المقالات
الفيلق الإفريقى الروسى.. إستراتيجية نفوذ جديدة واستدارة نحو إفريقيا
- يونيو 14, 2024
- Posted by: hossam ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الدراسات الأفريقية
إعداد
دينا لملوم. ريهام محمد.
باحثة في الشئون الإفريقية. باحثة في العلوم السياسية.
المقدمة:
تسعى السياسة الخارجية الروسية لتعزيز وجودها فى القارة الإفريقية كجزء من أهدافها الإستراتيجية لعام 2023، وذلك فى إطار التنافس مع النفوذ الأمريكى والفرنسى، أو ما يمكن وصفه بالمنافسة الإستراتيجية خارج النطاق التقليدى، وقد أسهم تفجر الصراع فى أوكرانيا فى تعزيز أهمية الدور الروسى فى إفريقيا، حيث يُنظر إليه كوسيلة لنقل مواجهتها مع القوى الغربية إلى ما وراء حدود روسيا الجغرافية.
ويترافق هذا الطموح المتزايد لموسكو لأن تصبح حليفًا رئيسيًا للدول الإفريقية وكأداة لإذكاء المشاعر المناهضة للغرب؛ محولةً القارة الإفريقية إلى ساحة رئيسية للتنافس الإستراتيجى العالمى بينها وبين الدول الغربية، يأتى ذلك تزامنًا مع عزم السلطات الروسية على تشكيل قوات عسكرية خاصة تُعرف باسم “الفيلق الإفريقى” فى صيف 2024؛ وهو إعلان تم الكشف عنه مطلع العام الجارى ويعكس رغبة موسكو فى توسيع نفوذها العسكرى ضمن إطار شرعى وعلنى لمواجهة النفوذ الأوروبى والأمريكى المتراجع بشكل ملحوظ، من خلال تقديم نفسها كمناصرة لاستقلال الدول الإفريقية من الاستقطاب الأوروبى، فماذا عن دوافع الاهتمام الروسى بإفريقيا؟ وما هى الأدوات التى تعتمد عليها لتحقيق أهدافها الإستراتيجية؟ وما انعكاسات الدور الروسى على القارة السمراء؟
المحور الأول: الأهداف الإستراتيجية لروسيا فى إفريقيا:
العلاقات الحديثة بين موسكو وإفريقيا:
أدى الوضع الاقتصادى والسياسى الداخلى المتأزم فى روسيا، والذى أعقب انهيار الاتحاد السوفيتى، إلى تقليص الوجود الروسى فى القارة الإفريقية بشكل كبير؛ ونتيجة لذلك، اضطرت معظم الدول الإفريقية التى كانت تعتمد سابقًا على الدعم السوفيتى إلى التخلى عن مسار التنمية الاشتراكى والبحث عن حلفاء جدد، ومع ذلك، منذ بداية القرن الحادى والعشرين، بدأت الشركات الروسية بالاستثمار وتوسيع نشاطها فى إفريقيا، وتشمل هذه الاستثمارات:
– استخراج المعادن (غينيا وجمهورية إفريقيا الوسطى).
– مصانع المعادن (نيجيريا).
– محطات الطاقة النووية (مصر).
– محطات الطاقة الكهرومائية (أنغولا)
– خطوط أنابيب النفط (الجزائر).
بالإضافة إلى مشاريع أخرى ذات اهتمام مشترك.
وفى أواخر عام 2010 وبعد غياب دام ثلاثة عقود، قررت روسيا تعزيز وجودها السياسى فى إفريقيا من جديد، تلاها تنظيم موسكو لأول قمة (روسية-إفريقية) واسعة النطاقبسوتشى فى عام 2019، بمشاركة ممثلين على أعلى مستوى من 54 دولة إفريقية، فيما جاء انعقاد القمة الإفريقية الثانية فى سياق الحرب (الروسية-الأوكرانية) وتداعياتها على الساحتين الدولية والإفريقية خلال العام الماضى، بمشاركة 45 دولة من دول القارة، أى بعد مرور أكثر من عام من بداية الحرب (الروسية – الأوكرانية) منذ فبراير 2022، وفى الوقت الذى تعلق فيه روسياوالدول الإفريقية الكثير من الآمال على تعزيز التفاهمات السياسية فى مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، أكد المشاركون فى ختام القمة الأخيرة لعام 2023 أنه وفى إطار مفهوم العالم متعدد الأقطاب فإن حصة روسيا المتزايدة وأهمية إفريقيا بالنسبة للسياسة الروسية يشهدان تسارعًا ملحوظًا.[1]
منطلقات عقيدة بوتين الفكرية والمنظور الروسى الجديد للعلاقات الدولية:
لا يقتضى فهم السياسة الخارجية الروسية بمعزل عن استيعاب شخصية الرئيس فلاديمير بوتين ونهج تفكيره، فوفقًا لوزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر، الذى سبق أن التقى بوتين عدة مرات، وصفه فى أحد لقاءاته بأنه “رجل يتمتع بارتباط عميق بالتاريخ الروسى”، وأنه دائمًا ما يتعامل بموضوعية ودقة مع المصالح الوطنية الروسية كما يتصورها، ويكرس بوتين أهمية قصوى لمسألة الهوية الروسية، معتبرًا أنها تعبير عن التاريخ الذى فقدته روسيا بعد انهيار الشيوعية لما يقارب 300 عام؛ بناءً على ذلك، يعتبر وجوده فى السلطة خطوة لاستعادة مجد روسيا، وينظر إلى تحقيق هذا الهدف باعتباره واجبًا مقدسًا، فمنذ ولايته الرئاسية الأولى، سعى بوتين لاستعادة قوة الدولة الروسية التى شهدت تدهورًا خلال التسعينيات من القرن الماضى، وأعلن تبنيه للتوجه الأوراسى فى السياسة الخارجية منذ توليه الحكم عام 2000 واضعًا أسس سياسة خارجية جديدة تُعرف بـ”مبدأبوتين” والتى تتضمن استعادة دور روسيا كقوة نووية عظمى وتعزيز موقعها الإستراتيجى فى عالم متعدد الأقطاب، وأكد نيته تعزيز نفوذ روسيا فى المناطق التقليدية للاتحاد السوفيتى السابق مثل آسيا الوسطى والبلقان والقوقاز إضافة إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما رفض بوتين توسيع حلف شمال الأطلسى (الناتو) نحو دول الجوار الروسى وكان هدفه تشكيل “المثلث الإستراتيجى” بين روسيا والصين والهند، ولتحقيق أهدافه الإستراتيجية، ركّز بوتين على إصلاح الاقتصاد كوسيلة لتعزيز قوة الدولة الروسية داخليًا وخارجيًا، فعلى الصعيد الخارجى، استخدم كل من الغاز الطبيعى والأسلحة فى تشكيل التحالفات وممارسة تأثيرها وبناء نفوذها، سواء مع دول الجوار الروسى أو مع أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كما استغل بوتين الغاز الطبيعى كورقة تفاوضية وحوارية مع الدول الأوروبية التى أصبحت تعتمد بشكل رئيسى على النفط والغاز الروسى، لا سيما بعد حرب العراق عام 2003، أما فيما يتعلق بتصدير الأسلحة، فقد تم توظيف هذه العقود لتحقيق هدفين رئيسيين: الأول هو استعادة مكانتها كأكبر مُصدر للأسلحة فى العالم، وهو هدف تحقق إلى حد كبير حيث تحتل روسيا اليوم المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة،والثانى هو استعادة دورها كلاعب بارز فى السياسة الدولية.[2]
ماذا تريد موسكو من إفريقيا؟:
تحتل إفريقيا مكانة بارزة فى إطار السياسة الخارجية الروسية وفقًا لمفهوم السياسة الخارجية الصادر فى ديسمبر 2016، والذى نص على أن روسيا ستوسع علاقاتها مع الدول الإفريقية على مختلف الأصعدة بشكل ثنائى ومتعدد الأطراف، وذلك من خلال تحسين الحوار السياسى وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية المتبادلة، إضافة إلى تكثيف التعاون الشامل لخدمة المصالح المشتركة والمساهمة فى منع النزاعات الإقليمية وحالات الأزمات، يأتى ذلك فضلًا عن تعزيز علاقات الشراكة مع الاتحاد الإفريقى، كما نصّت وثيقة “الأمن القومى الروسى حتى عام 2020” الصادرة عام 2015 على أن الاتحاد الروسى يطور تعاونًا سياسيًا وتجاريًا واقتصاديًا وعسكريًا وأمنيًا وتقنيًا وإنسانيًا وتعليميًا مع الدول الإفريقية ومنظماتها الإقليمية، ومن ثم فإن لروسيا دوافع عدة لتمديد نفوذها فى القارة السمراء يمكن التطرق إليها فيما يلى:
الاعتبارات العسكرية:
البحث عن موطئ قدم عسكرى دائم فى إفريقيا لتحقيق مكانة الدولة العظمى:على الرغم من التفاوت الكبير بين شمال وجنوب صحراء إفريقيا الكبرى، إلا أن الجانبين يشتركان فى المشاكل الإستراتيجية ذات الطبيعة المعقدة، فتقليديًا، كانت القارة السمراء تحت نفوذ حلف شمال الأطلسى، حيث يتمتع الحلف بعدد من المواقع التى تتيح له السيطرة على الاتصالات البحرية فى البحر الأحمر والخليج العربى والمحيط الهندى وجنوب المحيط الأطلسى، بالإضافة إلى ذلك، تحتفظ العديد من الدول الغربية بمواقع عسكرية وسياسية مهمة داخل المنطقة عبر قواعد ووحدات عسكرية أو التعاون العسكرى الفنى الثنائى، وتتمثل المهمة الرئيسية للوجود الغربى -حسب إعلانهم الرسمى- فى حماية خطوط الاتصال الحيوية والحفاظ على السلم ومنع الصراعات العرقية ومكافحة الإرهاب والقرصنة، ومن بين الدول غير الأعضاء فى الناتو التى تمتلك أيضًا قواعد عسكرية فى إفريقيا الهند واليابان، فضلًا عن بناء الصين لقاعدتها العسكرية فى 2016، فى حين لا تمتلك روسيا إلى الآن أية قواعد عسكرية فى القارة، والتى دون امتلاكها لا يمكنها تلقيب نفسها بأنها قوى عظمى.[3]
سوق مفتوح للشركات العسكرية الخاصة وصادرات السلاح: يتزايد وجود الممثلين العسكريين الأجانب من الشركات الخاصة، مصحوبًا بزيادة فى شراء الأسلحة الأجنبية، فأصبحت القارة السمراء ككل لاعبًا محوريًا فى عمليات السوق العالمية المتعلقة بالمعدات العسكرية والأسلحة الصغيرة، ما يصل إلى 10% من صادرات الأسلحة العالمية موجهة نحو الدول الإفريقية.
الاعتبارات الاقتصادية:
أداة جذب للاستثمارات الكبرى وسوق واسع للمواد الخام: تتمتع المواد الخام (المعادن فى المقام الأول) والموارد البشرية بأهمية خاصة فى تقييم دور إفريقيا فى النظام العالمى للقرن الحادى والعشرين، فمن المتوقع أن تصبح المنطقة الأكثر نموًا ديناميكيًا هذا القرن، مما يؤثر بشكل كبير على اتجاهات النمو فى البلدان المتقدمة، لقد حدثت حتى الآن بعض التغييرات فيما يتعلق بالوضع التقليدى لإفريقيا داخل الاقتصاد العالمى، وفى الفترة من عام 2001 إلى عام 2014، شهدت أحد أسرع معدلات النمو الإقليمى فى جميع أنحاء العالم، علاوة على أنها تحظى باهتمام بالغ من قبل المستثمرين الأجانب بسبب ربحية الاستثمار العالية والسياسات الاستباقية التى تتبعها الدول الإفريقية بهدف جذب رؤوس الأموال، بالإضافة إلى ذلك، وفى أعقاب توتر العلاقات مع الدول الغربية بعد الصراع فى أوكرانيا، زاد اهتمام روسيا بإفريقيا بشكل ملحوظ.[4]
الاعتبارات السياسية:
كسب الدعم الإفريقى فى المنظمات الدولية: تمثل الدول الإفريقية حوالى ثلث أعضاء المجتمع الدولى، وهى حاضرة بفعالية فى الهياكل المتعددة الأطراف وتمتلك خبرات كبيرة فى العمل السياسى الموحد عبر الاتحاد الإفريقى وعدد من روابط التكامل دون الإقليمية، وعليه؛ فغياب مشاركة الدول الإفريقية، يعتبر تحقيق أداء مستقر لنظام العلاقات الدولية وتطوير العلاقات الاقتصادية العالمية وضمان نظام آمن للاستقرار الدولى أمرًا شبه مستحيل، ومن ثم تحتاج موسكو إلى الدعم الإفريقى لتعزيز نظريتها حول “التعددية القطبية” ضمن أروقة المؤسسات الدولية.
إحداث توازن مع بكين لمواجهة الضغوط الغربية: على الرغم مما يبدو من تعاون بين روسيا والصين، إلا أن كلا البلدين يشتركان فى مخاوف وصراعات تاريخية، فى المقابل، يجمعهما سعى مشترك نحو الاعتراف الأمريكى بالمكانة التى يعتقدان أنهما يستحقانها، فيلعب الوجود الروسى فى إفريقيا، إلى جانب تركيزه على الجانب العسكرى، دورًا محوريًا فى إحداث توازن مع النمو الاقتصادى الصينى المتسارع فى القارة، وذلك للحفاظ على قوة موسكو أمام بكين خصوصًا بعد ازدياد اعتمادها عليها اقتصاديًا نتيجة العقوبات الغربية، ومن أجل الحفاظ على العلاقة السلمية وتعزيز التعاون بين الطرفين؛ تعرض موسكو تقديم خدمات عسكرية قادرة على حماية المصالح الاقتصادية لبكين والتعاون لتطويق القوى الغربية وإعادة هيكلة دول القارة المضطربة لتقاسم النفوذ والثروات، وترى روسيا أن بإمكانها زيادة الضغوط على الغرب والدول الأوروبية تحديدًا عبر تهديد نفوذهم التقليدى فى إفريقيا وإقحامهم فى معارك جانبية وزيادة الأعباء العسكرية والاقتصادية عليهم نتيجة التدخلات المتزايدة وتدفق الهجرة غير الشرعية، النهج الذى من شأنه إضعاف مواقف هذه الدول فيما يتعلق بدعم أوكرانيا ويمنح موسكو ورقة ضغط إضافية يمكن استخدامها للتفاوض بشأن ملفات أخرى ذات أهمية لها ضمن نطاق ما بعد الاتحاد السوفيتى القديم.[5]
المحور الثانى: محددات النفوذ الروسى فى إفريقيا:
تعمل روسيا على توظيف وتوطيد نفوذها فى القارة الإفريقية عبر العديد من المحددات والأذرع التى توظفها؛ من أجل تحقيق أهدافها الإستراتيجية، ويمكن إجمالها على النحو التالى:
أولًا- التوغل العسكرى “الفيلق الإفريقى”:
لقد اعتادت روسيا استخدام سلاح فاجنر، سواء فى إفريقيا، أو مناطق أخرى حول العالم؛ لترسيخ تواجدها وتمركزها، وكانت دائمًا ما تتنصل من أفعال هؤلاء المرتزقة، بحجة أنهم لا يخضعون للإشراف المباشر من قبل وزارة الدفاع الروسية، إلا أنه بعد مقتل مؤسس هذه الشركة الخاصة يفجينى بريجوجين عملت السلطات فى موسكو على إعادة هيكلتها، حيث الاتجاه إلى تجنيد العديد من المتطوعين، فى كيان جديد “الفيلق الإفريقى”؛ ليحل محل قوات فاجنر المتواجدة فى القارة الإفريقية، ومن المتوقع أن يضم هذا الفيلق قرابة 20 ألف شخص خلال العام الجارى، تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية، وتتمركز قواته فى 5 دول إفريقية (مالى، النيجر، بوركينا فاسو، جمهورية إفريقيا الوسطى، وأخيرًا ليبيا المركز الرئيسى للفيلق)، هذا وقد بدأت قوات هذا الكيان الانتشار فى النيجر منذ 12 أبريل 2024، إضافة إلى أنه قد تم نشر 100 عسكرى فى “واجادوجو” يناير الماضى؛ لتأمين الرئيس إبراهيم تراورى من محاولات الاغتيال[6].
أسباب اختيار ليبيا نقطة انطلاق للفيلق:
تم اختيار ليبيا كنقطة انطلاق الفيلق؛ نظرًا لموقعها الإستراتيجى باعتبارها البوابة الشمالية لإفريقيا وإطلالها على البحر المتوسط، وكذا كونها منطقة نفوذ وتجاذبات بين مختلف القوى الدولية بما فيها روسيا التى رأت فى طرابلس انطلاقة لتعزيز تواجدها على سواحل المتوسط، كما أنها تعمل كجناح جنوبى للضغط على حلف الناتو والاتحاد الأوروبى، وتعزيز الحوار مع الدول العربية الرئيسية فى المنطقة، واتخاذ ليبيا كمعبر لجنوب الصحراء الكبرى فى إفريقيا، بما يوفر ممرًا إستراتيجيًا لدول كالسودان والنيجر وغيرهما، ومن ثم فإن تدشين الفيلق من البوابة الليبية يدعم انطلاقته نحو القارة، وقد أسهم فى ذلك الحضور الروسى فى العديد من المواقع الإستراتيجية فى ليبيا، من بينها قاعدة القرضابية وسط البلاد وميناء طبرق شرقى البلاد، كذلك قاعدة الجفرة الجوية وقاعدة براك الشاطئ، وهو ما يضمن وصول العناصر التابعة للفيلق وخطوط الإمداد العسكرى إلى الدول الإفريقية الأخرى.[7]
أهداف روسيا لتوسيع دائرة نفوذها فى إفريقيا:
تقنين وضع جماعة فاجنر:
لقد شكل تمرد فاجنر هاجسًا لدى الكرملين، حيث كان بمثابة جرس الإنذار الذى دفع موسكو لتغيير نهج هؤلاء المرتزقة، والانتقال من الاستقلال النسبى إلى الإشراف المباشر عبر تدشين فيلق جديد يضم هذه المجموعة بحيث تكون تحت لواء وسيطرة السلطات الروسية المعنية، على الجانب الآخر فإن هذا التحول سوف يمكن الجانب الروسى من امتلاك أداة عسكرية أكثر انضباطًا، يسهل السيطرة عليها، وضمان عدم تكرار سيناريو الانقلاب مرة أخرى، ناهيك عن أن هذا الفيلق سوف يعمل على استعادة سمعة موسكو ورسم صورة جديدة لدورها فى إفريقيا، بعد سلسلة الانتهاكات الجسيمة التى ارتكبتها فاجنر فى العديد من الدول الإفريقية.
تعزيز التواجد الأمنى فى إفريقيا:
أدى تمرد جماعة فاجنر إلى إعادة التفكير فى مستقبل روسيا من الناحية الأمنية على الصعيد الإفريقى، حيث إن هذه الجماعة قد انغمست داخل العديد من البلدان الإفريقية، ودشنت قواعد عسكرية وتعاونًا وطيدًا مع هذه الدول فى نواحى عدة، وبالتالى أصبح هناك تخوفات من أن تؤثر أى محاولة أخرى للعصيان أو التمرد على التوجهات الأمنية الروسية داخل القارة، خاصة وأن النهج الروسى بات يتطلع نحو زيادة حجم الصادرات العسكرية بالمنطقة، وتحقيق مزيد من السيطرة الأمنية على دول القارة السمراء، لا سيما فى مجال تصدير الأسلحة الذى وصلت نسبته فى الفترة من 2018-2022 إلى 26%، الأمر الذى عزز الرغبة الروسية منذ القمة الأخيرة التى عُقدت فى سان بطرسبرج فى زيادة مشاركة مستشارين عسكريين روس؛ بدافع تقديم الدعم للدول الأفريقية خاصة منطقة الساحل.[8]
تطويق الوجود الغربى فى إفريقيا وحماية المصالح الروسية:
يكمن الهدف الأكبر من محاولات الانغماس الروسى الإفريقى فى الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من كعكة الموارد والثروات فى القارة السمراء، وهو ما يدفعها إلى تعزيز تواجدها عبر الطرق والوسائل المختلفة؛ لمناهضةالتواجد الغربى فى هذه المنطقة؛ لتأمين مصالحها وترسيخ مكانتها على الساحة الدولية، وتشير تقارير دولية إلى أن موسكو كانت قد سيطرت على عدد لا بأس به من مناجم الذهب سواء فى مالى أو إفريقيا الوسطى، وغيرهما خلال السنوات الأخيرةعبر ذراعها الطويل الممثل فى جماعة فاجنر، وبناءً عليه فإن تدشين فيلق يضمن أن تؤول هذه الثروات إليه، وهوما اتضح فى منجم إنتاهاكا شمال باماكو، والذى تمت السيطرة عليه بالتعاون مع الجيش فى فبراير المنصرم، وينطبق هذا الأمر على الموارد الأخرى، حيث لم يقتصر على مورد الذهب فحسب، بل القارة السمراء تذخر بالعديد من الثروات التى جعلتها مطمعًا للعديد من الدول، كان أبرزها روسيا.[9]
دعم الأنظمة الصاعدة:
استطاعت روسيا أن تقدم نفسها على أنها داعم ومناصر الاستقلال فى إفريقيا عن الاستعمار الأوروبى؛ استنادًا إلى خلفيتها غير الاستعمارية، والتى جعلتها تحظى بقبول شعبوى حافل فى القارة، كما أنها عملت على مساندة الأنظمة السياسية الصاعدة المناهضة للوجود الفرنسى، وأظهرت موسكو فى أهدافها المعلنة التى بررت بها أسباب تدشين فيلق إفريقيا، بأنه وسيلة لمساعدة الدول الإفريقية على التحرر من محاولات الاستعمار الجديد للغرب، علاوة على حماية وتأمين مواقع البترول والذهب، وإمداد المجموعات الرافضة للسياسات الغربية ومحاولات التموضع داخل إفريقيا بالأسلحة والتدريب؛ لدعم عمليات الانفصال عن فرنسا، بجانب الأنظمة القابعة تحت السيطرة الأمريكية والأوروبية.
إعادة التموضع الجيوستراتيجى الروسى:
لقد أدركت الإدارة الروسية مدى أهمية القارة الإفريقية التى باتت مرتعًا لتكالب القوى الدولية المختلفة، لا سيما التى تناوئ موسكو، ناهيك عن تغير موازين القوى الدولية، التى كانت شاهدًا علىالتحولات الجديدة بالمنطقة، والتى يحاول الروس من خلالها تحقيق أقصى استفادة ممكنة وكسب حلفاء جدد، خاصة وأنها لاقت قبولًا ودعمًا فى دول الساحل والصحراء، فضلًا عن قوى إقليمية أخرى تشاطر موسكو توجهاتها السياسية وخطط التموضع الجيوستراتيجى الجديد.[10]
ثانيًا- دبلوماسية الحبوب:
تعزيز قوتها الناعمة عبر تقديم المساعدات الغذائية:مع تأثير ارتفاع أسعار الحبوب على الدول الإفريقية فى الآونة الأخيرة، سعت روسيا جاهدة لاستخدام الحبوب كوسيلة اقتصادية لجذب الشركاء الأفارقة، سواء على شكل منح وهبات أو بشروط دفع ميسّرة فعلى سبيل المثال، أعلن الرئيس بوتين خلال قمة (روسيا-إفريقيا) الثانية فى يوليو 2023 استعداد بلاده لتوريد “ما بين 25,000 و50,000 طن من الحبوب إلى عدة دول إفريقية: بوركينا فاسو وزيمبابوى ومالى والصومال وجمهورية إفريقيا الوسطى وإريتريا”، مؤكدًا أن هذه الكميات ستُسلم مجانًا.[11]
تقديم نموذج تعاون مختلف عن الغرب:حيث تقدم موسكو نموذجًا يعتمد على نهج “المقايضة”، من خلال تقديم السلع مقابل الموارد الطبيعية، هذا النموذج يتيح لشركاتها الاستحواذ على مكامن ثروات الدولة وبناء مؤسسات توسع دائرة الربح والمستفيدين دون تشكيل ضغوط كبيرة على ميزانياتها الوطنية، بعكس النموذج الغربى الذى يعتمد غالبًا على سحب الموارد لصالح الشركات الكبرى وحصر الفائدة بفئة محدودة من ذوى النفوذ المحليين، أو النموذج الذى يركز بشكل رئيسى على مشروعات البنية التحتية لدعم الاقتصاد الصينى مقابل ديون تؤدى لاحقًا للاستحواذ على مرافق حيوية كوسيلة لسداد تلك الديون.[12]
ثالثًا- دبلوماسية الطاقة:
يحمل الوجود الروسى فى البحر الأبيض المتوسط، سواء فى سوريا أو ليبيا، أهمية إستراتيجية لأمن أسواق الطاقة الروسية، وتسعى روسيا إلى محاكاة النموذج “الأنجلوأميركى” الذى ساد فى أوائل القرن العشرين من خلال الحصول على أكبر عدد ممكن من عقود امتياز النفط والغاز، وتسمح هذه الإستراتيجية لروسيا بإدارة تدفق هذه الإمدادات إلى الأسواق العالمية، وخاصة أوروبا، دون تعريض حصتها فى السوق للخطر، ومن شأن الانخفاض أن يؤدى إلى خسائر اقتصادية وجيوسياسية على حد سواء، لأن إمدادات الغاز تمثل إحدى نقاط التأثير الرئيسية لروسيا فى علاقتها مع أوروبا، علاوة على ذلك، فإن روسيا تسابق الزمن لإحباط أى مبادرات دولية قد تخلق مصادر غاز بديلة لأوروبا، ويعتبر شرق البحر الأبيض المتوسط وغرب إفريقيا من المرشحين الرئيسيين للتقدم كمصدر بديل لأوروبا، بسبب قربهما ومزايا التكلفة مقارنة بالغاز الطبيعى المسال القطرى أو الأمريكى، وبالتالى، فإن الوجود الروسى فى هذه المناطق يهدف إما إلى منع مثل هذه المشروعات من التنفيذ أو ضمان تنفيذها برعاية روسية، وفى أى من السيناريوهين سيؤدى ذلك إلى مكاسب اقتصادية وجيوسياسية لروسيا.
فى مجال الطاقة النووية: تُصنف روسيا من بين الدول الخمس الأولى التى تمتلك موارد كبيرة من اليورانيوم على مستوى العالم، وتشير التقديرات إلى أن روسيا تمتلك ما يقرب من 486 ألف طن من اليورانيوم، أى حوالى 8% من المعروض العالمى، وفى هذا المجال، تُبرز روسيا العديد من نقاط القوة التى تمنحها تفوقًا واضحًا على الغرب، إذ تعد موسكو أكبر لاعب فى مجال إنتاج الوقود النووى حيث تمتلك حوالى 40% من إجمالى البنية التحتية العالمية لتحويل اليورانيوم، ونتيجة لذلك، تنتج الحصة الأكبر من سداسى فلوريد اليورانيوم (UF6)، وهو الشكل الغازى لليورانيوم، وينطبق الأمر ذاته على عملية تخصيب اليورانيوم، الخطوة التالية فى الدورة النووية؛ فوفقًا لبيانات عام 2018، تستحوذ روسيا على نحو 46% من السوق.
الجدير بالذكر أن كازاخستان تعد هى المنتج الأول عالميًا لليورانيوم لكنها تواجه تحديات إنتاجية ناجمة عن مشكلات لوجستية، مما يعزز النفوذ الروسى عليها، وفى إفريقيا، توجد ناميبيا الدولة الثانية عالميًا فى إنتاج اليورانيوم والنيجر التى تواجه اضطرابات أمنية وسياسية منذ انقلاب 26 يوليو 2023، ومن ثم تتمثل الإستراتيجية الروسية فى السيطرة الشاملة على قطاع الطاقة النووية لضمان حصة عالمية رائدة فى تشغيل المفاعلات النووية وإنتاج اليورانيوم والتحكم بمنتجيه واستمرار الهيمنة فى تصدير الوقود النووى اللازم لتشغيل هذه المفاعلات وقد اقتربت روسيا بالفعل من تحقيق هذا الهدف بعد انسحاب فرنسا من النيجر.
رابعًا- التأثير الثقافى:
تعزيز المواهب الإفريقية ذات الروابط العاطفية مع روسيا: تتجلى الجهود المبذولة لبناء كادر من المهنيين من أبناء القارة الذين لديهم مشاعر خاصة تجاه روسيا من خلال التوسع فى طرح المنح الدراسية لهم، فاعتبارًا من عام 2022، تم تقديم حوالى 34000 منحة دراسية للطلاب، تشمل الاختيارات الشائعة على وجه التحديد العلوم الطبية للطلاب من سيراليون ونيجيريا؛ هندسة البترول والغاز لأولئك من الكاميرون وتشاد؛ الشؤون الاقتصادية والمالية بين الأفراد من كوت ديفوار ونيجيريا؛ دراسات الإدارة التى اختارها مواطنو بنين وأنغولا؛ بينما نالت العلاقات الدولية إعجاب أولئك الذين ينحدرون من جمهورية الكونغو الديمقراطية وتشاد وجمهورية الكونغو برازافيل، ومن الجوانب المهمة أن معظم طلاب القارة السمراء يتعلمون اللغة الروسية لتنشئة جيل يتقن اللغة، وتهدف روسيا إلى زيادة هذا العدد إلى 100 ألف خلال السنوات الخمس المقبلة.[13]
اتفاقيات الاعتراف المتبادل:تم التوقيع على أكثر من 70 اتفاقية تتعلق بالاعتراف المتبادل بالدبلومات والدرجات الأكاديمية بين روسيا والدول الإفريقية، علاوة على ذلك، تشمل المبادرات جعل اللغة الروسية إحدى اللغات الأجنبية التى يتم تدريسها فى إفريقيا، بالإضافة إلى دمج أربع لغات إفريقية محلية فى المناهج المدرسية الروسية.
المهرجانات الثقافية السنوية والتعاون السينمائى: تعمل الفعاليات الثقافية السنوية، وأبرزها “إفريقيا… معًا نحو المستقبل”، بمثابة منصات محورية للتعاون الروسى الإفريقى فى صناعتى الثقافة والسينما، كما تهدف الشراكات مع كيانات بارزة مثل نوليوود الشهيرة فى نيجيريا إلى تضخيم حضور السينما الروسية فى جميع أنحاء القارة، بالإضافة إلى عقد ورش العمل ومؤتمرات منتظمة تحت عناوين مثل “منتدى الشراكة الروسية الأفريقية”، تسهل هذه الأنشطة الاتصالات الشخصية مع مئات الأفارقة المؤثرين فى مجالات متنوعة والذين يقومون بزيارات متكررة إلى روسيا وبالتالى تعزيز العلاقات العلائقية، ويؤكد هذا النهج الشامل التزام موسكو بتعزيز القوة الناعمة من خلال التعليم، والاعترافات الرسمية، والاحتفالات الثقافية، والشراكات السينمائية، وجميعها موجهة نحو توليد علاقات ثنائية قوية تقوم على الاحترام المتبادل والتقدم المشترك.[14]
تلقى بعض زعماء الدول الإفريقية لتعليمهم من روسيا:لقد أثر ذلك فى تمكين الأخيرة من التأثير على قادة دول القارة، بالإضافةإلى تمكين بوتين من كسب ثقة الزعماء الأفارقة وتعزيز فكرة أن موسكو صديق قديم للدول الإفريقية، نتيجة الخبرة التى اكتسبتها روسيا، أو الاتحاد السوفيتى سابقًا، فى الكفاح من أجل إنهاء الاستعمار فى القارة السمراء ومساعدة الدول الإفريقية على نيل استقلالها، قيمةً كبيرة، وبناءً على ذلك، تستطيع روسيا تعزيز علاقاتها بشكل أكبر مع مختلف الشركاء الأفارقة الذين بدأوا فى التزايد فى الآونة الأخيرة.
الدين والإعلام:تنتهج موسكو توجيهًا إعلاميًّا متزايد الحدة لتصوير نفسها كشريك إستراتيجى مهم للدول الإفريقية بينما يتم تصوير الغرب كمستغل نهب خيرات الشعوب الإفريقية الضعيفة، بالإضافة إلى توفير الحماية الشخصية لكبار المسؤولين فى هذه الدول وتقديم وسائل اتصال حديثة وملاذًا آمنًا لأموالهم وأسرهم داخل روسيا، واستخدام الدين للتوسع فى البعثات الدينية بالقارة الإفريقية، مع منح الكنيسة الروسية الأرثوذكسية الحق فى ممارسة نشاطها ضمن المناطق التابعة لبطريركية الإسكندرية للروم الأرثوذكس.[15]
استغلال أخطاء الغرب: تستغل موسكو الأخطاء التاريخية للغرب، وهو اتجاه مستمر حتى اليوم فى إفريقيا، وتسعى إلى تضخيم هذه الأخطاء عبر وسائل الإعلام الناطقة بالفرنسية واللغات المحلية بالتعاون مع بعض الجهات الإعلامية المحلية، فضلًا عن استخدامها لذكريات الإرث الاستعمارى للغرب ودورها السابق كـ”وريث شرعي” للاتحاد السوفيتى الذى قدم الدعم للدول المستعَمَرة.[16]
المحور الثالث: انعكاسات الدور الروسى على إفريقيا
لقد أثر التواجد الروسى فى إفريقيا على حدود الديمقراطية والاستقرار والتنمية، حيث اتبعت روسيا أساليب عدة؛ لترسيخ أقدامها فى القارة وتعزيز تواجدها فى مواجهة القوة الغربية المختلفة، فعملت على نشر مرتزقة فاجنر، وشنت حملات تضليل، إضافة إلى التدخل فى مسار الانتخابات ودعم الانقلابات العسكرية، ومقايضة السلاح بالموارد الطبيعية، مما أدى إلى توسيع دائرة النفوذ الروسى بشكل أسرع فى أنحاء القارة السمراء، وفى التالىإجمال لأبرز الانعكاسات الناجمة عن الحضور الروسى فى إفريقيا:
1- عرقلة المسار الديمقراطى:
تتبع روسيا حزمة من الأساليب لعرقلة مسار الديمقراطية فى إفريقيا، سواء ذلك من خلال بث المعلومات المضللة أو التدخل فى العملية الانتخابية؛ لإبقاء الأنظمة الحليفة لموسكو على رأس السلطة، أو دعم فترات حكمهم الممتدة إلى ما بعد حدود الولاية التى يقرها الدستور، هذا بالإضافة إلى مساندة المطالبات غير الدستورية بشأن السلطة، وتبدو السلطات الروسية أكثر ميلًا لدعم الأنظمة الحاكمة، حتى ولو كانت مستبدة فى الدول الغنية بالثروات والموارد الطبيعية، وبالتالى يتراخى هؤلاء الحكام على تقديم الدعم وتحقيق التنمية لشعوبهم، مما يتيح لروسيا أن تتدخل ببرامج المساعدات اللازمة لإغاثتهم، مقابل حصول الشركات فى موسكو على الموارد الطبيعية والسيطرة على الأسواق، وتستهدف روسيا بالأساس الدولة ذات المؤسسات الديمقراطية الهشة، مما يؤدى إلى إطالة أمد الصراعات والنزاعات الداخلية عبر عرقلة الحلول السياسية التى يتم التوصل إليها من خلال الوساطة، على سبيل المثال، ساهم الدعم الروسى للحكومة العسكرية فى السودانفى الانحراف عن المسار الديمقراطى؛ بما أسفر عن تفاقم التوترات والنزاعات آنذاك.
أدوات روسيا لعرقلة الديمقراطية فى إفريقيا.[17]
2- دعم الأنظمة الحاكمة:
إن محاولات التوغل الروسى فى إفريقيا لم تكن بالأساس من أجل المواطنين، وإنما من أجل حماية الأنظمة الموالية لروسيا، وتأسيس حكومات يسهل السيطرة عليها، بغض النظر عن نوعية الحكم السائد فى الدولة، وبالنظر إلى طبيعة النظم العسكرية الحاكمة التى تقود هذه الدول، فإن قادة هذه المجالس كانت فى بادئ الأمر فى مرحلة حكم انتقالى، كان عليها العمل على إعادة المؤسسات الديمقراطية والحكم الرشيد، إلا أن القوات الروسية كانت سببًا فى إطالة فترة حكمهم، بما سمح لهم البقاء فى السلطة للمدة التى يريدونها؛ مستغلين حالة التدهور العام، وسيادة مناخ الاضطراب وعدم الاستقرار فى تحقيق الأهداف المرجوة من القارة.[18]
3- تغذية الانقلابات العسكرية:
تلعب روسيا دورًا فى الانقلابات العسكرية فى إفريقيا، سواء مباشر عبر التعزيزات السياسية والدبلوماسية أو العسكرية من خلال ميليشيا فاجنر المنتشرة فى أماكن متفرقة من القارة، والتى تحظى بنفوذ واسع المدى لا سيما فى منطقة الساحل والصحراء، والأدهى من ذلك التقديرات التى تشير إلى ضلوع موسكو المباشر فى الانقلابات والمحاولات الانقلابية التى وقعت فى الآونة الأخيرة، والجدير بالإشارة فى هذا الصدد هو تلقى بعض الزعماء الأفارقة تعليمهم فى روسيا، ولعل الشاهد فى هذه الحالة هو الانقلابيين الذين أطاحوا برئيس مالى أبو بكر كيتا، والذين قد تلقوا تدريبات فى روسيا قبل عودتهم لتنفيذ الانقلاب أغسطس 2020، أيضًا فقد أشارت تقارير إلى تورط الأخيرة فى الانقلاب الثانى فى باماكو مايو 2021، والذى على إثره تولى عاصمى غويتا سلطة البلاد.[19]
4- تسريع وتيرة الانسحاب الفرنسى:
كان التاريخ الاستعمارى لفرنسا بمثابة الشرارة التى أشعلت فتيل العداء والكراهية من قبل الشعوب الإفريقية التى لم تعد ترضخ لأى قوة استعمارية، وباتت تنتفض من أجل الحرية والكرامة والاستقلالية، وقد لاقت روسيا قبولًا فى ظل هذه الأجواء المشحونة بالغضب تجاه الغرب، واستغلت تاريخها غير الاستعمارى فى إيجاد موطئ قدم لها فى القارة، وباتت تتبع أساليبها الناعمة لكسب ثقة هذه الشعوب، عبر الأدوات المختلفة، فنجد فى الوقت الذى انتشرت فيه جائحة كورونا قامت بشن حملة لتوزيع اللقاحات المجانية على البلدان الإفريقية، كما وافق صندوق الاستثمار المباشر الروسى على منح امتياز تخليق اللقاح فى 15 دولة إفريقية “دبلوماسية اللقاحات”، فى الوقت الذى أدارت فيه الدول الغربية بصفة خاصة فرنسا وجهها عن هذا الوباء، كل هذه الأمور فاقمت من تراجع النفوذ الفرنسى فى المنطقة، حتى طالب الأفارقة برحيل القوات الفرنسية ورفع الأعلام الروسية بديلًا عن الفرنسية، وإن لم تكن روسيا سببًا رئيسًا فى تنحى الفرنسيين عن القارة، فإنها كانت عاملًا محفزًا لتسريع وتيرة خروجهم.[20]
5- إطالة أمد الصراعات فى إفريقيا:
لقد أدت إمدادات الأسلحة الروسية لبعض الدول الإفريقية التى تستقبل أكثر من نصف وارداتها من المعدات العسكرية من روسيا، سواء دبابات القتال أو السفن الحربية والطائرات المقاتلة والمروحيات القتالية[21]، إلى تفاقم حدة الصراعات والتوترات داخل هذه الدول، ومن ثم حدوث ارتدادات عسكية على دول الجوار، التى أصبحت من أخطر بؤر التطرف على مستوى العالم، كما توالت الاتهامات على موسكو التى كانت سببًا فى إثارة الفوضى فى هذه الدول، وخلق بيئات أمنية جديدة فى المنطقة، بما يمكنها من إقامة المزيد من الاستثمارات والمشروعات فى ميادين عدة، حتى لم يقتصر الأمر على شركات فاجنر فحسب، بل ثمة انخراط لشركات أخرى مثل شركةباتريوت وسيو، والذين يتواجدون منذ عام 2018؛ لترسيخ الحضور الأمنى الروسى.
الواردات الإفريقية من الأسلحة الروسية.[22]
ختامًا:
على ما يبدو أن المستقبل القادم فى إفريقيا سيكون لروسيا بشكل كبير، وذلك فى ظل انحسار المدالغربى، حيث تراجع النفوذ الفرنسى، وأخيرًا الأمريكى يقابله صعود روسى متنامى، خاصة بعد مشروع الفيلق الإفريقى الذى تستعد موسكو لإطلاقه، وهو ما يطرح التساؤل حول المستقبل الأمنى فى القارة التى تشهد بالفعل اضطرابات وصراعات دموية ما زالت عالقة حتى الآن، فربما يكون هذا الفيلق بادرة لحروب وتوترات طويلة الأمد، إلا أن وجود هيكل لفاجنر تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية ربما يجعل ثمة قيود على نشاط هذه الجماعة وستكون تحركاتها محسوبة؛ لأن السلطات الروسية حينذاك سوف تكون محط أنظار الجميع، ومن ثم فإن أى تحركات غير مشروعة أو أعمال سيئة السمعة مثلما فعلت فاجنر، ستجعل روسيا تقع تحت طائلة القانون وفرض العقوبات، حيث إنها لن تستطيع أن تكون بمعزل أو تتملص من الأفعال التى سيرتكبها هذا الفيلق، كسابقتها مع مرتزقة فاجنر، وعليه لابد من توخى الحذر وعدم الانصياع الأعمى لمغريات روسيا أو أية قوة دخيلة أخرى؛ لأن ذلك فيه استغلال لثروات ومقدرات القارة، وإطالة أمد النزاعات والصراعات، فلم يكن لدخيل أن يسعى لضبط الأمن والاستقرار فى دول ينهب خيراتها، ويحكم قبضته على مواردها.
المصادر:
[1]حمدى بشير،آفاق العلاقات الروسية الإفريقية بعد قمة سانبطرسبرج،مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار،يناير ٢٠٢٤.
https://www.idsc.gov.eg/Article/details/8952
[2]إسماعيل حمودى، تزايد النفوذ الروسى فى شمال إفريقيا: حدود النزعة البوتينية،مركزالجزيرة للدراسات،فبراير ٢٠٢٢.
https://studies.aljazeera.net/ar/article/5293
[3]روسيا فى أفريقيا: نفوذ متصاعد لكن أسسهما والتغير مستقرة، مجلة ما لا تدولية، العدد ٤٠،يونيو ٢٠٢٣.
[4]محمود خليفة جودة، تزايد الاهتمام ُالروسى بالقارة الأفريقية: الأسباب والدوافع،مركز المعلومات ودعم واتخاذ القرار،يوليو ٢٠٢٣. https://idsc.gov.eg/Article/details/8696
[5]أحمد دهشان،النفوذ الروسى فى إفريقيا: الدوافع والاستراتيجية والأدوات،أبعاد للدراسات الاستراتيجية،يناير ٢٠٢٤. https://n9.cl/7fwcx
[6]حمدى عبد الرحمن حسن، بديل فاجنر: دور الفيلق الإفريقى فى تعزيز نفوذ روسيا بأفريقيا، انترريجونال للتحليلات الاستراتيجية، 12 مارس 2024،
[7]هنا رامى، الفيلق الأفريقي: إعادة هيكلة الوجود العسكرى الروسى فى أفريقيا من البوابة الليبية، المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية، 30 مايو 2024،
[8]محمد عادل عثمان، الفيلق الإفريقى الروسي: أهدافه وسيناريوهاته المستقبلية، قراءات إفريقية، 4 فبراير 2024،
[9]درس فاغنر: كيف يعزز الفيلق الإفريقى نفوذ روسيا فى القارة السمراء؟، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 27 مايو 2024،
[10]الفيلق الأفريقي.. “فاغنر” روسية جديدة فى القارة السمراء، الجزيرة، 8 يناير 2024،
[11]المرجع نفسه.
[12]أحمد دهشان، مرجع سابق.
[13]المرجع السابق.
[14]المرجع السابق.
[15]محمد صلاح الدين،حدود التواجد الروسى فى القارة الإفريقية،مركز رع للدراسات الإستراتيجية، إبريل ٢٠٢٤،https://rcssegypt.com/17545
[16]المرجع نفسه
[17]تتبع التدخل الروسى لعرقلة الديمقراطية فى إفريقيا، “ Africa center”، 21 يوليو 2023، https://2u.pw/ZJlJrdOv
[18]جو إن وود وجيك تاكى، ما الشكل الجديد لفاغنر فى أفريقيا؟ وكيف أعادت روسيا استخدامها؟، بى بى سى نيوز عربى، 20 فبراير 2024،
https://www.bbc.com/arabic/articles/cn0n55l61e3o
[19]خليل العنانى، عقد الانقلابات العسكرية فى أفريقيا، الجزيرة، 21 أغسطس 2023، https://2u.pw/l9e8wccu
[20]أحمد نظيف، حرب موازية فى غرب أفريقيا: صعود روسيا واهتراء النفوذ الفرنسى، مركز الإمارات للسياسات، 9 فبراير 2023، https://2u.pw/fuIHCz9m
[21]روسيا تخوض ضد الغرب معركة الحضور فى أفريقيا، الشرق الأوسط، 23 يونيو 2023، https://2u.pw/9Mchmwt
[22]روسيا – صادرات السلاح إلى أفريقيا استراتيجية طويلة المدى، “DW”، 31 مايو 2023، https://2u.pw/NihkO6yl