فالأحداثُ السياسية الكبرى بين القوى العظمى سيكون لها تأثيراتٌ مباشرةٌ على المنطقة العربية، حيث تشكّل التفاهماتُ الدولية عاملاً حاسماً في استقرار الأوضاع الإقليمية وحلحلة الأزمات، فاستعداد الرياض لاستضافة قمة تجمع بين أعظم قوتين في العالم لا يعكسُ مكانتها العالمية فحسب، بل يحملُ أبعاداً استراتيجية أخرى على مستوى العالم العربي، خاصة أن السعوديةَ تدركُ أن أيَّ تفاهماتٍ بين الجانبين الأمريكي والروسي ستُلقي بظلالها على الملفات الإقليمية الأخرى وخاصة القضايا العربية. وبالتالي فإن القمة المرتقبة بين الرئيسين ترامب وبوتين تُعد بمثابة فرصةٍ جوهرية لتعزيز الاستقرار في المنطقة العربية عبْرَ دفْعِ القوى الكبرى إلى اتّباع سياسات أكثر توازناً تحمي المصالح العربية وتمنع تفاقم الأزمات وتدعم استقرار المنطقة في مواجهة التحديات المستمرة.[4]
ثالثًا: انعكاساتُ القمة على مصير المفاوضات بين موسكو وكييف
إن التحولَ الإيجابيَ المرتقب في العلاقات الأمريكية الروسية في حالة نجاح القمة القادمة، يعكس رغبة الطرفين في إنهاء الحرب في أوكرانيا عبر الحوار، وجاء ذلك بعد فترة من القطيعة مع الإدارة الأمريكية السابقة، لذلك يبدو أن التواصلَ بين ترامب وبوتين يفتحُ بدايةً جديدةً لمرحلةٍ من التعاون الدولي، خاصةً أن ترامب يسعى لوقْفِ الحرب وترشيد النفقات العسكرية الأمريكية التي كانت تمولُ جزءاً من هذه الحرب. وبالتالي فالرغبة الأمريكية تتحقق بالفعل من خلال اتصالات ترامب وبوتين ووضْعِ الخطوط العريضة لمستقبل العلاقات بين البلدين، والتمهيد لعقد قمة في الرياض لبحث سبل إنهاء الحرب والتوصل إلى مفاوضات بين الجانبين الروسي والأوكراني.
وربما نشهدُ تحركاتٍ جديدةّ فيما يتعلق بمسار مفاوضات الحرب في أوكرانيا، لكن التحركات الأمريكية الروسية قد تتناقض مع رغبات بعض الدول الأوروبية التي تعتبرُ أوكرانيا خط الدفاع الأول عنها. ولذلك، فإن حالةَ التوترِ المحتملة بين الولايات المتحدة وأوروبا قد تعرقل المباحثاتِ وتهددُ فرْصَ إنهاء الحرب في القريب العاجل، رغم محاولات ترامب للضغط على الجانب الأوروبي عبر أوراقٍ متعددةٍ، بما في ذلك فرض الضرائب الجمركية. وتخشى الدول الأوروبية من استبعادها من المحادثات الأولية بين واشنطن وموسكو المقررة في السعودية. وقد ظهر هذا القلق بوضوح عندما استضاف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قادة أوروبيين في 17 فبراير لعقْدِ قمةٍ طارئةٍ بشأن الحرب في أوكرانيا، بعدما اعتبرت الدول الأوروبية أن التحركاتِ الأمريكيةَ تهدد أمن كييف وسيادتها وأمن حدود القارة الأوروبية.[5]
ختامًا:
يمكن القول إن استضافةَ السعودية للقمة المرتقبة بين ترامب وبوتين تمثلُ محطةً مفصليةً في مسار الدبلوماسية العالمية، وتعكسُ المكانةَ المتزايدةَ للمملكة كلاعبٍ رئيسي في السياسة الدولية، فمن خلال تلك القمة، تثبت السعودية أنها ليست فقط قوةً إقليميةً محوريةً، بل أصبحت منصةً للتواصل والحوار بين القوى الكبرى التي تمتلك تأثيراً عميقاً على الاستقرار العالمي.
فهذه القمة ستكونُ فرصةً جوهريةـ ليس فقط لتقوية العلاقات الثنائية بين السعودية والقوى الكبرى، ولكن أيضاً لوضع المملكة في موقعٍ إستراتيجي يمكنّها من قيادة التحولات الكبرى في المنطقة والعالم، كما أنها ستفتحُ آفاقاً جديدةً للتعاون بين الولايات المتحدة وروسيا، وتُتيحُ للسعودية فرصاً استراتيجيةً لتوسيع نطاق نفوذها، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل على المستوى العالمي، مما يعزز من دورها كـقوةٍ دبلوماسيةٍ عالميةٍ قادرة على تشكيل خرائط السياسة والاقتصاد في المستقبل.
المصادر:
[1] مختار شعيب، بحضور الوفد السعودي .. انطلاق المباحثات الأمريكية الروسية، بوابة الأهرام، 18 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/qiespWYz
[2] منال خليل، لماذا اختار ترامب السعودية مكاناً للقاء نظيره الروسي؟ بي بي سي، 14 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/ghVojugu
[3] ماجدة بوعزة، لماذا يريد ترامب لقاء بوتين في السعودية لوقف حرب أوكرانيا؟، DW، 13 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/vh4VaO6V
[4] محمد بن سلمان الأنصاري، وجهاً لوجه … “قمة أمريكية – روسية مرتقبة في الرياض”، صحيفة مكة الالكترونية، 16 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/7T2YRPZC
[5] الجزيرة، اجتماع روسي أمريكي بالرياض بشأن أوكرانيا وقمة ترامب وبوتين، 17 فبراير 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/N6rsg1Xe
