العلاقات الباكستانية – الأفغانية: بين تصعيد مستمر ومستقبل مأزوم

إعداد: إسراء عادل

باحث مساعد في وحدة الشؤون الدولية

تشهد العلاقات الباكستانية – الأفغانية تصعيداً حاداً ينذر بتدهور غير مسبوق، وسط تراكمات تاريخية من التوترات السياسية والأمنية التي تفجرت في الآونة الأخيرة على خلفية الاشتباكات الحدودية المتبادلة، والتصريحات العدائية التي تكشف مدى فقدان الثقة بين الجانبين. وفي خضم هذا التوتر المتصاعد، أعادت باكستان تفعيل إجراءاتها ضد اللاجئين الأفغان المقيمين على أراضيها من خلال تنفيذ موجات ترحيل واسعة النطاق، زادت من تعقيد المشهد وفتحت الباب أمام أزمة إنسانية متفاقمة. فهذا التدهور لا يعكس فقط الخلافات الراهنة، بل يبرز عمق الانقسام التاريخي وغياب الثقة المتبادلة بين بلدين يشتركان في الجغرافيا ولكن يفترقان في المصالح الرؤى.

وفي ظل هذا المشهد المضطرب الذي يضع العلاقات بين البلدين أمام مفترق طرق مصيري، يُثار تساؤلاً جوهرياً: هل تشكل التوترات الراهنة فرصة لإعادة هيكلة العلاقة بين البلدين عبر آليات دبلوماسية فعالة، أم أن مشهد التصعيد المستمر ينذر بمستقبل أكثر هشاشة وانقسام؟

أولًا: أسباب تدهور العلاقات بين باكستان وأفغانستان

تواجه العلاقات الباكستانية – الأفغانية واحدة من أسوأ مراحل التوتر في تاريخها الحديث، حيث يشكل التوتر المتصاعد بين إسلام آباد وكابل امتداداً لتراكمات مزمنة من الخلافات الجيوسياسية والمخاوف الأمنية، التي تحولت في الآونة الأخيرة إلى أزمات مفتوحة تهدد الاستقرار الإقليمي. وفيما يلي أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا التوتر المستمر في العلاقات:

– الخلافات الحدودية المزمنة: ما زالت مسألة ترسيم الحدود على طول خط دوراند الذي رسمته الإدارة البريطانية أواخر القرن التاسع عشر، تشكل مصدر توتر دائم بين الطرفين، فبينما تعتبره باكستان حدوداً دولية رسمية معترفاً بها، ترى أفغانستان أن هذا الخط لا يعكس الحدود الشرعية وترفض الاعتراف به. وقد تصاعدت حدة الخلافات بعدما شرعت باكستان منذ عام 2017 في بناء سياج حدودي يمتد على طول أكثر من 2600 كيلومتر، بهدف منع تسلل المسلحين من الأراضي الأفغانية خاصة عناصر حركة طالبان الباكستانية. ورغم تأكيد إسلام آباد أن هذه الخطوة تأتي في إطار تعزيز أمنها الداخلي، فإن حكومات أفغانستان المتعاقبة بما فيها حركة طالبان، اعتبرت بناء الجدار انتهاكاً لسيادتها، مما أسهم في اندلاع اشتباكات متكررة على طول الحدود واحتكاكات عسكرية عند المعابر، وبذلك تبقى مسألة الحدود مصدر دائم للتصعيد، ومحور رئيسي في تعقيد العلاقات الثنائية بين البلدين.[1]

– تزايد أنشطة حركة طالبان الباكستانية (TTP): تعتبر حركة طالبان الباكستانية أحد أسباب تصاعد التوتر بين إسلام آباد وكابل، إذ تتهم باكستان حكومة طالبان الأفغانية بعدم اتخاذ إجراءات جادة ضد نشاط الحركة داخل الأراضي الأفغانية، فضلاً عن توفيرها ملاذات آمنة لعناصرها الإرهابية، وهو ما تنكره أفغانستان. وقد زادت هذه الاتهامات حدة بعد سلسلة من العمليات المسلحة التي نفذتها الحركة في المناطق الحدودية خلال عام 2025، كان أبرزها الهجوم الانتحاري على قاعدة عسكرية في منطقة بانو بإقليم خيبر بختونخوا في 4 مارس، والذي أسفر عن مقتل 18 شخصاً، تلاه اشتباك مسلح في 20 مارس أدى إلى مقتل 16 مسلحاً من الحركة أثناء محاولتهم التسلل عبر الحدود من أفغانستان إلى منطقة غلام خان في شمال وزيرستان، ثم وقعت عملية جديدة في 6 أبريل، قُتل فيها 8 من عناصر الحركة أثناء عبورهم السياج الحدودي. فهذه الهجمات المتكررة تعمق من أزمة الثقة بين الجانبين، وتزيد من تعقيد المشهد الأمني والسياسي بين باكستان وأفغانستان.[2]

– إغلاق المعابر التجارية: يعد إغلاق المعابر التجارية واحدة من أبرز مظاهر التصعيد الأخيرة التي عمقت التوترات بين البلدين، فقد شهدت الأشهر الماضية إغلاقاً متكرراً للمعابر الحدودية الحيوية مثل “تورخم” و”سبين بولدك”. ففي 21 فبراير الماضي تم إغلاق معبر “تورخم” الحدودي بين باكستان وأفغانستان، نتيجة خلاف بين قوات البلدين حول بناء نقطة تفتيش حدودية من قبل الجانب الأفغاني، مما تسبب في تعطيل حركة التجارة والسفر، وترك آلاف الشاحنات المحملة بالبضائع وإلحاق ضرر بالغ باقتصاد المناطق الحدودية، وزيادة الاحتقان الشعبي على جانبي الحدود. وبعد حوالي شهر من الإغلاق، أعيد فتح معبر تورخم في 19 مارس الماضي، بعد مفاوضات بين الجانبين الباكستاني والأفغاني. وجاءت إعادة الفتح استجابة لضغوط اقتصادية وشعبية، خاصة من التجار والسكان المحليين الذين تضرروا بشكل كبير من توقف الحركة عبر المعبر الذي يعد من أهم المعابر الحدودية بين البلدين. ولكن رغم إعادة فتحه تظل الأجواء مشحونة، فلم تنتهي الخلافات المتعلقة بالنقاط الأمنية وبناء المنشآت على جانبي الحدود، وهو ما يجعل احتمالات التصعيد مستقبلاً قائمة في حال عدم التوصل إلى تفاهمات أوسع.[3]

وفي السياق ذاته، يبدو أن مسألة إغلاق المعابر الحدودية تحول إلى ورقة ضغط سياسي تستخدمها إسلام آباد في لحظات التصعيد الأمني مع كابل، حيث تسعى باكستان من خلال هذه الإجراءات إلى فرض معادلات ميدانية تُرغم الحكومة الأفغانية على تقديم تنازلات في ملفات أمنية حساسة، لا سيما ما يتعلق بأنشطة حركة طالبان الباكستانية، التي تتهمها بتنفيذ هجمات عبر الحدود انطلاقاً من الأراضي الأفغانية، في تحدي مباشر لسيادة باكستان واستقرارها الداخلي.

– أزمة اللاجئين الأفغان: ما زالت أزمة اللاجئين الأفغان تعد واحدة من أبرز بؤر التوتر في العلاقات الثنائية بين باكستان وأفغانستان. وقد تصاعد هذا الملف إلى واجهة الخلافات، لا سيما بعد إعلان باكستان في أواخر عام 2023 خطتها لترحيل مئات الآلاف من اللاجئين الأفغان غير المسجلين، وهو ما تسبب في أزمة إنسانية واقتصادية داخل أفغانستان، وفاقم من حدة التوتر السياسي بين الطرفين. حيث خرج أكثر من 600 ألف لاجئ أفغاني تحت ضغط الترحيل القسري بحلول منتصف 2024، ثم كثفت السلطات الباكستانية حملات الترحيل ومصادرة ممتلكات اللاجئين في أبريل الحالي، مع التركيز على مدن مثل إسلام آباد وروالبندي، حتى تم ترحيل نحو 40 ألف لاجئ في 30 مارس الماضي، مما أثار موجة من الانتقادات الدولية.[4]

وشكلت هذه الحملات القسرية ضربة قاسية للعلاقات الثنائية بين إسلام آباد وكابل، حيث اتهمت الأخيرة باكستان بانتهاك المعايير الإنسانية وتعقيد العلاقات الثنائية، بينما بررت الحكومة الباكستانية قراراتها بأنها ضرورية من الناحية الأمنية، في ظل ما شهدته البلاد من تصاعد للهجمات المسلحة عبر الحدود من قِبل حركة طالبان الباكستانية.

ورغم التحذيرات من المنظمات الدولية، وتزايد المخاوف من أن عودة اللاجئين إلى أفغانستان تحت حكم طالبان ستعرضهم لمخاطر جسيمة تتمثل في الفقر المدقع وانعدام الأمان، إلا أن باكستان تواصل عمليات الترحيل، مما يعكس سياساتها القاسية التي تعمق الأزمة الإنسانية وتزيد من تعقيد العلاقات الثنائية مع أفغانستان.

ثانيًا: مواقف الأطراف الدولية والإقليمية من تصاعد التوتر بين إسلام آباد وكابل

في ظل التوترات المتصاعدة في العلاقات الباكستانية – الأفغانية في الآونة الأخيرة بشأن الخلافات على الحدود، وأزمة اللاجئين الأفغان، والهجمات المتواصلة لحركة طالبان الباكستانية، تنوعت مواقف الأطراف الدولية والإقليمية إزاء تلك الأوضاع، والتي قد تلقي بظلالها على الحسابات الجيوسياسية والمصالح الأمنية للقوى الكبرى الفاعلة في منطقة جنوب آسيا.

حيث أعربت الأمم المتحدة عن قلقها من عمليات الترحيل الجماعي للاجئين الأفغان من باكستان، والتي قد تعرض حياة الآلاف للخطر، مشددة على ضرورة احترام حقوق الإنسان وضمان الكرامة في أي إجراءات تتخذ بحق اللاجئين. كما حثت مفوضية اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة باكستان على ضمان عودة آمنة وطوعية للاجئين، مع تقديم الدعم اللازم للفئات الأكثر ضعفاً. [5]

في حين أبدت روسيا قلقها البالغ إزاء الاشتباكات المتواصلة على الحدود بين القوات الباكستانية والأفغانية، كما دعت كافة الأطراف المعنية إلى ضبط النفس والانخراط في الحوار البناء بهدف التوصل إلى حلول سلمية لجميع الخلافات العالقة بين البلدين. وتسعى موسكو دائماً أن تظل علاقاتها مستقرة مع الطرفين خاصةً في ظل محاولاتها لتوسيع نفوذها في آسيا الوسطى.[6]

أما إيران، فقد اتسم موقفها بالتوازن والحذر، حيث تسعى طهران لتجنب الانخراط المباشر في تلك الأوضاع، وتركز على حماية حدودها وتحقيق مصالحها. ففي ظل توتر العلاقات بين إسلام آباد وكابل في الفترة الأخيرة، أعلنت طهران عن خطط لترحيل نحو مليوني مهاجر أفغاني بحلول مارس 2025، وأكدت أن هذه الإجراءات تهدف إلى تنظيم وجود الأجانب في البلاد. وعلى الجانب الأخر، يبدو أن إيران استفادت أيضاً من القيود التجارية الباكستانية على أفغانستان عبر إغلاق معبر تورخم، وقامت بتعزيز حضورها الاقتصادي في السوق الأفغانية من خلال زيادة التبادل التجاري وعقد لقاءات رسمية بين مسؤولين من إيران وأفغانستان لمناقشة قضايا الجمارك وتعزيز التعاون الاقتصادي الشامل.[7]

وبالنسبة للصين، فقد التزمت الصمت وامتنعت عن اتخاذ موقف مباشر تجاه الأوضاع الأخيرة بين إسلام آباد وكابل، وهو ما يعكس تجنبها التورط في الخلافات الحدودية المعقدة. حيث تسعى بكين إلى الحفاظ على استثماراتها مع باكستان، لا سيما في إطار مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني. وفي الوقت نفسه تحاول لإبقاء قنوات اتصال مباشرة مع حكومة طالبان بهدف ضمان الاستقرار الأمني خاصةً في إقليم بدخشان القريب من شينجيانغ.

ثالثًا: مستقبل العلاقات الباكستانية – الأفغانية

إن التصعيد الحالي بين كابل وإسلام آباد، يلقي بظلاله القاتمة على مستقبل العلاقة بين البلدين، حيث تفاقمت الخلافات الأمنية والحدودية والإنسانية بشكل غير مسبوق مع تكرار إغلاق معبر تورخم، وتكثيف عمليات الترحيل القسري للأفغان من باكستان، وتصاعد هجمات طالبان الباكستانية من داخل الأراضي الأفغانية. وفي ظل هذا التعقيد يمكن رسم عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل العلاقات بين البلدين على النحو التالي:

سيناريو استمرار التوتر والتصعيد المتبادل:

يفترض هذا السناريو استمرار التوتر بين الدولتين، بحيث تستمر باكستان في تصعيد الإجراءات ضد أفغانستان من خلال إغلاق المعابر الحدودية بشكل متكرر وتكثيف العمليات العسكرية على طول الحدود، وتوسيع عمليات طرد المهاجرين الأفغان، بينما تزداد الهجمات عبر الحدود من قبل حركة طالبان باكستان، الأمر الذي يدفع إلى مزيد من التصعيد الأمني والسياسي ويؤدي إلى تدهور العلاقات بين الطرفين بشكل غير قابل للإصلاح، مما يهدد استقرار المنطقة بأكملها.

سيناريو التوصل إلى تفاهم دبلوماسي:

فقد تسهم الضغوط الدولية سواء من الأمم المتحدة أو من القوى الإقليمية مثل الصين وروسيا، في فتح قنوات حوار بين باكستان وأفغانستان للتفاوض على اتفاقات أمنية واقتصادية ترضى الطرفين وتكون أساس للتهدئة في المستقبل، بحيث يشمل هذا السيناريو فتح المعابر الحدودية وتقليل التصعيد العسكري، ومحاولة إيجاد آليات تنسيق أمني لمكافحة الأنشطة الإرهابية. ورغم أن هذا السيناريو يعتمد على مرونة طرفي النزاع، إلا أنه يظل احتمال ممكن إذا تم الضغط الدولي بشكل فعال.

سيناريو التهدئة والتقارب المحدود:

يفترض هذا السيناريو أن تسعى باكستان وأفغانستان إلى تخفيف حدة التوترات بينهما. ورغم الصعوبات الكبيرة التي قد تعيق هذا السيناريو إلا أنه يدعم بعض المؤشرات التي قد تظهر من قِبل باكستان في محاولة لحل الخلافات الأمنية، خاصة في إطار التنسيق مع حكومة طالبان حول قضايا أمنية مشتركة، مثل مكافحة الإرهاب وتحسين الأوضاع الإنسانية على الحدود. وعلى الرغم من استمرار التوترات، فقد يتم فتح المعابر الحدودية تدريجياً والتخفيف من الضغوط على اللاجئين الأفغان. ولكن يظل هذا السيناريو ضعيف نظراً لجذور الخلافات العميقة بين البلدين، والتنافس الإقليمي، والضغوط السياسية الداخلية على كلا الطرفين والتي تشكل عوائق كبيرة أمام إمكانية تحقيق تقارب حقيقي.

وبناءً على ما سبق، فإن أقرب سيناريو هو استمرار التوترات مع احتمالية تصاعد الأزمات الحدودية والأمنية، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم القضايا الإنسانية مثل أزمة اللاجئين. ومن الممكن أن نشهد محاولات تهدئة دبلوماسية في حالة تزايد الضغوط الدولية، ولكن يبدو أن العلاقات بين البلدين ستظل في حالة من عدم الاستقرار، مع تباين في نتائج أي مفاوضات أو اتفاقات مستقبلية.

ختامًا يمكن القول:

أن العلاقات الباكستانية – الأفغانية تمر بمرحلة حرجة في ظل التوترات الراهنة والتي تمثل تحدياً حقيقياً للأمن الإقليمي واستقرار المنطقة. ورغم تعقيد الخلافات بين البلدين، لا تزال هناك فرص لإحداث تحولات إيجابية سواء من خلال التسوية الدبلوماسية أو التعاون الأمني المحدود، إلا أن هذه الفرص لا تخلو من التحديات، فالمشهد السياسي والأمني المتقلب قد يحول دون الوصول إلى حلول مستدامة.

وبالتالي تبقى السيناريوهات المستقبلية التي تحدد مسار العلاقات الباكستانية الأفغانية رهينة لعدة عوامل، منها المرونة السياسية لكلا الطرفين، وحجم الضغوط الإقليمية والدولية، والتغيرات في المصالح الاستراتيجية الكبرى. ولا شك أن أي مسعى نحو التهدئة يتطلب الإرادة السياسية القوية والقدرة على معالجة القضايا العالقة بشكل جذري يضمن الاستقرار والازدهار للمنطقة بأسرها.

المصادر:

[1] المكتب الإعلامي لحزب التحرير، الاشتباكات الحدودية بين باكستان وأفغانستان، 29 أغسطس 2024، متاح على الرابط: https://2u.pw/Ltvyq

[2] South Asia Terrorism Portal, Pakistan: Timeline (Terrorist Activities)-2025, Available At; https://2u.pw/hhzlS

[3] الشرق، إعادة فتح معبر حدودي رئيسي بين باكستان وأفغانستان بعد إغلاقه قرابة شهر، 19 مارس 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/xyYKS

[4] مصطفى شلش، اللجوء الأفغاني.. أزمة جديدة في باكستان، مركز الدراسات العربية الأوراسية، 10 أبريل 2025، متاح على الرابط: https://2u.pw/hNsWH

[5] United Nations, UN experts call on Pakistan to stop displacing Afghans, 4 April 2025, Available At: https://2u.pw/TXGNc

[6] بوابة أخبار اليوم، موسكو تعرب عن قلقها إزاء التوترات على الحدود بين أفغانستان وباكستان، 29 ديسمبر 2024، متاح على الرابط: https://2u.pw/D61HX

[7] Norwegian Refugee Council, Millions of Afghans face expulsion under desperate conditions, 22. Jan 2025, Available At: https://2u.pw/Mrz51