عُقدت القمة الأخيرة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الصيني شي جين بينج، في 30 أكتوبر، بمدينة بوسان بكوريا الجنوبية على هامش قمة أبيك؛ حيث جاءت في لحظة شديدة الأهمية من تطوُّر العلاقات بين واشنطن وبكين، وما لذلك من انعكاسات على العالم بشكل عام. وفي هذا السياق المضطرب، اكتسبت اللقاء أهميةً خاصَّةً، ليس فقط لأنها جمعت بين زعيميْ أكبر اقتصادين في العالم، بل لأنها جاءت بعد شهور من التوتر التجاري والتنافس التكنولوجي الذي بلغ ذروته مع إعادة تصويب الإدارة الجمهورية سهامها نحو بكين مرة أخرى.
من هذا المنطلق، جاءت القمة لتطرح تساؤلات عديدة حول طبيعة المرحلة الجديدة، وما إذا كانت هي بداية صفحة جديدة من التعاون المدروس بين القوتين العُظْمَيَيْن، أم مجرد هدنة مؤقتة تسبق جولات جديدة من صراع سوف يتجدد لاحقا.
وبالاقتراب أكثر من قمة “بوسان” الأخيرة، فتجدر الإشارة أنها قد حملت مزيجًا من البراجماتية السياسية والرمزية الدبلوماسية؛ حيث حاول كل طرف إظهار قدرته على إدارة الخلاف، والتأكيد على أن المصالح الوطنية لكل طرف لا تعني بالضرورة التناقض مع استقرار النظام الدولي، كما اتسمت القمة بلغة أكثر دفئًا من المعتاد؛ إذ تجنَّبَ الزعيمان تبادل الانتقادات العلنية، وأظهرا حِرْصًا على توجيه رسائل طمأنة متبادلة، سواء عبر التصريحات الرسمية أو من خلال الاتفاقات الاقتصادية المعلنة.
وعليه؛ يأتي هذا التقرير لتحليل أولى لأبعاد هذه القمة من خلال عدة محاور، وهو ما سيتم التطرق إليه في السياق الآتي:-
أولًا: مخرجات القمة “الأمريكية – الصينية”
جاءت قمة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الصيني شي جين بينج لوضع احتمالية أن تشهد المرحلة المقبلة فتْح فصل جديد في العلاقات بين البلدين؛ حيث شكلت القمة تتويجا لمرحلة سابقة من الاتصالات والمفاوضات المكثفة ذات الطابع التجاري بين الجانبين، وبدت نتائجها انعكاسًا لرغبة مشتركة في إعادة بناء الثقة وتخفيف حدة الصراع الاقتصادي، وفي ظل الأجواء الإيجابية التي رافقت اللقاء، برزت مجموعة من المخرجات التي يمكن اعتبارها مؤشرات ولو محدودة -إلى الآن- على تحول تدريجي في نمط العلاقة “الأمريكية – الصينية”.
1- اتفاق على تخفيض الرسوم الجمركية وتعزيز التبادل التجاري
كان من مخرجات القمة إعلان الحانب الأمريكي عن قرار بخفْض الرسوم الجمركية المفروضة على السلع الصينية بنسبة تقارب 50% بعدما وصلت النسبة إلى ما يفوق 100% في مراحل سابقة، في خطوة تعتبر بمثابة تقدم ملحوظ في مسار الحرب التجارية القائمة. إذ يُعد هذا التخفيض بمثابة إشارة مباشرة إلى رغبة واشنطن في فتح صفحة جديدة قائمة على التفاهم الاقتصادي بدلًا من التصعيد العقابي والحاجة الماسة إلى التوصل إلى صفقة تجارية شاملة مع الصين، ومن ثمَّ الارتقاء فيما بعد إلى قضايا أخرى مهمة ذات أبعاد الأمنية والسياسية، علاوةً على ما سبق اتفق الطرفان على استئناف المحادثات حول اتفاق تجاري شامل يشمل الزراعة والتكنولوجيا والطاقة والمعادن النادرة، مع تسهيلات في حركة الصادرات والواردات، ومن المتوقع أن يؤدي هذا التطور إلى إنعاش سلاسل الإمداد المتبادلة وتقليص الضغوط التضخمية على السوقين الأمريكية والصينية معًا، والاقتصاد العالمي بشكل عام.
2- دِفْء ملحوظ في التصريحات الرسمية المتبادلة:
اتسمت التصريحات العلنية لكل من “ترامب وشي” أثناء القمة بنبرة دافئة وغير تقليدية في سياق العلاقات بين البلدين؛ حيث وصف ترامب نظيره الصيني بأنه “صديق عظيم وشريك جدير بالاحترام”، مؤكدًا أن اللقاء كان “أفضل من المتوقع” وأن هناك “احترامًا متبادلًا هائلًا” بين البلدين، في المقابل، أشاد الرئيس الصيني بما سماه “الروح الجديدة من الواقعية والاحترام المتبادل” في تعامل واشنطن، مشيرًا إلى أن البلدين قادران على تحويل المنافسة إلى تعاون إذا وجدت الإرادة السياسية، كما أنه من الطبيعي أن تشهد العلاقة بين أكبر قوتين في العالم بعض الاحتكاكات إلا أن ذلك لا يعني انهيارًا للعلاقات بين البلدين. ويمكن قراءة هذه اللغة الودية بحدِّ ذاتها باعتبارها تقدُّمًا سياسيًّا مهمًا، خصوصًا في ظلِّ المناخ السلبي والمتوتر الذي سبق القمة بشهور.
3- تقدم واضح في مسار عدة ملفات ورغبة في تطوير العلاقات الثنائية:
كشفت القمة عن تقدم جوهري في عدد من الملفات التي كانت مجمدة منذ سنوات، خصوصًا ملف مكافحة الفنتانيل والتجارة الزراعية والطاقة. كما اتفق الجانبان على تشكيل فرق عمل مشتركة لمتابعة تنفيذ الاتفاقات وتطوير آليات الحوار الاقتصادي والسياسي بصورة مستمرة، ويُمثِّلُ هذا التطور عودة إلى منهج الدبلوماسية العملية التي تركز على المصالح المشتركة بدلًا من الخطاب الأيديولوجي الحاد والتصعيد والتصعيد المقابل.
4- إشادة بجهود ترامب في إحلال السلام الإقليمي والدولي:
استغلَّ الرئيس الصيني القمة لتوجيه الثناء على الدور الذي يقوم به ترامب في دعم جهود السلام، سواء في قطاع غزة أو في جنوب شرق آسيا، مشيدًا بدبلوماسية ترامب التي أسهمت في تهدئة التوتر بين تايلاند وكمبوديا ويُظهِر ذلك أن القمة لم تكن اقتصادية فقط، بل حملت رسائل دبلوماسية تعزز صورة واشنطن كوسيط فاعل في الأزمات الدولية.
5- تجاوز بعض الملفات أو عدم التطرُّق إليها بشكل علني:
على الرغم من حالة الزخم الإيجابي، لوحظ أن القمة تجنبت عدم الخوض بعمق في عدد من الملفات الحساسة، مثل الحرب “الروسية – الأوكرانية”، ومستقبل العلاقة بين الصين وروسيا، وأزمة تايوان، فضلًا عن الوضع في بحر الصين الجنوبي. إذ يمكن قراءة هذا التجاهل لهذه الملفات من ناحية أن التركيز على “المصالح المباشرة ذات الطابع الاقتصادي على الأغلب” كمدخل لإعادة الثقة كان له الأولوية على ما سواه، دون تحميل القمة أعباء الملفات الخلافية التي يصعب حلها في الوقت الراهن.
بشكل عام، تشير مخرجات القمة إلى أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين تشهد انفراجة وإن كانت محسوبة، قوامها التهدئة الاقتصادية والتقارب الدبلوماسي كلما أمكن، مع الحفاظ على خطوط التنافس الاستراتيجي. ومع ذلك، تبقى قدرة الجانبين على تحويل هذه المخرجات إلى خطوات تنفيذية ملموسة هي العامل الحاسم في تحديد ما إذا كانت القمة نقطة تحول حقيقية أم مجرد هدنة مؤقتة في صراع طويل.
ثانيًا: دلالات القمة
حملت القمة بين “ترامب، وشي جين بينج” مجموعة من الدلالات التي تتجاوز حدود الاتفاقات الاقتصادية المعلنة إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ عكست اتجاهًا متدرجًا نحو إعادة صياغة العلاقة بين واشنطن وبكين على أسس عملية.
يمكن تناول هذا الدلالات في السياق الآتي:-
1- رغبة متبادلة في خفض التصعيد وإعادة ضبط التنافس:
كان أبرز ما عكسته القمة هو اتجاه واضح لدى الطرفين لتجنُّب الانزلاق إلى صراع لا نهائي بعد فترات سابقة من التوتر، إذن إن إقدام واشنطن على خفْض الرسوم الجمركية إلى النصف يشير إلى إدراكها أن سياسة الضغوط القصوى لم تحقق أهدافها، وأن الاقتصاد الأمريكي نفسه تضرَّرَ من استمرار الحرب التجارية. في المقابل، أبدت بكين استعدادًا لتقديم تنازلات محسوبة؛ بهدف الحفاظ على استقرار صادراتها وتنمية علاقاتها في ظلِّ التباطؤ العالمي، وهذه المقاربة التي تجمع بين “الحزم” و”التهدئة” تأتي بمثابة خطوة لإعادة التموْضع لكل من الولايات المتحدة والصين في إدارة علاقاتهما الثنائية.
2- توظيف القمة في خدمة الأهداف السياسية الداخلية:
كان من الواضح أن القمة لم تكن منفصلة عن الحسابات الداخلية للرئيس ترامب، الذي يسعى إلى تعزيز صورته كقائد قادر على عقْد صفقات كبرى تحقق مكاسب اقتصادية تعيد مكانة الولايات المتحدة عالميًا، فقد قدم ترامب الاتفاقات الاقتصادية، خصوصًا خفْض الرسوم وزيادة الصادرات الزراعية، كدليل على نجاح “نهْج الصفقات” الذي يميز إدارته. في المقابل، استخدم الرئيس “شي” اللقاء لإظهار أن بكين قادرة على حماية مصالحها عبر الحوار وليس المواجهة، وهو ما يخدم صورة الصين كقوة مسؤولة تبحث عن الاستقرار وليس التصعيد.
ومن ثمَّ، كانت القمة منصة سياسية داخلية للطرفين بالدرجة نفسها التي كانت فيها حدثًا دبلوماسيًّا دوليًّا.
3- تحول في الخطاب الدبلوماسي من الصدام إلى النفعية:
كانت من أهم الدلالات هي فكرة التحوُّل الواضح في نبرة الخطاب الأمريكي تجاه الصين، فبعد فترة من الخطاب المتشدد الذي ركَّزَ على “التهديد الصيني”، بدا ترامب هذه المرة أكثر واقعية وهدوءًا، وهو ما عبَّرَ عنه بتوصيف الرئيس شي بأنه “صديق عظيم”، وهذا التغيير في اللهجة لا يعكس فقط تهدئة سياسية، بل يعكس أيضًا عودة لأسلوب الدبلوماسية العملية التي تركز على النتائج الاقتصادية والاتفاقات الثنائية.
ومن جانبها؛ تعاملت الصين بحذر محسوب، مركزةً على ما يمكن البناء عليه دون الخوْض في الملفات الخلافية الكبرى. بذلك، يمكن القول: إن القمة أرجأت الخطابات العدائية جانبًا في مقابل توظيف أكثر للخطابات الجامعة.
4- تأكيد الدور الأمريكي في إدارة التوازنات الدولية عبر السلام:
كانت من إحدى الرسائل غير المباشرة في القمة هي سعي إدارة ترامب لإعادة تقديم الولايات المتحدة كقوة سلام واستقرار عالمي، في مواجهة الصورة السابقة التي ارتبطت بسياسات المواجهة؛ حيث حرص ترامب على استثمار إشادة الرئيس الصيني بجهوده في تحقيق الهدوء بين تايلاند وكمبوديا، وكذلك في تهدئة الوضع الإنساني في غزة؛ لتأكيد أن واشنطن استعادت قدرتها على إدارة التوازنات الدولية، ويكشف هذا البُعْد أيضًا عن رغبة الإدارة الأمريكية في استعادة “القيادة عبْر الدبلوماسية المدعومة عسكريًّا” أو ما يُطلق عليه “السلام عبر القوة”، وهي صيغة تحاول بالطبع منافسة النفوذ الصيني المتزايد في آسيا وأفريقيا.
5- تحييد الملفات الخلافية:
تجنب القادة الخوض في قضايا مثل (أوكرانيا، تايوان، والعلاقة “الصينية – الروسية”)، وهي ملفات تُعد من أكثر النقاط حساسية في العلاقات الثنائية خصوصًا في الوقت الحالي، وهذا التجاهل المقصود يحمل دلالة سياسية بالغة؛ إذ يشير إلى أن القمة صُممت لتكون قمة تبحث عن النتائج فقط وليس أي شيء آخر، وتركز على ما يمكن الاتفاق عليه أولًا قبْل الانتقال إلى المسائل الخلافية لاحقًا. وعليه؛يمكن القول: إن الطرفان قد أعادا ترتيب أولوياتهما على قاعدة الاقتصاد أولًا، والسياسة لاحقًا، في محاولة لخلْق مساحة آمنة للحوار المستقبلي دون مواجهة مباشرة، وهذا لا يعني تجاهُل الملفات السياسية بين البلديْن على أي حال.
بشكل عام، كشفت القمة عن إدراك أمريكي متزايد بأن الصين ليست كغيرها من الدول التي يمكن التأثير عليها عبْر الرسوم أو العقوبات الاقتصادية؛ نظرًا لضخامة اقتصادها وتشابُك سلاسل التوريد معها. ولذلك بات من الضروري التعامُل معها معاملة مختلفة تقوم على التوازن والمصالح المتبادلة، وهو ما تجسّد في النَّهْج العملي الذي تبناه ترامب في القمة، بعيدًا عن لغة الإملاء أو العقاب الاقتصادي المباشر الذي لم يجد نفْعًا طوال الفترة الماضية.
ثالثًا: انعكاسات القمة على العلاقات “الأمريكية – الصينية”
يبدو مبكرًا للغاية الجزم بانعكاسات نتائج هذه القمة على العلاقات بين واشنطن وبكين على المدى البعيد والتي هي أكبر من أن يتمَّ اختزالها فب قمة واحدة، لكن على المدى الزمني الحالي والقريب وبفرض ما إذا استمرَّ نهْج التهدئة الحالي متبعا نهجًا أكثر تقدُّما، فإنه يمكن القول: إن هذه القمة قد تساهم في إعادة تعريف منهج إدارة التنافُس بين الطرفين، من الصدام المفتوح إلى التعايش والاحتواء، وفيما يأتي عرضٌ لانعكاسات هذه القمة:-
1- تعزيز منطق إدارة التنافس في مقابل تهميش منطق إدارة الصراع:
يتمثل ذلك في الانتقال من مرحلة الاستقطاب إلى مرحلة إدارة الخلافات ضمن أطر تفاوضية منظمة أو صفقات معلنة؛ حيث عكست القمة إدراكًا متبادلًا بأن استمرار الصدام التجاري والعسكري يضر بكلا الطرفيْن، وبالاقتصاد العالمي ككل. وعليه، باتت واشنطن وبكين -في لحظة انعقاد القمة- أكثر ميلًا إلى بناء قنوات حوار مستمرة تتيح حل القضايا الخلافية دون أن تتحول إلى أزمات مفتوحة.
2- احتمالية فتْح مسارات جديدة لتسوية أزمات عالمية-خاصة الحرب الأوكرانية:
تفتح التهدئة “الأمريكية – الصينية” الباب أمام دور صيني أوسع في تسوية الأزمات الدولية، وفي مقدمتها الحرب “الروسية – الأوكرانية”؛ حيث قد يتيح هذا النمط القائم على استمرار التفاهمات لواشنطن توظيف ثقل الصين لدى موسكو للضغط نحو حلول سياسية أكثر واقعية، خاصَّةً إذا ما رأت بكين أن إنهاء الحرب يخدم استقرار الأسواق العالمية ويعزز دورها كوسيط دولي موثوق.
وعليه؛ يمكن القول: إن قمة “ترامب، وشي” قد تُعيد تفعيل الدبلوماسية الصينية كقناة غير مباشرة على تأثير واشنطن في الصراع الحالي.
3- انعكاس القمة على العلاقات “الأمريكية – الأوروبية”:
تضع هذه القمة احتمالية إيجاد حالة من الارتباك داخل المعسكر الغربي لا سيما في أوروبا، فبينما تسعى واشنطن إلى تخفيف التوتُّر مع بكين لتحقيق مكاسب اقتصادية وتخفيف الأعباء الجيوسياسية، تجد العواصم الأوروبية نفسها أمام مفارقة؛ حيث يُطلب منها أحيانًا اتباع نهْجٍ أكثر تشدُّدًا تجاه الصين، بينما تمضي الولايات المتحدة نفسها في طريق التفاهم والانفتاح، وهذا التناقض قد يُعمِّقُ الفجوة داخل التحالف الغربي، خاصَّةً بين الولايات المتحدة من جهة، ودول مثل “فرنسا وألمانيا” التي تربطها بالصين علاقات اقتصادية متشابكة من جهة أخرى.
لذا؛ يمكن اعتبار القمة بداية لإعادة توزيع الأدوار داخل المعسكر الغربي، مع احتمال أن تتبنَّى أوروبا نهْجًا أكثر استقلالية في سياساتها تِجَاه بكين مستقبلًا.
4- تعزيز مكانة الصين كطرف لا يمكن تجاوزه دوليًّا:
أظهرت القمة أن الصين لم تعُدْ تُعامل كخصم اقتصادي فحسب، بل كقوة دولية لا يمكن تجاوزها في صياغة توازنات النظام العالمي؛ حيث إنه بمجرد خفْض الرسوم الجمركية إلى النصف فإن ذلك يعكس اعترافًا أمريكيًّا بأن سياسة العقوبات لم تعد مجدية في التأثير على بكين.
ومن ثَمَّ، كرّست القمة مبدأ أن أيَّ نظام اقتصادي أو سياسي عالمي لا يمكن أن يستقرَّ دون مشاركة الصين فيه كشريك أساسي، وهذا التحوُّل يفرض على واشنطن التعامل مع بكين وفق منطق الندية وليس الهيمنة أو الإملاء.
5- إعادة ضبْط الدور الأمريكي في آسيا والعالم:
تعزز القمة أيضًا صورة الولايات المتحدة كقوة تسعى إلى استعادة نفوذها في آسيا عبر أدوات أكثر مرونة؛ حيث إن نجاح ترامب في كسْر الجمود مع الصين يعيد واشنطن إلى قلب التوازن الآسيوي، ويمنحها قدرة أكبر على المناورة في ملفات، مثل “بحر الصين الجنوبي، وكوريا الشمالية، وتايوان”، كما تمنح القمة الإدارة الأمريكية زَخَمًا دبلوماسيًّا جديدًا في مواجهة روسيا؛ إذ تُوحي بأن الولايات المتحدة قادرة على موازنة خصومها، من خلال الانخراط الإيجابي وليس عبْر العُزْلة أو التصعيد.
رابعًا: ما بعد القمة
رغم الأجواء الإيجابية التي سادت قمة “ترامب، وشي جين بينج”، فإنه لا يمكن الجزْم بأن مسار التهدئة بين واشنطن وبكين سيستمر طويلًا؛ حيث إن العلاقات بين القوتين لطالما اتسمت بالتقلب والتوتُّر المفاجئ؛ فبالعودة والاستناد إلى لقاء ترامب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 15 أغسطس 2025، في ألاسكا، فإن هذه القمة تقدم مثالًا واضحًا على ذلك؛ حيث بدا حينها أن هذه القمة بداية لمرحلة جديدة من التعاون “الأمريكي – الروسي”، قبْل أن تعود لغة التصعيد والعقوبات والاتهامات المتبادلة لتفرض نفسها مجددًا بعد فترة وجيزة. ومن هذا المنطلق، فإن المشهد الراهن بين واشنطن وبكين قد لا يكون استثناءً؛إذ لا توجد ضمانة حقيقية بأن نتائج القمة الأخيرة ستترجم إلى التزامات طويلة المدى.
وعليه؛ تظل الخلافات الجوهرية بين الجانبين قائمة، سواء في الملفات الاستراتيجية المتعلقة بتايوان وبحر الصين الجنوبي، أو في التنافس التكنولوجي الحادّ على أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي، وهي ملفات يصعب تجاوزها بالتصريحات الإيجابية وحدها، كما أن كلا البلدين يواجه ضغوطًا داخلية قد تدفعه إلى تبنِّي مواقف أكثر تشدُّدًا في أي لحظة، خصوصًا إذا ارتبط الأمر بالسيادة أو الأمن القومي؛ لذلك، فإن مرحلة ما بعد القمة يمكن وصفها بأنها هُدنة مؤقتة أكثر من كوْنها تحوُّلًا استراتيجيًّا دائمًا، وهي هدنة -إلى الآن- تحكمها المصالح الوقتية أكثر مما تحكمها الثقة المتبادلة.
إجمالًا:
في ضوء مجمل ما أسفرت عنه قمة “ترامب، وشي”، يمكن القول: إن العلاقات “الأمريكية – الصينية” على مشارف فترة تتسم بقدْرٍ من البراجماتية الحذرة -وغير المضمون استمراريتها- حيث تسعى كل من واشنطن وبكين إلى تهدئة التوترات دون التنازل عن مصالحهما الجوهرية؛ حيث لم تُنْهِ القمة الخلافات، لكنها نجحت في إدارة التباينات وفتْح قنوات التواصل المباشر بعد فترة طويلة من الجمود. ومع ذلك، يبقى مستقبل هذه التفاهمات مرهونًا بمدى التزام الطرفين بتحويل الوعود إلى سياسات واقعية، وهو أمر يرتبط بالظروف الداخلية في البلديْن وبالمتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة.
وعلى أيِّ حالٍ، تُعَدُّ ما حققته القمة خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها ليست نهاية الطريق، كما أن العلاقة ستظلُّ تتأرجح بين التعاون والصراع، ويبقى التحدِّي الحقيقي أمام الإدارة الأمريكية والرئاسة الصينية هو الانتقال من إدارة الأزمات إلى بناء الثقة، وهي مهمة لن تتحقق بخطاب وديٍّ أو خفْض للرسوم فقط، بل بتأسيس رؤية مشتركة تضع الاستقرار العالمي فوق منطق الهيْمنة والمواجهة.
