في خِضَمِّ التحوُّلات المتسارعة التي يشهدُها العالمُ في ميدان التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، تبْرُزُ القمةُ العالميةُ للذكاء الاصطناعي في رواندا كحدثٍ مِفْصَلِيٍّ، يعكسُ طموحًا أفريقيًّا متصاعدًا؛ لإعادة تموْضع القارة في خارطة الابتكار العالمية، ولم تكن هذه القمةُ مُجرَّد لقاءٍ تِقَنِيٍّ تناقش فيه آخر مُسْتَجَدَّات البرمجيات، بل كانت مِنْبَرًا سياسيًّا وإستراتيجيًّا، أعلنت من خلاله الدول الأفريقية – بقيادة رواندا – عن نيتها المشاركة الفعلية في رسْم معالم النظام الرقمي العالمي، لا كمستهلكٍ أو مُتَلَقٍّ، بل كصانع قرارٍ وشريكٍ في الإنتاج والتنظيم، وتأتي هذه المبادرة في سياقٍ عالميٍّ يشهدُ تصاعُد التنافُس الجيوسياسي حول الهيْمنة التكنولوجية؛ إذ بات الذكاء الاصطناعي أداةً مركزيةً لإعادة تعريف مفاهيم السيادة والأمن والتنمية، وفي هذا الإطار، تسعى رواندا إلى استثمار موقعها الجغرافي، واستقرارها السياسي، ورُؤْيَتها التنموية القائمة على الابتكار؛ لتتحوَّل إلى نقطة ارتكازٍ إقليميةٍ لتكنولوجيا المستقبل، في وقتٍ تتجه فيه أنظار العالم إلى الجنوب العالمي كمجالٍ جديدٍ للاستثمار والشراكة والتأثير.
خطوةٌ لإعادة هندسة المشهد الجيوسياسي الرقمي
في يوميْ ٤ و ٥ من الشهر الجاري، شهدت العاصمةُ الروانديةُ “كيغالي” حدثًا استثنائيًّا، تمثَّلَ في استضافة القمة العالمية للذكاء الاصطناعي، بحضور رؤساء دول وحكومات، ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، ورئيس الاتحاد الدولي للاتصالات، وممثلين عن 95 دولةً في جميع أنحاء العالم، وأكثر من 100 مؤسسةٍ من شركات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يُمْكِنُ اعتباره إعلانًا سياسيًّا واضحًا عن دخول القارة الأفريقية ورواندا تحديدًا، إلى حلبة المنافسة الدولية في ملفِّ الذكاء الاصطناعي، الذي بات يُشكِّلُ محورًا رئيسيًّا في المعادلات الجيوسياسية الجديدة ورافعةً للتأثير الإستراتيجي في العلاقات الدولية.
لقد أكَّدت القمة على أن الذكاء الاصطناعي لم يعُدْ مُجرَّد أداة تقنية، بل أصبح أحد أبرز أركان السيادة الوطنية الرقمية؛ إذ بات يُستخدمُ في الأمن، والتعليم، والصحة، والبِنْيَة التحتِيَّة، ويؤثر مباشرةً على قدرة الدول في التحكُّم بمستقبلها التنموي والسياسي، ومن هذا المنطلق، تسعى رواندا عبْر هذا الحدث إلى تعزيز استقلالها السيبراني، وبناء قدراتٍ وطنيةٍ قادرةٍ على إنتاج وتوجيه تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؛ بما يخدم مصالحها الإستراتيجية.
واتَّسمت القمة بنشاطٍ مُكثَّفٍ على صعيد الدبلوماسية الرقمية؛ حيث اجتمعت وفودٌ من أكثر من خمسين دولةً، إلى جانب شركات تكنولوجية عملاقة ومنظمات أممية؛ لبحث سُبُل التعاون في تطوير أُطُرٍ أخلاقيةٍ وتشريعيةٍ لاستخدام الذكاء الاصطناعي؛ بما يضمن الشفافية، وعدم التمييز، وحماية الخصوصية، وقد برزت دعواتٌ لإنشاء منصَّةٍ دوليةٍ مشتركةٍ لصياغة سياسات الذكاء الاصطناعي، تكون أكثر تمثيلًا للمصالح العالمية، بدلًا من سيطرة المؤسسات الغربية على مسارات التطوير والتنظيم.[1]
إعادة تموْضع أفريقي في النظام الدولي
في ظلِّ التحوُّلات في النظام الدولي مُتعدِّد الأقطاب، تُمثِّلُ القمةُ لحظةً سياسيةً محوريةً تشير إلى إعادة تموْضع أفريقي في الفضاء الرقمي العالمي، وتحدِّيًا للهيْمنة التقنية للدول الكبرى، ومن خلال احتضانها لهذه القمة، تطرح رواندا نفسها كـفاعلٍ إقليميٍّ صاعدٍ قادرٍ على صياغة رُؤْيةٍ أفريقيةٍ مشتركةٍ حول مستقبل الذكاء الاصطناعي، بعيدًا عن التبعِيَّة للأنظمة الغربية أو الشرقية.
وتتّجه أفريقيا مدفوعةً بوعْيٍّ سياسيٍّ جديدٍ وقياداتٍ إصلاحيةٍ في عددٍ من دولها، إلى امتلاك أدوات السيادة الرقمية، ومسألة البِنْيَة غير المتكافئة للعلاقات التكنولوجية الدولية، وفي هذا السياق، جاءت القمة في رواندا كمحاولةٍ إستراتيجية لتقويض الصورة النمطية عن القارة، بوصفها ساحةً للصراعات أو سوقًا للتكنولوجيا الجاهزة، ولطرحها بديلًا يتمثَّلُ في أفْرَقَة التكنولوجيا؛ أيْ إنتاج حلولٍ رقميةٍ تنْبُعُ من الخصوصيات المحلية وتخدم أولويات التنمية والأمن والاستقرار.
أهداف القمة
تندرج هذه القمة ضمن مسعى إستراتيجي متعدد المستويات؛ ما بين “قاري ودولي وتنموي”، يستهدف إعادة توجيه المسار التنموي للقارة وتثبيت موقعها في معادلة القوة الرقمية العالمية، فعلى المستوى القاريِّ؛ تسعى القمة إلى صياغة رُؤْيةٍ أفريقيةٍ مُوحَّدةٍ حول قضايا الذكاء الاصطناعي، من خلال تعزيز التنسيق بين الدول الأعضاء، وتأسيس آليات تشاركية في بناء القدرات الرقمية، وتبادل الخبرات، ومواجهة التحديات المشتركة، ويبرز ذلك في الدعوة إلى إنشاء شبكاتٍ بحثيةٍ ومراكز تميز تتجاوز الحدود الوطنية.
أما على المستوى الدولي، تهدف القمة إلى تعزيز الحضور الأفريقي في مفاوضات الحوْكمة الرقمية العالمية، عبْر تكوين موقفٍ تفاوضيٍّ قائمٍ على مبادئ الإنصاف والتمثيل العادل؛ بما يُعيدُ التوازن في علاقات إنتاج وتوزيع التكنولوجيا بين الشمال والجنوب، ومن الناحية التنموية، ترمي القمة إلى تسخير الذكاء الاصطناعي لخدمة أولويات التنمية المستدامة، لا سيما في مجالات الصحة، الزراعة، التعليم، وإدارة الموارد، ويُفترض أن يُسْهِمَ ذلك في تجاوز الاختناقات الهيكلية التي تعاني منها العديد من الدول الأفريقية.[2]
مُخْرَجَات القمة
أسفرت القمة العالمية للذكاء الاصطناعي في أفريقيا عن مجموعةٍ من المُخْرَجَات الجوهرية، التي عكست التوجُّه نحو بناء بيئةٍ رقميةٍ أفريقيةٍ ذات طابعٍ سياديٍّ وتكامليٍّ؛ من أبرزها:
1- إطلاق مبادرة “الذكاء الاصطناعي من أجل أفريقيا 2025”: تمَّ الإعلان عن إنشاء منصَّةٍ تنسيقيِّةٍ بين الدول الأفريقية للتعاون المشترك في مجال الذكاء الاصطناعي، وتعزيز تبادُل الخبرات والممارسات الفُضْلَى.
2- إنشاء مركزٍ أفريقيٍّ للإبداع التكنولوجي: تمَّ الاتفاق على تأسيس مركزٍ إقليميٍّ يتمتع بالقدرة على قيادة التحوُّلات الرقمية داخل القارة، ويُعْنَى بتطوير حلولٍ محليةٍ وأفريقيةٍ في مجالات الذكاء الاصطناعي
3- إنشاء صندوقٍ استثماريٍّ لدعْم مشاريع الذكاء الاصطناعي:تمَّ تحديد خطط لتأسيس صندوق مشترك بين الحكومات والشركات الخاصَّة لدعْم الابتكارات الرقمية في مجالاتٍ، مثل “الزراعة الذكية، الصحة الرقمية، والتعليم عن بُعْد”.
4- إصدار إعلان مبادئ حوْل حوْكمة الذكاء الاصطناعي في أفريقيا: تمَّ اعتماد مجموعةٍ من المبادئ الأساسية التي تشمل الشفافية في الخوارزميات، احترام حقوق الإنسان الرقمية، تعزيز المساواة في الوصول إلى التقنيات الحديثة، وضمان حماية البيانات الشخصية.
5- تعاونٌ مع دولة الإمارات العربية المتحدة:شهدت القمة مشاركة دولة الإمارات العربية المتحدة مع رواندا، في تعزيز التعاون في مجالات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي الآمن وتحليل البيانات؛ بهدف دعْم التحوُّل الرقمي وبناء بيئةٍ تكنولوجية آمنةٍ ومستدامةٍ.
6- تضمين المجتمع المدني في صُنْع القرار:تمَّ التأكيد على أهمية إشراك المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية في تطوير سياسات الذكاء الاصطناعي؛ لضمان أن تكون التقنيات مُنفَّذة بطُرُقٍ شفَّافة وتدعم التنمية الشاملة.[3]
في الختام:
تُمثِّلُ القمة مؤشرًا على تحوُّل الذكاء الاصطناعي من مُجرَّد مسألة تقنية إلى قضية إستراتيجية سيادية، تفرض على الدول إعادة تعريف أولوياتها الوطنية والأمنية، في ظلِّ التغيُّرات المتسارعة في ميزان القوى العالمي، كما أنها خطوةٌ بارزةٌ نحو تعزيز الدور الريادي لأفريقيا في مجال التكنولوجيا المتقدمة، مع التركيز على السيادة الرقمية، العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، وقد تمَّ وضْع مُخْرَجَاتٍ ملموسةٍ، تُشكِّلُ أساسًا للتحوُّل الرقمي في القارة؛ بما يُسْهِمُ في دمْج التكنولوجيا بشكلٍ فعَّالٍ في تطوير القطاعات الحيوية.
[2] قمة الذكاء الاصطناعي في رواندا تحدد مسار القارة التكنولوجي، الجزيرة نت، ٢ إبريل ٢٠٢٥، https://shorturl.at/NvuYl .
[3] إطلاق “مجلس الذكاء الاصطناعي الأفريقي” في القمة العالمية الأولى للذكاء الاصطناعي بالقارة، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية، ٥ إبريل ٢٠٢٥، https://shorturl.at/gLGym .
