رابعة نورالدين وزير
نشر الفيلسوف الشهير “فرانسيس فوكوياما” مقالته الشهيرة والمعروفة بعنوان نهاية التاريخ 1989، والتي كانت أحداثها تدور في إطار (أن التاريخ يوشك على الانتهاء، وأن انتهاءه سيكون بفوز النموذج الغربي ونجاح نموذج الديمقراطية الليبرالي)، ولكن بالنظر للوضع العالمي في الوقشت الحالي، نجد أنه بعد الحرب العالمية الثانية استطاع الاتحاد السوفيتي بسط نفوذه على أوروبا الشرقية بقبضة حديدية، ومن ثمَّ تمخض عن ذلك إعادة تغيير الأنظمة السياسية، طبقًا لوجهة النظر الشيوعية.
وعقب انتهاء الحرب الباردة بدا للعالم أن مفهوم النفوذ قد تلاشى بفعل وجود قوة عظمى وحيدة فقط –الولايات المتحدة الأمريكية – التي حصدت امتيازات يصْعُب على غيرها من القوى الحصول عليها، ولكن مؤخرًا كان للصين رأْيٌ آخر؛ إذ يتميز مشروعها الجيوسياسي ببعض الأساليب التي تسشتهدف من خلالها حيازة مجال نفوذ تقليدي خارج حدودها المباشرة، ولقد أوجدت لأجل ذلك جملةً من العلاقات التجارية والاستثمارية التي يُقصد منها جعل اقتصادات تلك المنطقة أكثر دورانًا وتمحورًا حول “بكين”، وأكثر تعرضًا لأساليب الإكراه الاقتصادي الناشئ عن الصين، وتستعين الحكومة الصينية بقوتها العسكرية المتنامية؛ لتحقيق هذا الهدف.
وقد اكتشفت الصين أهمية القارة الأفريقية إثر الانفتاح على العالم الخارجي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية، ورأت أن أهمية تواجدها في أفريقيا مرتبطٌ بموقعها الإستراتيجي، وتوسطها للممرات الملاحية الإستراتيجية، إضافةً لتحكُّمِها في حركة المواصلات العالمية، وامتلاكها مصادر الطاقة وخام النفط والثروات الطبيعية، وبالتالي؛ فالحضور الصيني في أفريقيا ليس جديدًا، كما أن أفريقيا ليست جديدة الحضور في الصين، فهناك تاريخ طويل من التواصل والتعاون بين الطرفين في كافة المجالات.
وعليه، سنتناول في هذه الورقة ملامح السياسة الخارجية الصينية تجاه القارة الأفريقية، من حيث الدوافع والآليات؛ من أجل استقراء مستقبل النظام العالمي، وهل تستطيع الصين تصدير نموذج ديمقراطي تسطيع من خلاله التربُّع على عرش النظام العالمي؟
إستراتيجيات التواجد الصيني في القارة الأفريقية (الديناميات والتداعيات)
لا يمكننا فَهْم السياسة الخارجية للصين بمعزل عن سياستها الداخلية؛ حيث إن السياسة الداخلية تمثل امتدادًا لسياستها الخارجية، التي اعتمدت على فلسفة أطلق عليها المتخصصون “الهدم والبناء”، والتي ترتكز على فكرة رئيسية، مفادها أن البناء التدريجي للنظام يُبنى بوضع أُسُس النظام الجديد كمدخل لهدم النظام القديم، وهو النهج الذي تبنته الحكومة الصينية في الانتقال من الاقتصاد المغلق للاقتصاد المنفتح، ومن سيطرة القطاع العام إلى إفساح المجال لمشاركة القطاع الخاص، وبالتالي، فقد استطاعت بشكل تدريجي هدم نموذج الاقتصاد الموجه وبناء اقتصاد السوق بأقل قدر من الخسائر، ولعل ذلك هو نفس النهج الذي اتبعته في سياستها الخارجية، وهو ما أكده وزير الخارجية الصيني السابق، “تسيان تسي شين”، عندما أكَّد أن السياسة الخارجية للصين ما هي إلا امتداد للسياسة الداخلية.
المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي وانتقال الصين من العزلة إلى الانفتاح
بعد وفاة “ماوتسي تونغ” – زعيم الثورة الصينية ومؤسس الجمهورية الصينية – عام 1976، دخلت الصين في مرحلة انتقالية، غلب عليها الصراع بين النخبة الشيوعية، بين تيارين أحدهما متمسك بالنهج الماوي، والثاني تيار يناصر الإصلاح والتغيير، وظلَّ الصراع محتدًّا بين الطرفين حتى تمكن التيار الإصلاحي من الفوز بحلول عام 1979، وتنحية نفوذ التيار الماوي، وأنهى المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي الصيني وجوده بشكل رسمي بإزاحة “هوا قووفونغ” في سبتمبر 1982، وتنحية “عصابة الأربع” من السيطرة على الحزب والدولة، وصعود نجم الإصلاحيين.
ومنذ ذلك الوقت، شهدت السياسة الخارجية الصينية تحولًا راديكاليًّا، وتحوَّلت فلسفتها من مبدأ “تصدير الثورة للخارج” إلى مبدأ “تصنيع الثروة”، وتميزت سياستها الخارجية في عهد الإصلاحيين أكثر اعتدالًا وبراغماتية، كما أشرنا؛ بغرض تحقيق أكبر قدر من الانسجام مع عملية البناء والاتجاه نحو تنمية التواجد الصيني الخارجي على الصعيد الاقتصادي، والذي لم يقتصر على هذا الجانب، بل اتسع لشَمْل مجالات أُخرى، سيتم التطرق لها في موضعها خلال الورقة، ولفهم أبعاد السياسة الخارجية الصينية لا بُدَّ من العودة إلى مخرجات المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي الصيني في سبتمبر 1982؛ حيث تم التأكيد على بعض النقاط كما يلي: –
- التأكيد على استقلالية السياسة الخارجية الصينية.
- التأكيد على مبدأ التعايش السلمي مع مختلف الدول حتى الاشتراكية منها.
- التأكيد على المصالح والمنافع المتبادلة في برنامج المساعدات الاقتصادية والفنية المقدمة لدول الجنوب.
من خلال تلك المبادئ، يُلاحَظ على السياسة الخارجية الصينية فكرة التدرج، ويغْلُب عليها طابع الاعتدال والبراغماتية، وتعتمد السياسة الخارجية للصين على عدة مرتكزات وعوامل تحدد مسارها وتغير بوصلتها، بحسب ما تفتضيه الحاجة، وكان أهم هذه المرتكزات ما يلي: –
- التداخل بين الأهمية الديموغرافية والجغرافية فمن المعروف، أن الصين أكبر دول العالم، من حيث الكثافة السكانية؛ حيث يتجاوز عدد السكان 2 مليار نسمة، إضافةً إلى موقعها الجغرافي الذي مكَّنها من امتلاك الثروات، وشغل حيِّزًا جغرافيًّا إستراتيجيًّا، وكان التداخل بين هذين العاملين من أهم المرتكزات التي أثَّرت على السياسة الخارجية؛ حيث إن الحيِّز الجغرافي إضافةً للقوة البشرية شديدة التنوع ساهمتا معًا في تعزيز إستراتيجيات الدولة، من حيث المشاركة بتحقيق أهدافها التنموية في مختلف القطاعات، وبجانب القوة البشرية، نجد أيضًا أن الصين امتلكت بموقعها الجغرافي الكبير مميزات لم يتسنَّ للكثير من الدول الحصول عليها؛ حيث إن حدودها ترتبط مع 14 دولة مجاورة، وتُشْرِف على العديد من الممرات المائية الإستراتيجية، فنجد أن الصين وضعت من ضمن أولوياتها الحفاظ على التنمية الديموغرافية للسكان بالاعتماد على القوة البشرية والمساحة الجغرافية؛ وعليه، فقد كانت أحد أهم مرتكزات سياستها الخارجية.
- دعم النمو الاقتصادي يعتبر المحور الاقتصادي من أهم مرتكزات السياسة الخارجية للصين، فمنذ أن تبنَّت برنامجها الإصلاحي في أواخر السبعينيات، وأصبحت صاحبة أكبر نمو اقتصادي في العالم وأكبر احتياطي نقدي أجنبي، إضافةً إلى تفوقها في إنتاج واستخراج العديد من المعادن، فعلى سبيل المثال؛ أكبر منتج للفحم والفولاذ والأسمنت في العالم، وأكبر مستهلك للطاقة، وثالث أكبر مستورد للنفط؛ حيث تستورد فقط من أفريقيا 30% من واردتها، وانطلاقًا من هذه الأرقام، تبحث الصين عن أسواق خارجية؛ لتستحوذ على مناطق نفوذ اقتصادية؛ بغرض استمرار عملية التنمية الاقتصادية، باعتبار أن قدرتها بالحفاظ على مستوى النمو الاقتصادي ساهم بتعزيز دورها الإقليمي والدولي، وبالتالي، فقد سعت بجهد كبير لتطوير مفهوم الدبلوماسية الاقتصادية، كأداة تقليدية تستطيع من خلالها خدمة تطلعاتها في غدارة العلاقات الدولية، عن طريق المشاركة بدعم ودفع الاقتصاديات النامية، والصعود بها إلى مستوى الاكتفاء الذاتي، ولعل ما يؤكد ذلك، أن الصين منذ انضمامها لمنظمة التجارة العالمية، وقَّعت العديد من الاتفاقيات التجارية والاقتصادية في إطار تحقيق مستوى من النمو الاقتصادي للاقتصاديات المختلفة.
- دعم اتجاهها نحو نسج وتطوير العلاقات الدولية حيث تسعى “بكين” منذ السبعينيات انتهاج سياسة تستهدف تحسين وضعها على المستوى الدولي، من خلال تبني سياسة تستهدف نسْج وتطوير العلاقات مع كل الدول باختلاف نفوذها، إضافةً إلى لعب دوْر في القضايا الخلافية الكبرى، مثل أزمة ساحل العاج، وقضية السودان وغيرها من المستجدات على الساحة؛ لتحسين صورتها وإلغاء الصورة الذهنية التي تربط بين الصين وسياسة العُزْلة والانغلاق؛ لذا فقد حاولت إصدار ما يُعرف بـ(الكتاب الأبيض)، الذي يعرض وجهة النظر الصينية حول مختلف القضايا التي تشغل الساحة العالمية؛ لتعزيز آرائها وترسيخ وتأكيد وجهات نظرها، وعليه، فخلال العقْدين من بداية الألفية الثانية حتى 2020، أصدرت أكثر من ثلاثين وثيقة في مختلف الموضوعات، من بينها (قضايا حقوق الإنسان، والتوزيع السكاني، وجزيرة تايوان والتبت)، وقد بلغ انفتاحها على العالم، بمحاولتها تصدير نموذجها الاقتصادي للخارج في مناطق نفوذها التقليدية، وأصبحت تستغل دورها ونفوها في خلْق التوازن بين مصالحها وبين مصالح حلفائها.
- التوسع العسكري والأمني لم يكن التوسع العسكري والأمني من ضمن أولويات الصين، ولكن بعد أن حقَّقت الدبلوماسية الاقتصادية للصين نجاحات كبيرة، بدأت في تنويع أدواتها، من خلال تقديم الدعم الأمني والعسكري خارجيًّا، والذي بدأ فعليًّا في 2008، عندما أرسلت بعض الوحدات البحرية للمشاركة في الحملة العالمية لمكافحة الإرهاب، كما قدمت قوات خاصة للمشاركة في حل النِّزاع في السودان عام 2014، وفي 2017 أُنشئت أول قاعدة عسكرية في “جيبوتي”، وتم تشييد سلسلة من الموانئ في كل من تركيا شمالًا، مرورًا بـ(اليونان وإسرائيل ومصر وأريتريا)، وصولاً لـ(كينيا وتنزانيا وموزمبيق في جنوب القارة الإفريقية)، إضافةً لموانئ أُخرى في كل من (باكستان وسريلانكا وبنغلادش وميانمار)، ويشكل مضيق باب المندب ممرًا لـ20% من حجم التجارة العالمية، وللصين النصيب الأكبر منها، وبالتالي، فإن هدف “بكين” يكمن في تأمين طُرُق الملاحة، فضلًا عن تأمين سلامة الجنود الصينيين المساهمين في قوات حفظ السلام بدول أفريقية عدة.
التنافس الأمريكي الصيني على القارة الأفريقية
كانت ولازالت القارة الأفريقية ساحةً لتنافس العديد من القوى على النفوذ؛ حيث إنها تشغل 20% من مساحة القارة الأرضية، ويشكل سكانها ما يزيد عن 15% من إجمالي الكثافة السكانية حول العالم، إضافةً إلى امتلاكها لأهم الممرات المائية والملاحية، سواءً (المضايق أو القنوات المائية)، ولا يمكننا إغفال أهمية موقعها الجغرافي وغناها بالموارد والثروات الطبيعية والمعدنية، ولعل كل هذه العوامل مجتمعة، كانت أهم أسباب جعل القارة الأفريقية بوصلة ووجهة القوى الكبرى للتنافس من أجل النفوذ، وقد احتدم التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين الصين مؤخرًا بفعل انهيار الاتحاد السوفيتي والأنظمة الموالية له، واشتداد وتيرة التنافس بين القوة الأمريكية ونظيرتها الصينية.
النهج العام للسياسة الأمريكية تجاه القارة الأفريقية
لطالما تميزت السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القارة الأفريقية فيما قبل الحرب الباردة بالعزلة وعدم التدخل في الشؤون الخاصة بالدول الأفريقية، ولعل إيمان الولايات المتحدة الأمريكية بالدور المحوري للقوى الأوروبية في القارة الأفريقية، باعتبارها كانت مستعمرات تابعة لها، إضافةً إلى الرفض الذي كانت تلقاه الولايات المتحدة الأمريكية في أفريقيا بين أوساط المثقفين؛ نتيجةً للممارسات العنصرية ضد الأفارقة بالداخل، قد يكون هذين المبدأين هما اللذان منعا الولايات المتحدة الأمريكية من لعب دورٍ أكثر في أفريقيا فيما قبل الحرب الباردة، ولكن الوضع لم يَدُمْ طويلًا، فقد حدث تحوُّل في النهج المتبع من قبل الولايات المتحدة تجاه أفريقيا، ولعل إدراكها لحجم القارة وثرواتها ومحورتيها في العلاقات الدولية كمنطقة نفوذ، هو السبب وراء ذلك.
اختلاف أهمية القارة الأفريقية عبر الإدارات الأمريكية المتعاقبة
مع تصاعُد حركات التحرر في أفريقيا، أدركت إدارة “أيزنهاور” وأيضًا إدارة “نيكسون” محورية أفريقيا وضرورة تنسيق جهود الإدارات الأمريكية؛ لتحقيق أكبر استفادة من القارة الأفريقية، ومع أفول نجم الحرب الباردة، كانت أفريقيا على قائمة أولويات الإدارة الأمريكية، وضرورة إعادة توجيه السياسة الخارجية الأمريكية تجاه أفريقيا، وعليه، فقد ركزَّت إدارة “كيلنون” على تعزيز التواجد في أفريقيا، من خلال الدبلوماسية التجارية، وتبعته إدارة “جورج بوش” التي وقَّعت على اتفاقية (إغوا)؛ لإعفاء ما يزيد عن 700 سلعة أفريقية من رسوم الدخول للأسواق الأمريكية، كخطوة في اتجاه تعزيز التواجد فيها – تم تمديدها في عهد إدارة “أوباما” لتنتهي في 2025، بعد أن كان من المقرر انتهاؤها في 2015 – في الوقت ذاته انشغلت الإدارة الأمريكية بحربها على الإرهاب؛ ما أفسح المجال أمام (الصين وفرنسا) وغيرهم من القوى للعب دوْر أكبر في القارة.
أما في عهد الرئيس “أوباما”، فقد تصاعد الاهتمام الأمريكي تجاه القارة، وبدأ يُنْظر إليها على أنها منطقة فُرَص استثمارية واقتصادية يمكن للولايات المتحدة الأمريكية الاستفادة منها، وعليه، فقد اتخذت الإدارة الأمريكية آنذاك بعض الخطوات، كان من بينها توقيع عقود وشراكات مع شركات اقتصادية، بلغت قيمتها 14 مليار دولار عام 2014، كما عُقِد في ظل إدارته أول قمة أمريكية أفريقية تحت عنوان “الاستثمار في الجيل القادم”، وعليه، فقد زادت الصادرات الأمريكية لأفريقيا بما يعادل 22% بعد التوقيع على اتفاقيه “إغوا”، وزادت واردات الولايات المتحدة الأمريكية من (40% لـ 50.3%)، كما زاد اعتماد الولايات المتحدة على أفريقيا في مصادر الطاقة، وعزَّزت من تواجدها العسكري، من خلال بناء القواعد العسكرية في المنطقة الأفريقية، وبدأت تُولِي اهتمامًا بإرسال المساعدات المالية للدول الأفريقية.
ولكن في عهد الرئيس الأمريكي “ترامب”، بدأت وتيرة التنافس بين (الولايات المتحدة والصين وروسيا) في أفريقيا تتسارع، وعليه، فقد واصلت الغدارة الأمريكية دعْم نفوذها في القارة، من خلال تعزيز الجوانب (الاقتصادية والعسكرية والأمنية)، وقد ارتكزت الإستراتيجية الأمريكية في عهد الرئيس “ترامب” على ضرورة دعم المصالح المشتركة بين الطرفين، وأن يرتكز الدور الأمريكي في القارة الأفريقية في لعب دوْر؛ لاحتواء الصراعات ومكافحة الإرهاب، أما في عهد إدارة الرئيس “بايدن”، فمن غير المنطقي القول: بأن الإدارة الأمريكية تبتعد بشكل تام عن القارة الأفريقية لتبحث عن مناطق نفوذ جديدة في آسيا، في إطار تنافسها مع الصين وضرورة تطويقها في منطقة (الهندي الهادي)، وبالتالي، نجد أن اهتمام الغدارة الأمريكية في عهد “بايدن” بأفريقيا قد انحصر بشكل ما، واقتصرت على بعض الملفات، منها التغيرات المناخية، وتعزيز قدرات الدول في مواجهة فيروس كورونا (كوفيد- 19)، ولكن لا يمكننا الجزم بأن الإدارة الأمريكية تبتعد عن إفريقيا، لأن لها مصالح في القارة لا يمكن معها الابتعاد عن افريقيا، ولكن يمكنن القل بأن التحركات الأمريكية في المحيط الإفريقي في مرحلة هدوء لإنشغال الإدارة الأمريكية الحالية بخلق وتدعيم مناطق نفوذها في منطقة الهندي الهادئ.
التواجد الصيني في القارة الأفريقية من المجال الاقتصادي إلى توسيع الآليات
لطالما ارتبطت الصين مع أفريقيا بعلاقات تاريخية وطيدة، ساهم عامل عدم وجود ذاكرة استعمارية بينهما في تعميقها والترحيب بها كشريك إستراتيجي، ولكن في العقْد الأخير أثار النمو المتسارع للتواجد الصيني في القارة الأفريقية مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية، فقد زاد نطاق التواجد الصيني في القارة، وتنوع بعدما كان يقتصر بشكل كبير على الجانب الاقتصادي والتنموي؛ حيث تنوع ليشمل كافة المستويات السياسية والاقتصادية، وكذلك الأمنية؛ فقد زاد حجم التجارة الأفريقية بشكل كبير مع الصين منذ عام 2000، كما تُعدُّ الصين أكبر مساهم في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي يتم إرسالها لأفريقيا، فضلاً عن وجود ما يقْرُب من مليون صيني يعيشون في أفريقيا، من خلال ذلك، يتضح أن الحضور الصيني أصبح بمثابة الحدث الاقتصادي والجيوسياسية الأكثر أهمية في القارة الأفريقية منذ انتهاء الحرب الباردة، ويُعْتبر من أهم الأحداث العالمية؛ لأنها تأتي في إطار التنافس الأمريكي الصيني.
يمكننا مما سبق، نذكر أهم المصالح الصينية في أفريقيا كما يلي: –
- المصالح الاقتصادية
للصين مصالح أساسية من وراء تواجدها في أفريقيا؛ حيث تمثل أفريقيا مصدرًا أساسيًّا للموارد الطبيعية، كما أنها سوق غير مستغل للصادرات والاستثمارات، إضافةً إلى كونها فرصةً لتنمية الشركات الصينية؛ حيث تمثل بيئةً لاكتساب الخبرة الدولية، وتوفير فرص العمل، وتمتلك الصين إستراتيجية عالمية تسمى “”Go Global”، والتي تستهدف زيادة حجم استثمارات الصين عالميًّا، وتعزيز حضورها على المسرح الدُّولي، فتُعدُّ واردات المارد الطبيعية هي المصلحة الاقتصادية الأكبر للصين؛ حيث تمثل ما يزيد عن 90% من صادرات القارة الأفريقية للدول الصناعية، ومن الناحية التجارية، فتعتبر الصين هي الشريك التجاري الأكبر للقارة الأفريقية، إضافة إلى أنها تعتبر أكبر مُصدِّر للأسلحة الثقيلة والخفيفة للقارة الأفريقية، كما تجدر الإشارة أيضًا إلى أن العلاقات الاقتصادية (الأفريقية – الصينية) تمثل أهمية كبرى للدول الأفريقية أكثر من “بكين”؛ إذ تمثل التجارة الصينية الأفريقية حوالي 15% من حجم التجارة الكلية لدول القارة الأفريقية، فيما تمثل فقط نسبة 5% من التجارة الصينية، كما ترتبط “بكين” بعلاقة اقتصادية قوية ومهمة مع دولة جنوب أفريقيا؛ إذ تمثل وحدها ثلث التجارة الأفريقية الصينية مجتمعة، كما تأتي في مقدمة دول القارة التي يتوجه إليها الاستثمار الصيني الخارجي.
مبادرة الحزام والطريق، وبالحديث عن المصالح الصينية في إفريقيا لا يمكننا الإغفال عن “مبادرة الحزام والطريق”، حيث تمكنت الصين من تعزيز مصالحها الاقتصادية ف القارة حققت الصين نجاحات كبيرة في إفريقيا في إطار المبادرة حيث استثمرت في 52 من أصل 54 دولة أفريقية، ووقعت 49 دولة من أصل 54 دولة (أي أكثر من 90%) مذكرات تفاهم بالفعل، وإن كانت مذكرات التفاهم التي وقعها الاتحاد الأفريقي بشأن التعاون في مبادرة الحزام والطريق مع الصين، ليست ملزمة قانونًا، إلا أنها تضفي الطابع الرسمي على الاستثمارات الصينية في البلاد، مع الإقرار الواجب من الحكومة المحلية. وهذا يسهل عملية الاستثمار للشركات الصينية في تلك البلدان. علاوة على ذلك، يمكن لمذكرات التفاهم الموقعة أن تمهد الطريق لاتفاقية ملزمة قانونًا.
كما تنوعت المشروعات التي تستثمر فيها الصين ضمن المبادرة فعلى سبيل المثال؛ الاستثمار في الموانئ على طول الساحل من خليج عدن عبر قناة السويس باتجاه البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى مشاريع الاتصال الخاصة بها والتي تبلغ (20% من جميع مشاريعها في إفريقيا بما في ذلك خطوط السكك الحديدية والطرق)، ومشاريع الطاقة (15% من جميع مشاريعها بما في ذلك النفط والطاقة المتجددة) في المناطق النائية من أفريقيا إلى مشاريع البنية التحتية (ما يقرب من 45 % من جميع مشاريعها بما في ذلك الموانئ) على طول الساحل الأفريقي. وتشكل هذه القطاعات الأربعة مجتمعة ما يقرب من 90% من مشاريعها الرئيسية في 49 دولة، وهو ما يتيح لها فرصة استغلال الموانئ والممرات البحرية لنقل المعادن كالفوسفات والمنجنيز والليثيوم وغيرها، بالإضافة إلى إمكانية استقدام عمالة صينية.
وعلى الرغم من وجود انتقادات لهذه المبادرة أهمها الاحتجاجات النيجيرية في عام 2017 لامتناع الصين عن دفع تعويضات لأصحاب المباني التي هدمت لإنشاء خطوط السكك الحديدية اللازمة لنقل البضائع أو التي تمت في إطار المشروعات الاستثمارية، فضلًا عن الاحتجاجات في (غانا- مدغشقر- تشاد وغيرهم)، بالإضافة إلى أن هذه المشروعات ألقت بالعديد من الدول الإفريقية في فخ الديون ما دفعها إلى تأجيل تنفيذ الكثير من المشروعات، وعلى الرغم مما سبق إلا أن الصين ما زالت تعمق من تواجدها الاقتصادي والتنموي بل وتبحث عن أوجه أخرى للتواجد في القارة الإفريقية بما يخدم مصالحها.
- المصالح السياسية للصين في أفريقيا
تسعى الصين من خلال تواجدها في القارة الأفريقية إلى تحسين صورتها الذهنية وتقوية نفوذها الخارجي في محيط غير مباشر، وبالتالي، فنجدها تحاول تحقيق التنمية السلمية لقوتها، ولعل جهودها في أفريقيا تعزز من تحقيق هذا الهدف، خاصةً أنها تحصل على مزايا دبلوماسية من خلال الدعم الأفريقي لها، على صعيد آخر، يعتبر عزل تايوان، هو أحد أهم أهدافها من التواجد الأفريقي، خاصةً أن هناك ثلاث دول أفريقية اعترفت بالفعل بـ(تايوان)؛ لذا فإن تواجدها في أفريقيا هو محاولة للضغط على باقي الدول؛ حتى لا تعترف بها، كوسيلة لعزلها أيضًا، محاولة التصدي للتدخل الدُّولي في الشؤون الداخلية للدول؛ حيث تعتمد الصين في سياستها الخارجية على مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومن ثم فإنها تسعى لتحقيق ذلك مع دول القارة، وقد ظلّ هذا المبدأ موضع تقدير من جانب الحكومات الأفريقية، وتبادلته مع الصين أيضًا، ومن ثمَّ حثَّت الأخيرة دول القارة على رفض التدخل الدولي بالسياسات الداخلية للدول، خاصةً في موضوعات حقوق الإنسان والحكومة الديمقراطية، بما يُمكِّنها من مواجهة ومنع هذا المبدأ الدولي المُتَّبع؛ لما يمثله من خطورة على السياسات الداخلية لدول القارة الأفريقية، وكذلك على النظام الداخلي للصين على حد سواء، أخيرًا دعم استقرار الشركاء الاقتصاديين في القارة، وهو ما يتناسب مع تنامي الاستثمارات الاقتصادية والسياسية الكبيرة للصين في القارة الأفريقية، وكذلك مع رغبتها في أن تظهر بمظهر القوة العالمية المسؤولة داخل الإقليم.
- المصالح الأمنية
إن المصالح الأمنية للصين تنبع من فرضية حماية الاستثمارات الاقتصادية والحفاظ على تنامي نفوذها، ولعل بدْء انخراط “جيش التحرير الشعبي للصين” في إستراتيجية “المهام التاريخية الجديدة”، والتي بدأت عام 2004، وتعد مشاركة “جيش التحرير الشعبي الصيني” بعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة هي أكبر مساحة للمشاركة المسلحة للصين في أفريقيا؛ إذ يساهم في 7 مهمات من أصل 8 تتم داخل القارة الأفريقية، ومن أبرزها عملية خليج عدن 2008 لمكافحة القرصنة، وعملية إجلاء غير المقاتلين من ليبيا عام 2011، وعملية نشْر قوات “جيش التحرير الشعبي” من المشاة في بعثات الأمم المتحدة إلى (مالي وجنوب السودان) عام 2013، هذه الخطوات تؤكد على أهمية ومحورية الدور الصيني في حماية الأمن العالمي وتعزيز التنمية والمشاركة، كما نجد أن الشركات الصينية لديها مجموعة من الاستثمارات والعقود تزيد قيمتها عن أكثر من مليار دولار في 12 دولة من الدول “الفاشلة”، ومن ثمَّ تزداد مصالحها الأمنية في حماية هذه الاستثمارات، وكذلك العدد المتزايد من مواطنيها داخل القارة وإمكانية تأثير مشكلات عدم الاستقرار السياسي، والحروب الأهلية، والإرهاب، وجرائم الاختطاف، عليهم بالسلب.
ما سبق يؤكد أن الارتباط الصيني بالقارة الأفريقية، قد ازداد بشكل كبير في السنوات العشر الأخيرة، ورغم أن هذا يُعدُّ أمرًا جيدًا في إطار دورها الدولي، إلا أنه قد يتناقض مستقبلًا مع مبادئ سياستها الخارجية، التي تنص بشكل صارم على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، خاصةً مع ظهور حركات شعبية علانية مضادة للصين داخل القارة الأفريقية، إضافةً إلى تزايد جرائم الإرهاب والاختطاف المتكررة لمواطنيها، بما قد يدفعها إلى ضرورة التدخل من أجل تعزيز استقرار تلك الدول للحفاظ على مصالحها داخلها، ومن المرجح أن يشهد العقْد القادم زيادة قدرات الصين في التفاعل مع الأزمات المختلفة، وإجلاء رعاياها في حالة الخطر، أما المخاوف من أن تعمل الصين على تطوير شبكة من القواعد البحرية داخل القارة، فهي مخاوف في غير محلها.
هل الصين مستعدة لموازنة القوى مع الولايات المتحدة الأمريكية؟
تُبْدِي الصين رغبةً في تسوية التنافس والصراع مع الولايات المتحدة عبر الحوار والتفاهمات الثنائية، وتحاول أن تتجنَّب الدخول في استقطاب إستراتيجي، ومع ذلك، فإنَّ حالة التنافُس ستظلّ قائمة؛ لأنَّ أفريقيا مجالٌ حيوي تتقاطع فيه مصالح الطرفين، ولأنَّها تتبنّى سياسةً هادئة نحو الصعود، فهي تُركِّزُ أكثر على المبادرات الاقتصادية؛ لذا فإنَّ الصين ستظلّ تستفيد بصورة أساسية من مظلَّة الحماية الأمريكية في المنطقة؛ حيث تتّفق الصين والولايات المتحدة في أولوية ضمان الاستقرار الإقليمي، واحتواء الصراعات بين دول المنطقة؛ إذ يوفِّر ذلك لمشروعاتها بيئةً ملائمةً، ولاستثماراتها أسوقًا مستقرَّة، فضلًا عن ضمان إمدادات النفط لمصانعها.
ومع ذلك، لن تتوانى الصين إذا ما أُتيحت لها فرصة لتغيير خريطة المنطقة الجيوسياسية لصالحها، وتحديدًا فإن الصين تستعدُّ لتوسيع نطاق تعاونها مع بعض القوى الإقليمية المؤثرة، وذلك ضمن خططها لتعزيز مكانتها الاقتصادية والإستراتيجية على الساحة الدولية ككل، والحد من الهيمنة الأمريكية، خصوصًا بعد توجُّهات “بايدن” لبناء تحالُفات في منطقة جنوب شرق آسيا؛ لمواجهة الخطر الصيني.
الصين والترويج لنموذج ديمقراطي جديد في مقابل النموذج الأمريكي
في إطار التنافس الصيني الأمريكي في كافة المجالات، يُلاحَظ أنه في إطار الحرب الأيدلوجية بين الطرفين قد طالت مفهوم الديمقراطية، فمع وجود النموذج الأمريكي للديمقراطية التي ترتكز على حماية حقوق الإنسان وبعض المفاهيم الأُخرى التي تستند على أساس ليبرالي، نجد أن الصين في إطار تنافسها مع الولايات المتحدة تستخدم نفس الأدوات؛ فبعد أن عقدت الولايات المتحدة الأمريكية قمة الديمقراطية خلال شهر ديسمبر 2021، أصدرت الصين (كتابها الأبيض)، الذي توضح فيه مرتكزات السياسة الخارجية للصين، ونموذجها للديمقراطية الذي يعتمد بشكل أساسي على “أن الديمقراطية ليست قالبًا واحدًا، ولا تسير في مسار واحد، بل يختلف شكلها وطبيعتها بحسب النظام الخاص بالدولة، وبحسب ما يحتاجه المواطنون.
فالديمقراطية من وجهة النظر الصينية، بحسب “ليو قوانغ يوان” مفوض وزارة الخارجية الصينية في هونغ كونغ، هي الديمقراطية الفاعلة التي تتمتع بممارسات واقعية تحمي بشكل فعَّال الحقوق الديمقراطية الواسعة للشعب، والتي تُمارَس من خلال مجموعة من الانتخابات والمشاورات وصنع القرار والإدارة والرقابة، وعلى الرغم من أن النموذج الديمقراطي الصيني من الممكن أن يلقى رواجًا في العديد من الأوساط إلا أنه يعتبر جزء من التنافس بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، ويعتبر محاولة صينية لتبني نموذج ديمقراطي في مقابل النموذج الأمريكي كتعبير عن قدرة الصين على خلق إيدلوجية بالمثل مع الولايات المتحدة الامريكية.
هل يفوز النموذج الديمقراطي الصيني أمام الحصار العسكري والسياسي المفروض على الصين؟
تبدو الصين محاصرة في الأوقات الراهنة من قبل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها التقليديين، حصاراً يمضي في اتجاهين الأول عسكري، والثاني سياسي.
أما الاتجاه الأول فتمثل جلياً في حلف أوكوس، الموقع بين الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا وأستراليا وهو تحالف أمني عسكري، حيث ستمضي أميركا في تزويد أستراليا بصفقة غواصات نووية متقدمة للغاية من نوعية فيرجينيا، تطال صواريخها النووية حواضر الصين، وقد ترك هذا التوجه تأثيراً واضحاً على الصينيين حيث أن وجود مثل هذا التحالف يعتبر تطويق للنفوذ الصيني في منطقة الهندي الهادئ.
كما ان الولايات المتحدة الامريكية اختارت أستراليا بعناية لكونها تقع في المنطقة المشار إليها كما أنها ارتبطت بالصين بعلاقات طيبة ولكن مؤخرًا حدثت بعض الخلافات بين الطرفين أهمية أستراليا، كما أن الغدارة الامريكية تدعم استراليا بشكل كبير ، على سبيل المثال؛ قال كورت كامبل، منسق البيت الأبيض لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ في مارس 2021، إن الإدارة أبلغت الصين أن الولايات المتحدة لا يمكنها تحسين العلاقات في سياق ثنائي ومنفصل عما يتعرض له حليف وثيق من إكراه اقتصادي، وأضاف أن “الولايات المتحدة لن تترك أستراليا وحدها في الميدان”.
على الجانب الآخر تبدو الولايات المتحدة فاعلة في حصار الصين سياسياً من خلال مجموعة “كواد”، التي تقول واشنطن إنها تمثل ديمقراطيات متقدمة، قوامها الهند واليابان وأستراليا بجانب أميركا نفسها، كما أن الولايات المتحدة تحاول تحجيم المد الصيني في عدة مناطق وتحاول تكوين نفوذ غير مباشر في عدة مناطق، وربما تعيد تفجير الملفات الخلافية التاريخية الساكنة على سبيل المثال النزاع بين الصين والهند، والصين وتايوان وغيرها من الملفات التي من الممكن ان تعرقل النفوذ الصيني.
وأخيرًا يمكننا القول بأن الصين تدرك بشكل كبير أنها محاصرة وأن الحصار هذه المرة يتفاعل رويداً رويداً من خلال آليات متغيرة عما جرت به المقادير في العقود السابقة، وجزء كبير منه دعائي، ولهذا مضت أخيراً في طريق الحديث عن نموذجها الديمقراطي الخاص، الذي ضمنته ما أطلق عليه، الكتاب الأبيض، وفيه الحديث عما يسمى “الصين… ديمقراطية تعمل”، ولكن على أرض الواقع فمن الصعب الحديث عن إمكانية تفوق النموذج الصيني على النموذج الأمريكي الغربي للديمقراطية، لعدة أسباب على رأسها عدم امتلاك الصين للقدرات الدعائية التي تمكنها من الترويج لهذا النموذج، وعليه فيعتبر النموذج الصيني للديمقراطية ما هو إلا جزء من التنافس الصيني الأمريكي، ومحاولة صينية لمنافسة الولايات المتحدة من خلال نفس الأدوات ولكن بالحديث عن إمكانية تحقيق الانتشار والصمود فالنموذج الصيني للديمقراطية يحتاج إلى الكثير من الجهد والدعاية ليصمد أمام النموذج الغربي.