إعداد: دينا لملوم
باحثة متخصصة فى الشؤون الإفريقية
علاقات تاريخية وطيدة تجمع الطرفين التركى والإثيوبى، تغذيها رغبات ومصالح مشتركة تدفع بمستوى هذه العلاقات، وسعى الحكومة الإثيوبية إلى الاستفادة من الرصيد المعرفى لخبرات تركيا فى بناء واستغلال السدود على روافد الأنهار، وكما أن الجانب التركى يحركه مصالح وأهداف وتدفعه للتقارب مع أديس أبابا، فإن هذه الأخيرة أيضًا تحركها طموحات وتطلعات إزاء هذا التعاون، وفى هذا الصدد يمكن الحديث عن تحالف “الرمح الثلاثى” الذى اندست من خلاله إسرائيل للتوغل فى مجال المياه والتأثير بشكل أو بآخر على مسار ملف سد النهضة، حتى جاء التقارب المصرى التركى مؤخرًا، وهو ما قد يشكل انفراجة فى هذا المشهد المتأزم، وإعادة ترتيب الأوراق من جديد.
تسلسل تاريخى للعلاقات التركية الإثيوبية:
بدأت ملامح العلاقات الودية بين أنقرة وأديس أبابا تتضح فى عام 1896، حيث كان أول اتصال رسمى بين الإمبراطور الحبشى “منليك” والسلطان عبد الحميد الثانى فى هذه الحقبة، ثم تم افتتاح أول قنصلية تركية فى مدينة هرر شرق إثيوبيا عام 1912، وأول سفارة عام 1926، بعد إعلان قيام الجهورية التركية عام 1923، وظلت الحكومة التركية تحافظ على هذه العلاقات، حتى أن سفارة أنقرة فى العاصمة الإثيوبية كانت المبنى التركى الوحيد المتبقى فى إفريقيا جنوب الصحراء، إلا أن هذا المسار العلاقاتى انقطع بين البلدين خلال الغزو الإيطالى لإثيوبيا عام 1936، ولكن سرعان ما عادت الأمور إلى مجراها الطبيعى عام 1957، وفى عام 2005، بدأت تركيا فى تطبيق سياسة الانفتاح على إفريقيا، ودشنت وكالة التعاون والتنسيق التركية المعروفة باسم “تيكا” مكتبها الأول فى القارة بأديس أبابا، ومنذ ذلك الحين قامت تركيا باستخدام كافة أوجه مد النفوذ داخل الدولة، حيث المنح الدراسية وإرسال البعثات، وإنشاء المدارس، بشكل أسهم فى نشر ثقافة التعليم التركى، وفر الوقت الذى توترت فيه العلاقات بين مصر وتركيا، قامت الأخيرة بزيادة حزم المساعدات الاقتصادية إلى إثيوبيا، وتوزيع الغذاء على النازحين فى مخيم غيلان، فضلًا عن إمداد الأحياء الفقيرة بقرابة 17 طن مساعدات إنسانية، أيضًا الاهتمام بتطوير القطاع الصحى ودعم مستشفيات الأطفال، تلك كانت أداة السياسة الخارجية الناعمة التركية فى البلاد؛ لضرب القوى المناوئة لها فى المنطقة، وتطويع الموقف الإثيوبى لصالح توجهاتها المختلفة، كما تم افتتاح رحلات الخطوط الجوية التركية المباشرة إلى أديس أبابا عام 2006، وقد زار الرئيس التركى أردوغان البلاد فى يناير 2015، حتى جاءت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبى إلى العاصمة التركية أغسطس 2021، التى كانت بمثابة نقطة انعطاف فى العلاقات بين البلدين بعد فترة من الفتور.
تقارب مشترك:
تتسم السياسات التركية والإثيوبية بقدر كبير من التقارب على أصعدة عدة، سواء داخليًا أو خارجيًا، فكل منهما لديه تجربة إثنية معقدة تفتقر للتجانس والاندماج الاجتماعى، الأمر الذى يعمل على تهديد أمن واستقرار البلدين، وهو ما اتضح فى حالات التمرد والحروب الأهلية، فلعل التواصل التركى الإثيوبى أثناء حرب التجراى التى أنهكت إثيوبيا، كان من أجل الاستفادة من التجربة التركية فى محاربة الأكراد، أيضًا تتشابه السياسات المائية لكلا البلدين إلى حد كبير، ففى الوقت الذى تتخذ فيه إثيوبيا إجراءات أحادية فيما يخص ملء وتشغيل سد النهضة، تنتهج تركيا المسارات نفسها بحق سوريا والعراق، بشكل يخالف الاتفاقيتين الدوليتين لعام 1966-1997، بجانب اختراق الاتفاقيات الثنائية التى وقعت مع الجانب السورى والعراقى، وتُستمد هذه العقيدة حيال الأنهار الدولية من منطلق وصفها كأنهار وطنية تطبق عليها تركيا وإثيوبيا مبدأ الملكية الخاصة، وهو ما يعطيها حرية التصرف فيها بشكل منفرد على حد اعتبارهما، وقد بلغ عدد السدود التركية على نهرى دجلة والفرات 22 سدًا، منهم 14 سدًا على نهر الفرات، و8 على نهر دجلة؛ وبالنظر إلى ملف سد النهضة، نجد أنه استنساخ ونقل لتجربة تركيا فى سد أتاتورك، الذى تم تدشينه عام 1992، والذى سبب أضرار مائية لسوريا والعراق، بحيث حرمهما من قرابة 75% من حصتهما من نهر الفرات، كما أن سد “إليسو” حجب حوالى 60% من تدفقات نهر دجلة بالعراق، بشكل تسبب فى أزمات اقتصادية طاحنة لكلا البلدين؛ أما عن أديس أبابا، فثمة تشابه فى السياسات التى تتبعها فى سلسلة السدود التى شرعت فى بنائها، ليس فقط فى مصر والسودان، ولكن أيضًا فى الصومال وكينيا، فمؤخرًا تم إطلاق سد “جينال دوا” على نهر “جينال” إحدى روافد نهر جوبا، ونهر أومو أحد روافد بحيرة توركانا الكينية؛ وبالتالى فإن هذه السدود قد أثرت بشكل سلبى على الحصص المائية لهذه الدول، وبطبيعة الحال التأثير فى مسار الحياة الاقتصادية فى البلدان المتأزمة كنتيجة لذلك، وقد كان هذا التقارب بمثابة الدينامو الذى دفع بمسار هذه العلاقات إلى هذا المستوى المتعلق بوجود عدد من الملفات الحساسة بينهما، ففى الوقت الذى تحتاج فيه تركيا جبهة إفريقية قوية تدعمها فى الصراع الدائر فى ليبيا، فإن إثيوبيا تتطلع إلى حليف شرق أوسطى قوى يقابل التكتل العربى الداعم للمواقف المصرية.
أسباب التواجد التركى فى إثيوبيا:
يحكم الوجود التركى على الأراضى الإثيوبية حزمة من الأهداف التى تقف خلف هذه التطلعات والخطط الطموحة، فضلًا عن التقارب المشترك فى بعض الملفات والسياسات التنموية والمائية للبلدين على حد سواء، ويمكن إجمال ذلك فى التالى:
1- الأهمية الجيوسياسية لإثيوبيا:
تتمتع أديس أبابا بثقل جيوسياسى لا يستهان به فى منطقة القرن الإفريقى بشكل خاص، وشرق إفريقيا بشكل عام، ويحتمل أن يتزايد مع اكتمال المخطط الإثيوبى بشأن سد النهضة، ومن ثم تحولها كمركز إقليمى للطاقة، هذا بالإضافة إلى دورها المحورى فى حفظ التوازنات داخل حوض النيل فى ظل الصراع بين بعض القوى الإقليمية فى الشرق الأوسط، فقد تستغل أنقرة ذلك وتعمل على ممارسة الضغط على مصر بعد استبعاد تركيا من منتدى غاز شرق المتوسط، أيضًا تحاول الحكومة التركية مساندة إثيوبيا والحيلولة دون انهيارها؛ لأن ذلك يجنب جارتها الصومالية مخاطر جمة، حيث إن الأخيرة تشكل نقطة ارتكاز محورية للنفوذ التركى فى القرن الإفريقى والبحر الأحمر، ويحكم هذه الفرضية، اعتبار أديس أبابا من أهم المساهمين فى قوات مكافحة الإرهاب فى مقديشو، ناهيك عن الاعتداءات التى تقوم بها حركة الشباب على المصالح التركية فى البلاد؛ على خلفية دعم أنقرة للحكومة الصومالية.
2- تعزيز النفوذ التركى فى إفريقيا:
يندرج التواجد التركى فى إثيوبيا ضمن خطة دعم وتعزيز نفوذ أنقرة فى فى القرن الإفريقى، وقد نجحت بالفعل فى ذلك عبر ترسيخ وجودها فى الصومال من خلال إقامة قاعدة عسكرية خاصة بها فى البلاد، وتدعيم الحكومة السابقة بقيادة “فرماجو”، كما أن التعاون العسكرى التركى مع النيجر يسهم فى تطويق الدول العربية من الجنوب، حيث التواجد فى النيجر يدعم قواعد تركيا فى ليبيا، ويجعلها قريبة من حدود مصر والسودان، أيضًا التمركز فى القرن الإفريقى والتقارب الجغرافى عند باب المندب يقرّب أنقرة من الحدود الجنوبية للجزيرة العربية واليمن، وتتمسك تركيا بعلاقتها مع إثيوبيا وتحرص دائمًا على تطويرها؛ نظرًا لرغبتها فى الحفاظ على هذا الحليف الإستراتيجى بعدما خسرت جزيرة “سواكن” والنظام السودانى السابق؛ لذا فالتواجد على الأراضى الإثيوبية يعوضها جزئيًا عما فقدته فى السودان، ويلاحظ دعوة إثيوبيا بشكل متكرر للجانب التركى لحضور اجتماعات الاتحاد الإفريقى الذى تستضيفه على أراضيها وهو ما يتيح لأنقرة فرصة التغلغل إلى أفريقيا عبر بوابة الاتحاد.
3- الضغط على الحكومة المصرية:
تعمل الحكومة التركية على استغلال نفوذها المتنامى فى إثيوبيا وممارسة ضغوط على الموقف المصرى عبر استغلال تواجدها فى منطقة حوض النيل؛ لكى تتمكن من تحقيق مصالحها الخاصة والمتشعبة فى ليبيا وشرق المتوسط، واستمرارًا لسياسة الضغوط المزدوجة التى تتبعها بالتقارب مع أديس أبابا، فقد سعت الأخيرة إلى التأثير فى الموقف التفاوضى المصرى فيما يخص أزمة سد النهضة، خاصة بعد دعم أنقرة لمشروع بناء السد، بحيث تمد الحكومة الإثيوبية بالمعدات والدعم المادى اللازم لضمان نجاح هذا المشروع، بجانب تواجد العديد من الشركات التركية العاملة فيه.
4 – خلق سوق جديد للسلاح التركى:
مؤخرًا تمكنت تركيا من تطوير ترسانتها العسكرية، والسعى نحو تصديرها إلى العديد من الدول النامية، كما دعمت الحكومة الإثيوبية فى حربها ضد قومية التجراى، وقد تم توقيع اتفاقية عسكرية بين أنقرة وأديس أبابا عام 2021، واتفق الطرفان على تبادل المعلومات الاستخباراتية العسكرية، وتقديم الدعم اللوجستى المتبادل، واشتملت الاتفاقية على بند حماية المعلومات السرية وحقوق الملكية الفكرية والمادية بشكل عام فى اتفاقيات التعاون فى مجال الصناعات الدفاعية التى وقعتها تركيا مع الدول التى تخطط لبيع الأسلحة إليها فى الاتفاقية الإطارية مع إثيوبيا.
5- تحقيق السيطرة التركية على الاقتصاد الإثيوبى:
سعت أنقرة إلى زيادة معدلات التبادل التجارى بينها وبين الدول الإفريقية، الذى كان عند مستويات 5.4 مليار دولار عام 2003، ووصل إلى 40.7 مليار بنهاية عان 2022، كما أن الاستثمارات بين الجانبين وصلت إلى 10 مليارات، فضلًا عن فرص العمل التى يوفرها المستثمرون الأتراك لآلاف الأفارقة، والمساهمة فى تنمية دول القارة السمراء، وهو ما يسهم فى تعاظم فرص اقتصاد تركيا فى المنطقة، حيث تحتل استثماراتها فى إثيوبيا المرتبة الثانية بعد الاستثمارات الصينية، بما يؤشر بأهمية التواجد التركى فى القارة، ولقد نجحت الحكومة التركية ونظيرتها الإثيوبية فى توقيع مذكرات تفاهم فى مجالات المياه والتعاون المالى العسكرى على هامش زيارة آبى أحمد إلى تركيا أغسطس 2021، وهو ما يوطد من قوة العلاقات بين البلدين، لا سيما وأن أنقرة لديها استثمارات ضخمة فى أديس أبابا، كما أن الشركات التركية تلعب دورًا مفصليًا فى دعم نمو الاقتصاد الإثيوبى، ووصل عدد هذه الشركات إلى حوالى 187 شركة، من بينها 100 عاملة فى مجال التصنيع، وأخرى تنشط فى مجالات البناء والعقارات، وبالاستناد إلى عدد السكان الضخم فى إثيوبيا باعتبارها ثانى أكبر دولة فى القارة الإفريقية، نلاحظ أن فى ذلك فرصة ذهبية لتركيا، حيث وجود سوق كبير واقتصاد نشط، تسعى من خلاله الشركات التركية لأن تتخذه مقرًا لتوزيع منتجاتها إلى الدول الإفريقية الأخرى، وبهذا فقد حققت تركيا اختراقًا للاقتصاد الإثيوبى حتى باتت رقمًا مهمًا فى معادلة اتخاذ القرار فى القرن الإفريقى، بعدما أصبحت المصدر الأساسى للسلع التى يستهلكها الإثيوبيون.
دلالات التقارب التركى الإثيوبى:
ثمة حزمة من المحددات التى دفعت رئيس الوزراء الإثيوبى إلى التقارب مع تركيا، ويمكن إبراز ذلك فى النقاط التالية:
- الأزمات الداخلية والخارجية التى مرت بها إثيوبيا كحرب التجراى، حيث سعى آبى أحمد إلى البحث عن حليف يدعمه ضد جبهة التجراى، التى كانت قد شكلت تحديًا كبيرًا أمام حكومته، فضلًا عن رغبة آبي أحمد فى تحقيق التوازن فى التسليح مع قوات دفاع هذه الجبهة عبر التعاون عسكريًا مع أنقرة.
- دعم أسس التعاون بين إثيوبيا وتركيا وتطويرها من تحالف اقتصادى إلى تحالف سياسى إستراتيجى يستهدف التصدى للقوى الرافضة لسياسات البلدين فى مختلف الملفات والقضايا الإقليمية والدولية.
- سعى أديس أبابا إلى حشد أكبر عدد ممكن من القوى الفاعلة فى المنطقة؛ لعرقلة جهود إعادة فتح ملف سد النهضة الذى يدور فى ظل مشهد سياسى وأمنى يشوبه شيء من الجمود والتعقيد، داخل أروقة مجلس الأمن الدولى بالأمم المتحدة.
- تنظر إثيوبيا إلى علاقتها مع تركيا على أنها علاقة ضرورية ومحورية تستند إليها فى ظل العزلة الدولية التى عانت منها بسبب الأزمات الإنسانية والحروب الداخلية التى عصفت بها، وفى ظل الإدانات الدولية سواء من قبل الكونجرس الأمريكى وكذلك المنظمات الدولية على خلفية السلوكيات العنيفة ضد المكونات والعرقيات المناوئة للحكومة الإثيوبية، وبالتالى فإن أنقرة تلك الدولة العضو فى حلف الناتو، ترجح كفة أديس أبابا فى ظل حالة السخط العالمى على سلوك هذه الأخيرة، إضافة إلى أن الدعم التركى مع الصمت الروسى الصينى يوازن الانتقادات الغربية لسلوك الحكومة الإثيوبية.
- تشكل اتفاقية الدفاع المشترك التى وقعت بين الطرفين عام 2013، محور مهم ترتكز عليه إثيوبيا فى خططها المتعلقة بتعزيز الصناعات الدفاعية المشتركة، وحماية المناطق الحيوية لديها، بما فيها سد النهضة، وقد نصت هذه الاتفاقية على قيام أنقرة بتقديم الدعم الفنى واللوجستى لزيادة القدرات الإثيوبية العسكرية، وتحديث أسلحتها، وإقامة تعاون متبادل بين شركات الصناعات الدفاعية فى كلا البلدين، أيضًا الاتفاق على الاستفادة من الخبرات التركية فى بناء السدود ومساعدة أديس أبابا فى الدفاع عن سد النهضة، هذا بجانب تعهد أنقرة بحماية إنشاءات السد من خلال أجهزة رادار تركية، تستخدم فى حالات الإنذار المبكر، وتزويد الجانب الإثيوبى بنظام صواريخ تركية إسرائيلية.
- تقديم الدعم المادى غير المباشر لسد النهضة، وذلك عن طريق قيام تركيا بتدشين مشروعها الاستثمارى المتعلق بزراعة مليون ومائتى ألف فدان على مقربة من السد، قدمت من خلاله دعمًا ماليًا واقتصاديًا، كما ساعدت على تعزيز العملة الإثيوبية بالشراكة مع قطر، بما أسهم فى خلق حالة من الثقة لدى إثيوبيا مكنتها من دفع عجلة استكمال بناء السد، دون الالتفات إلى احتمالية توقف الجهات المانحة الأخرى التى تمول هذا المشروع.
- تعويل أديس أبابا على تركيا فى توصيل الكهرباء التى تتولد من السد إلى دول الجوار؛ مستفيدة من الخبرات التركية فى استثمار الكهرباء المنتجة من السدود، ويتعاون البلدان فى قطاع الطاقة، حيث تعمل شركة تركية فى مجال تركيب خطوط نقل الكهرباء وتوريد المحولات، كما وقع الطرفان اتفاقية لتوليد الطاقة الكهربائية من سد النهضة وتوصيلها إلى الدول المجاورة يناير 2015.
تحالف الرمح الثلاثى:
شكلت إسرائيل تحالفًا استخباراتيًا أُطلق عليه “الرمح الثلاثى” عام 1958، شمل كل من: إسرائيل وتركيا وإيران وإثيوبيا، حيث استخدم كأداة لتطويق ومحاصرة العالم العربى، وهدف إلى تعزيز التعاون والتنسيق بين الدول الأعضاء، والبحث عن شركاء إقليميين ضد الشعوب العربية، حيث تركيا وإيران فى الشمال، وإثيوبيا فى الجنوب، وبالتالى وضع العرب بين شقى الرحى وحصارهم فى المنتصف، ومنعهم من القيام بأى أعمال عسكرية بما يهدد بقاء إسرائيل وذلك وفقًا للرؤية الإسرائيلية، والتى هدفت أيضًا إلى التخطيط لبناء السدود، ومن ثم الحفاظ على الأمن المائى التركى والإسرائيلى، وفى هذا الصدد نجد أن التخطيط لإقامة عدة سدود على النيل الأزرق وروافده تم بدراسة أمريكية صدرت عام 1964، هدفت فى هذه الآونة إلى تدشين 33 سدًا كان من بينها سد النهضة، الذى أطلق عليه آنذاك سد الحدود، الذى كان من المفترض ألا تزيد سعته التخزينية عن 14 مليار متر مكعب، ولكن الضغوط الإسرائيلية دفعت إثيوبيا إلى مضاعفة هذه الطاقة الاستيعابية للسد إلى أضعاف مضاعفة وصلت إلى حوالى 74 مليار متر مكعب، وكأن الهدف لم يكن الرغبة فى إحداث تنمية أو توليد الكهرباء، وإنما الالتفاف حول مصر وممارسة الضغط عليها لإضعاف قواها، وهو ما حدث مع تجربة شد أليسو التركى، والذى أضر بسوريا والعراق، وربما أرادت تل أبيب من وراء هذا العبث لأن تصبح دولة مصب تستحوذ على مياه النيل، ليصبح لها الحق فى التحكم فى أى مشروع مائى مصرى وسودانى على ضفاف نهر النيل، وعلى الرغم من هذه المخططات الخبيثة التى تُدس لمصر، إلا أن الإدارة المصرية لن تتهاون فى حقها من مائية النهر، ولن تسمح لأى طرف بأن يمس أمنها القومى تحت أى ظرف من الظروف.
مخاطر تمدد النفوذ التركى فى إثيوبيا:
على الرغم من الثمار التى يجنيها كل من إثيوبيا وتركيا فى ظل حالة التقارب التى تضرب بجذورها إلى مئات السنين، وحالة التعاون المثمر والبناء بين الطرفين، إلا أن ذلك لن يحول دون اتساع فجوة الاختلافات وتنافس المصالح فى المنطقة، ونحن بصدد تناول ذلك فيما يلى:
1- تهريب السلاح التركى للداخل الإثيوبى:
ترتبط العلاقات التركية الإثيوبية بروابط تعاونية فى مجالات عدة، إلا أن هناك صفقات مشبوهة تتوغل إلى الداخل الإثيوبى، حيث تهريب السلاح التركى، عبر شحنات تم إخفاؤها وسط أجهزة إلكترونية ضمن حاويتين تم شحنهما من ميناء مرسين التركى إلى ميناء جيبوتى، ثم نقلها إلى الأراضى الإثيوبية، وفى هذا الصدد يلاحظ أن أنقرة اتبعت سياسة الإمساك بالعصا من المنتصف، وذلك عبر التنسيق مع أطراف إثيوبية أخرى يمكن أن تحل محل الحكومة الحالية فى المستقبل، وفى ذات الوقت الحفاظ على علاقة جيدة مع الحكومة الإثيوبية؛ تحسبًا لاحتمالية انهيارها فى ظل التحديات الراهنة التى تجابهها.
2- تهديد المصالح الإثيوبية فى الصومال:
قد يشكل توسع النفوذ التركى فى الصومال تهديدًا لمصالح وتطلعات أديس أبابا فى المنطقة، فالوضع الحالى ما زال فى صالح الطرفين، كل منهم يدعم خصمه، فتركيا تتحالف مع الحكومة المركزية الصومالية فى صراعها مع أرض الصومال، أما إثيوبيا فتدعم الأخيرة؛ رغبةً فى الحصول على تسهيلات فى الموانئ، وبالتالى فهناك استغلال للوضع الهش للحكومة فى مقديشو؛ من أجل تحقيق أهداف وطموحات شخصية، ومن ثم فإن أى محاولة لعودة الدولة المركزية الصومالية سوف يضرب هذا النفوذ فى مقتل، أيضًا عمل الجانب التركى على استغلال التشابك القبلى والصراع السياسى والعرقى بين إثيوبيا والصومال؛ لترسيخ الوجود التركى فى هذه المنطقة الإستراتيجية، كل هذا يعد كورقة ضغط ضد أديس أبابا، قد تلجأ إليها أنقرة حال حدوث خلاف بينهما فى المستقبل.
3- التنافس على ميناء جيبوتى:
ثمة تنافس إثيوبى تركى محموم للسيطرة على ميناء جيبوتى، فى الوقت الذى ترغب فيه أديس أبابا الاستحواذ على حصة من هذا الميناء، الذى تعبر من خلاله معظم تجارتها مع العالم الخارجى، على الجانب الآخر توجد شركة البيرق التركية التى تدير ميناء مقديشو، وتسعى لتولى إدارة ميناء جيبوتى بعدما وقعت اتفاق تعاون بحرى مع الصومال، بما يمكن أنقرة من مراقبة الصادرات والواردات الإثيوبية، بل وقد تلجأ إلى استغلاله كقاعدة بحرية عسكرية تؤسس لها انطلاقة جديدة قرب البحر الأحمر.
سيناريوهات مستقبلية محتملة:
فى ظل حالة الإقدام والإحجام التى تسيطر على العلاقات التركية الإثيوبية، نجد أن ثمة مجموعة من الرؤى والسيناريوهات المستقبلية التى ترسم ملامح هذه العلاقة بشكل أكثر وضوحًا خلال الفترة المقبلة، ويمكن إجمال ذلك فى التالى:
السيناريو الأول:
استمرار مسار التعاون بين البلدين: يؤول هذا السيناريو إلى مواصلة الوضع الراهن بين تركيا وإثيوبيا، حيث استمرار سبل التعاون السياسى والاقتصادى والعسكرى، وتدفق الاستثمارات التركية فى البلاد، فضلًا عن احتمالية بقاء آبى أحمد فى السلطة، حال تمكنه من التغلب على المشاكل الحدودية والعرقية، إضافة إلى التحديات الاقتصادية والأمنية الداخلية، حتى وإن لم تكن له فرصة البقاء، فإن الجانب التركى استنادًا لمبدأ اللعب على كافة الأوتار الرابحة، تمكن من تعزيز علاقاته مع أطراف أخرى داخل إثيوبيا، ومن ثم فإذا انتهت ولاية آبى أحمد أم استمرت، فأنقرة تعلم جيدًا كيف تحافظ على ديمومة مصالحها.
السيناريو الثانى:
صدام المصالح: فى ظل الدعم الذى تقدمه تركيا للقومية الصومالية فى إثيوبيا، وحالة التنافس المحتدم على المصالح فى جيبوتى والصومال، ودعم تركيا لهذه الأخيرة، قد يتحول المسار التنافسى فى المستقبل إلى صراع محموم بين الجانبين التركى والإثيوبى، وهو سيناريو مستبعد إلى حد ما؛ نظرًا لافتقاد رفاهية الانخراط فى صراع جديد فى ظل التحديات التى تواجه الدولتين فى الوقت الحالى.
السيناريو الثالث:
انحسار فى مستوى العلاقات: لقد جاءت حالة الزخم فى التعاون بين تركيا وإثيوبيا على خلفية التوترات التى انتابت العلاقات مع مصر، علاوة على المشاكل الأيدلوجية والجيوسياسية مع السعودية والإمارات، ولكن بعد تخطى الجمود بين أنقرة وهذه الدول وإعادة العلاقات إلى مسارها الطبيعى، نجد أن ذلك قد يهدد بانخفاض معدلات الدعم التركى لإثيوبيا، كما أن فى حال التوصل لحلول لسد النهضة، فإن ذلك قد يقلل من شهية أديس أبابا للتعاون مع أنقرة، ومن ثم حدوث فتور وانحسار لمستوى العلاقات بين البلدين.
ختامًا:
مما لا شك فيه أن الدول دائمًا ما تلهث وراء مصالحها حتى لو كان على حساب آلام وتطلعات الغير، وبالنظر إلى التاريخ الحافل بالعلاقات بين تركيا وإثيوبيا، نجد أن ثمة رباطًا تاريخيًا ومصالح مشتركة تجمع البلدين وتضخ نوعًا من الدماء الدافئة فى قلب هذه العلاقات؛ لتحرك الشرايين النابضة لهما، وفى ظل المحاولات التى سعت إلى كسر الجليد عن العلاقات بين مصر وتركيا وعودتها بعد قطيعة دامت لسنوات، نجد أن ذلك قد يشكل انفراجة فى ملف سد النهضة العالق بين طاولات المفاوضات التى تعقد بين الحين والآخر بين مصر والسودان وإثيوبيا، دون أن تُفضى إلى حل عادل ومُرضٍ يراعى الشواغل المصرية ويضمن عدم المساس بأمنها المائى، وعليه فقد تتدخل أنقرة فى هذا المسار وتمارس نوعًا من الضغط على الحكومة الإثيوبية ؛ لإزالة الجليد المتراكم على هذه القضية، ومحاولة التوصل إلى أرض وسط تحقق لإثيوبيا خططها التنموية على حد قولها، وفى نفس الوقت تضمن عدم الإضرار بالحصص المائية لمصر والسودان.