المقالات
الظاهرة الترامبية: قراءة في الركائز والاستمرارية
- نوفمبر 26, 2024
- Posted by: hossam ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية
إعداد: أكرم السيد
باحث مساعد في وحدة الشؤون الدولية
في سياق الفوز الكبير للرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب أمام النائبة الديمقراطية كامالا هاريس، تعود الظاهرة الترامبية إلى الواجهة من جديد وتحديداً في العشرين من يناير من العام المقبل والذي سيشهد التنصيب الرسمي للإدارة الجمهورية، تلك الظاهرة التي تشكلت بوضوح في الفترة الرئاسية الأولى لترامب، إذ تعرضت لإخفاق كبير في أعقاب الهزيمة أمام الرئيس الديمقراطي جو بايدن في انتخابات عام ٢٠٢٠، والتي جاءت في ظل جائحة كورونا العالمية والأوضاع الاقتصادية المضطربة إلا أنها سرعان ما نجحت في إعادة تسويق نفسها لدى المجتمع الأمريكي وصولا للفوز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية.
وتعد الظاهرة الترامبية واحدة من أبرز الظواهر السياسية التي أثارت الجدل في الولايات المتحدة والعالم خلال العقد الأخير. حيث تجاوزت الترامبية شخصية دونالد ترامب لتتحول إلى عقيدة سياسية استمدت جذورها من واقع اجتماعي وسياسي متأزم، يتسم بعدم الثقة في المؤسسات التقليدية واستياء متزايد من الطبقة السياسية الحاكمة.
وظهرت هذه الظاهرة في سياق عالمي يشهد تصاعد الشعبوية، معتمدة على خطاب مختلف وشخصية كاريزمية نجحت في استقطاب قطاعات واسعة من المجتمع الأمريكي. في هذا السياق تثار عدة تساؤلات حول هذه الظاهرة: ما هي ركائز هذه الظاهرة؟ كيف نشأت؟ وهل ستستمر في التأثير بعد انتهاء عهد ترامب؟ .
الترامبية: التعريف والنشأة
الترامبية هي ظاهرة سياسية ظهرت مع صعود دونالد ترامب إلى الساحة السياسية الأمريكية، وقد نمت لتصبح حركة اجتماعية وثقافية تمتد لتتجاوز شخصيته الفردية. حيث يمكن تعريف الترامبية على أنها مزيج من الشعبوية اليمينية والقومية، حيث ركز ترامب على خطاب يعارض النخب السياسية التقليدية ويعبر عن انزعاج قطاع واسع من الشعب الأمريكي من تأثير العولمة، والهجرة، والتهديدات المزعومة من المؤسسات الليبرالية.
تجدر الإشارة إلى أن الأفكار التي روج لها ترامب كالانعزالية وإعطاء الأولوية للولايات المتحدة على حساب أي علاقات أو تحالفات قد تستنزف الولايات المتحدة هي في مجموعها لا تعتبر وليدة اللحظة، بل متجذرة منذ سنوات طويلة في السياق السياسي الأمريكي. ومن أبرز الدلائل على هذا رؤية الرئيس الأمريكي الأسبق أندرو جاكسون منذ ما يقارب المائتي عام والذي كان يرى بضرورة ألا تتدخل البلاد في صراع خارجي إلا في حالة الدفاع عن نفسها فقط[1]، وهو ما يتشابه لحد كبير مع ما يدعو إليه ترامب. يمكن القول أن مجموعة الأفكار تلك كانت في حاجة إلى الشخصية السياسية الكاريزمية التي تتبناها ومن ثم تقوم بإعادة تسويقها إلى المجتمع الأمريكي في سياق أكثر جرأة وأقل محافظة عن ذي قبل وهو ما نجح فيه ترامب بشكل ملحوظ مرتكزا على خلفيته كرجل أعمال في المقام الأول.
ومع بداية الألفية الجديدة، فإن ثمة عوامل ساعدت على تمهيد الطريق للترامبية، كان في مقدمة هذا الحضور الكبير للتيار المؤيد للعولمة في مقابل تواجد تيارات قومية أخرى مناهضة لها وهو ما نتج عنه حالة كبيرة من الاستقطاب السياسي. كما كان للأزمة المالية العالمية لعام ٢٠٠٨، أثر كبير في شعور العديد من الأمريكيين، خصوصًا من الطبقات العاملة البيضاء، بالإحباط من النخبة السياسية التي اعتبروها مسؤولة عن تدهور أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. كما لعبت وسائل الإعلام، خصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي، دورًا محوريًا في نشر أفكار ترامب وجذب الأنصار عبر خطاب بسيط ومباشر يمس القضايا التي تهم الأمريكيين العاديين. لذلك، يمكن القول إن الترامبية هي نتيجة لتفاعل عدة عوامل اقتصادية، اجتماعية، وثقافية، تمثلت في تزايد الحركات الشعبوية حول العالم، وخاصة في أمريكا، حيث كانت السياسة التقليدية تحول دون تحقيق التغيير الجذري الذي تطلعت إليه شرائح واسعة من المجتمع.
الترامبية: الخصائص والسمات
إن ثمة ركائز أساسية تقوم عليها الترامبية من خلال التعمق فيها يمكن استدلال سلوك الولايات المتحدة تجاه مختلف القضايا الرئيسية. هذه الركائز حددت إلى حد كبير طبيعة سلوك الولايات المتحدة في فترة ترامب الأولى وها هي الآن مع عودته المنتظرة تظهر على السطح مرة أخرى مع قرب بداية الفترة الرئاسية الثانية لتحدد السلوك السياسي لدى البيت الأبيض من جديد. ومن هنا، يمكن تحديد أبرز الركائز التي شكلت هذه الظاهرة وميزتها عن غيرها من الحركات السياسية: –
1- معاداة الإعلام التقليدي
شكلت معاداة الإعلام التقليدي أحد الأعمدة الأساسية في الظاهرة الترامبية، حيث تبنى ترامب نهجًا غير مسبوق في التواصل مع الجمهور الأمريكي بعيدًا عن القنوات الإعلامية التقليدية. وبدلاً من استخدام المؤتمرات الصحفية الرسمية أو البيانات الإعلامية التقليدية، اعتمد ترامب على منصة تويتر (اكس حاليا) كوسيلة رئيسية لإعلان قرارات إدارته والتعبير عن آرائه حول القضايا المحلية والدولية. هذا النهج أتاح له تجاوز التغطية النقدية للإعلام التقليدي، الذي غالبًا ما وصف ما يقدمه بالأخبار الكاذبة، متهما إياه بتحريف الحقائق لخدمة أجندات معادية له. حتى عندما قامت منصة تويتر بحظر حسابه بعد أحداث الشغب في ٦ يناير ٢٠٢١، لم يتراجع عن نهجه وأطلق منصته الخاصة “تروث سوشال”، لتكون بديلاً يعكس رؤيته للإعلام الحر وغير المقيد بالنخب الإعلامية[2].
2- مزيج من الشعبوية والقومية
لعب الخطاب الشعبوي القائم على إثارة المشاعر الوطنية دورًا محوريًا في ترسيخ مكانة الترامبية داخل المجتمع الأمريكي، حيث اعتمد ترامب على تصوير نفسه كممثل للشعب ضد النخب السياسية والإعلامية، مستغلًا مشاعر الإحباط والغضب لدى قطاعات واسعة من الأمريكيين الذين شعروا بالتهميش. في المقابل، لم يتردد ترامب في انتقاد النهج الديمقراطي القائم على التعددية والتنوع الثقافي، معتبرًا أن السياسات التي ينتهجها تقوض منظومة الأفكار القومية وتهدد وحدة الأمة الأمريكية. واستثمر ترامب خطابه الشعبوي في خدمة توجهه القومي لتنشأ علاقة شعبوية قومية من الطراز الأول. ولعل ذلك انعكس في خطابه الرسمي بدعوته المستمرة لجعل المصالح الوطنية هي الأولوية الأولى الولايات المتحدة في قضاياها المحلية والدولية، حتى لو أدى ذلك إلى توتر العلاقات مع الحلفاء التقليديين. ومن ثم نظر ترامب إلى سياسة التحالفات والالتزامات الدولية بشكل سلبي، معتبرًا أنها تستنزف قدرات البلاد وتضعف اقتصادها، وهو ما قد يصب في مصلحة منافسين مثل الصين وروسيا. هذا التوجه القومي برز بشكل واضح في شعاره “أمريكا أولًا”، الذي جسد مبدأ تقديم المصالح الأمريكية فوق أي اعتبارات أخرى.
3- الانعزالية
انبثقت الانعزالية كنتيجة طبيعة لتغليب المصلحة القومية والرغبة في ألا تتحمل الولايات المتحدة أي تكلفة تأتي من نظير مشاركتها في أي أعمال عسكرية خارج حدود البلاد أو أي اتفاقيات أو تحالفات قد تلقى بالعبء على الاقتصاد. في هذا السياق، فقد سعت الترامبية إلى استعادة الآلاف من الجنود الأمريكين من مواقع مختلفة حول العالم والاعتماد على الحلفاء الإقليمين في القيام بالدور الأمريكي[3]. وفي سياق متصل أيضا انسحبت واشنطن من عدة التزامات دولية لعل في مقدمتها الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ. [4]لذا يمكن القول إن أي إجراء أو فعل سوف ينتج عنه عدم تحقيق استفادة حقيقة للولايات المتحدة لن يدعمه البيت الأبيض، كما أن من يحتاج دعم واشنطن عليه أن يتحمل تكلفة ذلك.
4- الحمائية
حيث تتعلق سياسة الحمائية بحماية المصالح الاقتصادية الأمريكية دون النظر إلى أي مصالح أو شراكات من الممكن أن تتأثر نتيجة تعظيم واشنطن من حمائيتها الاقتصادية. نتيجة لذلك رفعت الترامبية من حجم الجمارك المقررة على الواردات القادمة[5] إليها في مسعى منها إلى أمرين، الأول هو حماية الصناعة المحلية وتعزيز قدراتها الاقتصادية، والثاني هو جذب العديد من المستثمرين لبناء مصانعهم وشركاتهم داخل أراضي الولايات المتحدة وهو ما سينعكس بالإيجاب على المؤشرات الاقتصادية للبلاد. هذا النهج يضرب باقتصاد السوق الحر والعولمة عرض الحائط، حيث يتعارض مع سياسات السوق المفتوح بين واشنطن وحلفائها من ناحية، ويساهم في تعطيل نمو اقتصادات منافسي واشنطن وفي مقدمتهم الصين من ناحية أخرى. فالأولوية تتعلق فقط بحماية الاقتصاد الأمريكي دون الوضع في الاعتبار أي عواقب قد تلحق الضرر بالآخرين.
5- سياسة الصفقات
ولعل هذه هي الركيزة التي تميز ترامب وتتصدر عقيدته السياسية كركيزة رئيسية، فهو رجل أعمال أتى من خارج المؤسسة السياسية التقليدية ولم يفصل بين سلوكه كرجل أعمال وبين سلوكه كرئيس للولايات المتحدة الإمريكية، إذ أن ما يحركه في المقام الأول سواء في القضايا الداخلية أو الخارجية هو مفهوم الصفقة الرابحة والبراجماتية البحتة. فمن خلال وضع ركيزة “الصفقة” في الاعتبار يمكن فهم مبررات سلوك ترامب تجاه مختلف القضايا كرجل صفقات في المقام الأول أكثر منه رجل سياسي.
مستقبل الترامبية ما بعد ترامب
ذهبت معظم التحليلات في أعقاب أحداث اقتحام مقر الكونجرس في ٦ يناير ٢٠٢١ إلى التأكيد على انتهاء مستقبل الترامبية وأن فرص عودة ترامب مجددا إلى البيت الأبيض قد تلاشت إلى حد كبير. وعلى الرغم من هذا شهدت السنوات التي تلت رحيل ترامب نجاحا كبيرا تمثل في عودته مجددا إلى الساحة السياسية الأمريكية بشكل أخذ طابعا متدرجا حتى الوصول إلى لحظة النصر أمام هاريس. في هذا السياق نستخلص أمرين: –
1- استمرار تأثير الترامبية
إن الأفكار التي تعبر عنها الترامبية لاتزال تحظى برواج داخل المجتمع الأمريكي وتنال دعما كبير لدى قطاعات واسعة، كما أنه ليس من السهولة تغييرها لدى الناخبين الأمريكيين مما يعكس عمق وتجذر الأفكار التي تمثلها الترامبية.
2- تجاوز الترامبية لترامب
حيث أصبحت بمثابة توجه سياسي أكثر منها رؤية شخصية لزعيم سياسي، حيث أن ترامب الذي انخفضت نسبة تأييده في أعقاب هجوم ٦ يناير حتى بين أنصار الحزب الجمهوري [6] هو نفسه ترامب الذي عندما عاد مجددا حاملا نفس الأفكار والتوجهات استطاع أن يحسم السباق الانتخابي لصالحه وهو ما يعني أن أصوات الناخبين ذهبت إلى ما يحمله ترامب من رؤية سياسية تجاه مختلف القضايا وليس لشخص ترامب فحسب. إن هذا بدوره سيفتح الطريق لجيل جديد من السياسيين الأمريكيين حيث سيكون بمقدورهم من خلال تبنيهم للترامبية أن يحافظوا على استمرار تواجد هذا التيار لمدة طويلة داخل البيت الأبيض حتى بعد انتهاء الولاية الأخيرة لترامب.
في هذا السياق يبرز اسم “جي دي فانس” نائب ترامب والذي يحظى بدعم كبير منه بشكل قد يساعد “دي فانس” في الحفاظ على الترامبية داخل دوائر صناعة القرار لأطول فترة ممكنة[7]. وبالنظر إلى “دي فانس” فإن ثمة تشابه كبير بينه وبين ترامب تجاه مختلف القضايا، حيث ركز كثيرا على حياة الطبقات العاملة البيضاء في أمريكا. كما تبنى مواقف مشابهة لتلك التي تميزت بها الترامبية، مثل النقد الشديد للعولمة، والتأكيد على القيم المحافظة، ودعم سياسة “أمريكا أولاً”، متبنيًا خطابًا شعبويًا وقوميًا يعكس مشاعر الاستياء من النخب السياسية. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يعتمد على أسلوب يروج لرفض المؤسسات التقليدية ويركز على مكافحة الهجرة غير الشرعية وتعزيز الهوية الثقافية الأمريكية. وعلى أي حال يعتبر دي فانس نموذجًا على كيفية استمرار الترامبية من خلال سياسيين جدد، حيث يظهر كبديل معاصر لترامب، مما يضمن استمرارية هذه الظاهرة حتى بعد مغادرته الساحة السياسية.
ختامًا، نحن أمام مرحلة مقبلة في السياسة الأمريكية تتصدر فيها الترامبية المشهد مرة أخرى، ولكن هذه المرة، بعد أن اكتسب ترامب كزعيم سياسي العديد من الخبرات التي ساعدته في تعزيز عقيدته السياسية، حيث أصبحت الترامبية أكثر من مجرد رؤية فردية وباتت عقيدة سياسية مكتملة ورئيسية في تشكيل سلوكه وأسلوبه في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية، فضلا عن تمتعها بدعم شعبي كبير. ومع عودة ترامب إلى الساحة السياسية، ستظل هذه العقيدة تشكل قوة وتأثير عابر لحدود الولايات المتحدة ذاتها، ما يجعلنا نعيش في مرحلة سياسية قد تستمر في تأثيرها لعقود قادمة، بغض النظر عن وجود ترامب نفسه.
المصادر:
[1] Neo-Jacksonianism: US Foreign Policy at a Historic Crossroads, Asia Pacific Security Magazine, 20/5/2020
[2] ترامب يعلن عن إطلاق “تروث سوشل” المنصة الجديدة للتواصل الاجتماعي، فرانس٢٤، ٢١/١٠/٢٠٢١
https://linksshortcut.com/nPEmT
[3] ترامب يقر سحب 12 ألف جندي من القوات الأمريكية في ألمانيا في خطوة “استراتيجية”،بي بي سي، ٣٠/٧/٢٠٢٠
https://www.bbc.com/arabic/world-53589213
[4] ترامب يعلن الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ من أجل “حماية أمريكا وشعبها، سي ان ان، ١/٦/٢٠١٧
https://arabic.cnn.com/world/2017/06/01/trump-paris-climate-decision
[5] ما هي أبرز القطاعات المعرضة للتأثر بالرسوم الجمركية التي يعتزم ترامب فرضها؟، سي ان بي سي، ١٤/١١/٢٠٢٤
https://linksshortcut.com/yDsmb
[6] A look back at Americans’ reactions to the Jan. 6 riot at the U.S. Capitol, Pew Research Center, 4/1/2022
[7] JD Vance’s nomination proves Trumpism is here to stay, The Telegraph, 16/7/2024
https://www.telegraph.co.uk/news/2024/07/16/vance-nomination-proves-trumpism-is-here-to-stay/