المقالات
القمة العربية في بغداد: قراءة في السياق والتحديات
- مايو 17, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط

اعداد: ريهام محمد
باحثة متخصصة في وحدة شؤون الشرق الأوسط
في ضوء الأحداث المتسارعة التي تشهدها المنطقة، وبعد القمة الاستثنائية لمجلس جامعة الدول العربية، احتضنت العاصمة العراقية بغداد القمة العربية الرابعة والثلاثين يوم السبت الموافق 17 مايو الجاري، في محطة جديدة تعكس الحضور المتجدد للعراق على الساحة العربية، بعد استضافتها لقمم سنوات 1978 و1990 و2012، وقد شهدت القمة مشاركة قادة ووزراء خارجية الدول العربية، بالإضافة إلى كبار المسؤولين من الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية ورؤساء مؤسسات دولية وأممية ، مما يشير إلى دلالة سياسية قوية من حيث التوقيت والموقع والسياق الإقليمي.
ومن ثم عودة بغداد لاحتضان القمم العربية تجسد أكثر من مجرد رغبة عراقية لاستعادة مكانتها التاريخية؛ بل تعكس محاولة لإعادة دمج العراق كفاعل متوازن ضمن المعادلة العربية بعيدًا عن الاصطفافات المحورية، يأتي ذلك في توقيت بالغ الحساسية يشهد تحولات إقليمية مصيرية، ليس آخرها التحول الجذري في المشهد السوري، وتوسيع العملية العسكرية الاسرائيلية على غزة، والانكفاء الملحوظ لإيران وأذرعها الإقليمية، بعد الهزيمة الاستراتيجية التي مُني بها كل من حزب الله وحركة حماس في الحرب مع اسرائيل.
من هذا المنطلق، يطرح انعقاد قمة بغداد سؤالاً محورياً: هل تشكل هذه القمة منعطفًا حقيقيًا نحو إعادة بناء النظام العربي بأسس واقعية تتجاوز الخطاب الرمزي، أم أنها تُكرس النمط المزمن للعجز البنيوي والانكفاء القُطري؟
رمزية انعقاد القمة في بغداد:
يسعى العراق، من خلال الدبلوماسية التي تروج لها وزارة الخارجية، إلى تعزيز قدرته على إدارة الحوارات الثنائية والمتعددة مع جيرانه الإقليميين، ويعكس وعي صناع القرار العراقي بأهمية الاستقرار الإقليمي في تعزيز الاستقرار الداخلي إحدى أولويات الحكومة بقيادة رئيس الوزراء “محمد شياع السوداني”، مما يدفع العراق للتفاعل المباشر مع الأحداث الإقليمية بسبب تأثيرها المحتمل على الأوضاع السياسية والأمنية داخليًا، وهذا يُفسر النشاط الدبلوماسي للعراق الذي يهدف إلى تنسيق المواقف بدلاً من الانغماس في التفاعلات المعقدة جراء تعدد المصالح الذي يفاقم حالة عدم اليقين بشأن سلوكيات الدول تجاه بعضها البعض، مما يحفز العراق على اعتماد سياسة النأي عن الصراعات المحلية والعالمية.[1]
في هذا السياق، يُعتبر اختيار بغداد لاستضافة القمة العربية الرابعة والثلاثين بعد سنوات من الاقتتال السياسي والانقسامات الداخلية حدثاً يحمل دلالات سياسية عميقة تتجاوز التنظيم الجدولي أو الترتيبات اللوجستية، فنجاح العراق في تنظيم هذا الحدث الإقليمي البارز يعكس حالة من الاستقرار النسبي ورغبة ملحوظة لاستعادة المبادرة الدبلوماسية؛ وهو تأكيد واضح على تطلعات العراق للعودة إلى مكانته المحورية ضمن النظام العربي بعد سنوات طويلة من الغياب الناتج عن الاحتلال الأميركي والانقسامات الداخلية وهيمنة القوى غير العربية على السيادة العراقية.
وتعود بغداد، التي كانت دائمًا واحدة من أركان القوة العربية التقليدية بجانب القاهرة ودمشق والرياض، لتبث الحياة مجددًا في العمل العربي عبرالقمة ليس فقط كداعم لكنه أيضًا باعتبارها طرفًا يسعى لإقامة توازن بين القوى المتضاربة في المنطقة مثل إيران ودول الخليج وكذلك بين واشنطن والمحور الأوراسي (روسيا-الصين-إيران).
تتجلى أهمية القمة أيضًا في دلالات توقيتها: إذ تُعقد في فترة تشهد فيها العديد من الدول العربية تدهورًا في استقرارها الداخلي وتراجعًا في فعاليتها الإقليمية، بينما يُبرز العراق نفسه، بشكل نسبي، كدولة تمكنت من تقليل حدة الانقسام الداخلي واستعادة السيطرة على علاقاتها مع القوى الإقليمية، مما يتيح له تعزيز دوره كوسيط أو “نقطة التقاء المصالح” بدلاً من أن يكون ساحة لتصفية الحسابات.
من الناحية الجيوسياسية، فإن انعقاد القمة في بغداد يحمل رسالة مزدوجة: أولها أن العراق لم يعد مجرد مسرح للتنافس بين النفوذ الإيراني والأميركي، بل أصبح قادرًا على إدارة توازناته وفقًا لاعتباراته الوطنية؛ وثانيها، ان الجامعة العربية على ضعفها لا تزال تعتبر العراق قاعدة يمكن الاستثمار فيها سياسيًا في ظل ما يشبه غياب الدور السوري، واستقرار مشروط في لبنان، ومخاض داخلي دائم في ليبيا واليمن.
السياق الإقليمي لعقد القمة:
عُقدت القمة العربية الرابعة والثلاثون في بغداد في ظل سياق إقليمي شديد التوتر والتعقيد، يتسم بتعدد رقعات الاشتباك السياسي والعسكري وتداخل الملفات المحلية مع الاصطفافات الدولية، ما جعل منها لحظة اختبار حقيقية لقدرة النظام العربي على التعامل مع بيئة استراتيجية تتغير بسرعة، من هنا يمكن إجمال خلفية السياق الزمني للقمة العربية فيما يلي[2]:
القمة الخليجية الأمريكية: تظهر أولى ملامح هذا السياق من خلال الجولة الخليجية التي قام بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي شملت كل من قطر والسعودية والإمارات، وقد حققت هذه الجولة مكاسب سياسية واقتصادية مزدوجة تعكس الارتباط الواضح بين الاعتبارات الداخلية الأمريكية ومتطلبات المنافسة الدولية في منطقة الخليج، واعتبرت هذه الزيارة مؤشرًا على عودة الولايات المتحدة بقوة إلى المنطقة، خاصةً بعد فترة التراخي التي شهدتها إدارة بايدن، ورغبة ترامب في توظيف النفوذ الأمريكي من خلال أدوات الضغط الاقتصادي وصفقات الأسلحة والشراكات الاستراتيجية.[3]
الوضع في سوريا: في تطور متزامن لافت، طرأ تحول كبير على الساحة السورية تمثل بظهور الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع بمواقف أكثر انفتاحًا تجاه الغرب، وهو ما هيّأ بيئة مواتية لانخراط أميركي مباشر تُرجم بلقاء مفاجئ بين ترامب ونظيره السوري أثناء القمة الخليجية الأمريكية في الرياض، تلاها إعلان واشنطن رفع جميع العقوبات عن سوريا،[4] في خطوة فاقت التوقعات وأثارت تساؤلات استراتيجية عميقة حول ما اذا كانت المرحلة المقبلة ستشهد بداية مسار تقارب فعلي بين أمريكا وسوريا، أم أن سوريا تُستخدم كوسيلة تفاوض ضمن صفقة إقليمية أكبر يتم صياغتها بهدوء؟
التصعيد بين حزب الله واسرائيل: بالتوازي مع ذلك، تستمر التوترات العسكرية في جنوب لبنان في التصعيد بين حزب الله وإسرائيل وسط ضغوط دولية متزايدة تطالب الحزب بالتخلي عن سلاحه والانخراط بشكل كامل في العملية السياسية، يأتي ذلك بالتزامن مع استمرار التصعيد المتبادل العملياتي ما يعيد فتح نقاش حول استقرار لبنان كإحدى الملفات الأكثر تعقيداً ضمن المشهد العربي.
توسيع العملية العسكرية على غزة: يتعرض القطاع إلى منهجية واسعة من العمليات العسكرية وفرض قيود على إدخال المساعدات الإنسانية، والتي تهدف إلى تقسيمه إلى مناطق صغيرة ودفع الفلسطينيين نحو ما تسميه إسرائيل بـ”غزة الصغرى”، مما يمهد لسيناريو التهجير القسري الذي سبق ورفضته مصر والأردن، كما أعلن الجيش الإسرائيلي صباح السبت 17 مايو، أنه بدأ عملية عسكرية جديدة واسعة في قطاع غزة، كجزء من الاستعدادات لتوسيع العمليات وتحقيق أهداف الحرب، والتي تشمل إطلاق سراح الرهائن وتفكيك منظمة حماس “الإرهابية” وفقًا لبيان الجيش الإسرائيلي.[5]
الأزمة السودانية: دخلت العلاقات بين الإمارات والسودان منعطفاً شديد الخطورة بعد أن أعلن مجلس الأمن والدفاع السوداني في 6 مايو عن قطع العلاقات مع الإمارات ووصفها بأنها “دولة عدوان”، متهمًا إياها بدعم قوات الدعم السريع، وتبع ذلك رفض رسمي إماراتي للاعتراف بـ”سلطة بورتسودان” كممثل شرعي للدولة السودانية، تزامنًا أيضا مع تصاعد حدة النزاع عبر استخدام الطائرات المسيرة من قبل قوات الدعم السريع لاستهداف الخرطوم وبورتسودان، مما أسفر عن خسائر بشرية جديدة وموجات نزوح إضافية وأعاد تأكيد التوتر العميق داخل بنية الدولة السودانية مهدداً الاستقرار الإقليمي.[6]
الوضع في ليبيا، تعيش ليبيا في الأيام الماضية حالة من التوتر السياسي والأمني، حيث تزامنت اشتباكات مسلحة غير منتظمة بين الفصائل الأمنية المتنافسة مع موجة احتجاجات شعبية واسعة في العاصمة طرابلس تطالب بإسقاط حكومة الوحدة الوطنية، ما يعكس وجود تصدعات جذرية داخل السلطة القائمة، وقد تفاقمت الأزمة بعد أن قدم عدد من الوزراء استقالاتهم بشكل مفاجئ، في مؤشر واضح على عمق الانقسامات داخل حكومة الدبيبة وازدياد الاتهامات بالفشل في إدارة المرحلة الانتقالية وتدهور الأوضاع الاقتصادية وغياب رؤية سياسية واضحة للخروج من حالة الاستقرار السلبي.[7]
نتائج القمة:
في ختام الدورة 34 من القمة العربية ببغداد، جاء البيان الختامي ليجسد التزام الدول العربية بالتعاون والتضامن لمواجهة التحديات الإقليمية الراهنة والعمل من أجل استقرار المنطقة، ويمكن إجمال نتائج القمة فيما يلي:
القضية الفلسطينية- محور القمة العربية:
ركزت نتائج القمة العربية بشكل رئيسي على القضية الفلسطينية، مؤكدةً أن إنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يمثل أولوية عربية قصوى وعليه:
-
دعا القادة العرب إلى وقف فوري وكامل لإطلاق النار، ووقف كافة العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد المدنيين والبنية التحتية في القطاع، كما شددوا على ضرورة إدخال المساعدات الإنسانية بشكل عاجل ومن دون قيود.
-
التأكيد على الرفض القاطع لأي محاولات للتهجير القسري أو تغيير الواقع الديمغرافي في غزة أو الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية.
-
كما جدد القادة العرب دعمهم الثابت لحل الدولتين، ودعوا إلى عقد مؤتمر دولي للسلام برعاية الأمم المتحدة، وصولًا إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
-
الترحيب باعتراف عدد من الدول الأوروبية مؤخرًا بدولة فلسطين، وأشاد بتصويت الجمعية العامة لصالح عضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، مطالبًا مجلس الأمن بإعادة النظر في رفضه لذلك، كما دعم دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.
-
التأكيد على أهمية حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، ودعم الوصاية الهاشمية الأردنية ودور لجنة القدس التي تترأسها المغرب، مع التحذير من تصعيد سياسات التهويد والاستيطان التي تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي.
سوريا- دعوة للحوار ورفض التدخلات:
-
جدد إعلان بغداد التأكيد على وحدة وسلامة الأراضي السورية وضرورة إنهاء كافة أشكال التدخلات الخارجية في شؤونها.
-
دعا القادة العرب إلى دعم مسار الحل السياسي وفق القرار الأممي 2254، بما يضمن وحدة سوريا وسيادتها وتحقيق المصالحة الوطنية.
-
الإشادة بخطوة الولايات المتحدة في رفع جزء من العقوبات، والدعوة الأوروبية لتخفيف الإجراءات الاقتصادية على سوريا.
-
أدان القادة العرب بشدة الغارات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، مطالبين المجتمع الدولي بالتحرك لوقفها فورًا.
لبنان- دعم الاستقرار والتوازن الداخلي:
-
أكد البيان حرص الدول العربية على استقراره السياسي والأمني، وشدد على ضرورة احترام قرارات الشرعية الدولية، لا سيما القرار 1701، مع المطالبة بانسحاب إسرائيل من الأراضي اللبنانية المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا.
-
كما رحب القادة بإجراء الانتخابات البلدية والاختيارية في موعدها، واعتبروها خطوة نحو تعزيز المؤسسات اللبنانية.
-
التأكيد على أهمية دعم الجيش اللبناني كمؤسسة ضامنة للاستقرار، وعلى ضرورة دعم عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم في إطار منسق مع الحكومة السورية.
اليمن- حل سياسي ورفض التدخلات:
-
جدد البيان دعم الدول العربية لوحدة اليمن وسلامة أراضيه، وأكد القادة أن الحل السياسي الشامل هو السبيل الوحيد لإنهاء الصراع اليمني.
-
دعوة كافة الأطراف اليمنية إلى الانخراط الجاد في الحوار الوطني دون إقصاء، ورفضوا بشكل قاطع أي تدخل خارجي في الشأن اليمني.
-
التأكيد على دعمهم للمبادرات الخليجية والأممية التي تهدف إلى الوصول لتسوية عادلة ومستدامة.
السودان- وقف الحرب ودعم العملية السياسية:
-
أعرب القادة العرب عن قلقهم العميق إزاء استمرار الحرب في السودان، وناشدوا كافة الأطراف السودانية تغليب لغة الحوار والقبول بالمبادرات السياسية المطروحة.
-
التأكيد على دعم إعلان جدة، ومبادرة دول “إيجاد” التي تسعى لتوحيد المسارات السياسية والميدانية.
-
التأكيد على أهمية الحفاظ على وحدة السودان، وضمان عدم تحول الصراع إلى حالة دائمة من الانقسام والتفكك.
ليبيا- مصالحة شاملة وخروج القوات الأجنبية:
-
شدد القادة على ضرورة استكمال مسار المصالحة الوطنية الشاملة، وإخراج جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية في إطار جدول زمني محدد.
-
طالب البيان بالإسراع في إصدار القوانين الانتخابية، تمهيدًا لتنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بما يضمن وحدة ليبيا واستقرار مؤسساتها.
-
جدد القادة رفضهم التام لأي تدخل أجنبي في الشأن الليبي، مؤكدين أن الحوار بين الليبيين هو الأساس للحل.
الصومال- وحدة الدولة ورفض الإرهاب:
أكد البيان دعم الدول العربية الكامل لوحدة وسيادة الصومال، وشدد على الوقوف ضد أي محاولات لتقويض أمنه واستقراره. كما أدان القادة محاولة محاولة اغتيال الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود، معبرين عن تضامنهم الكامل مع الحكومة الصومالية في مواجهتها للتنظيمات الإرهابية، ودعوا إلى استمرار دعمها سياسيًا وأمنيًا.
الإمارات والجزر الثلاث- دعم السيادة ورفض الاحتلال الإيراني:
-
جدد القادة العرب دعمهم الكامل لموقف دولة الإمارات العربية المتحدة في سيادتها على جزرها الثلاث المحتلة من قبل إيران: طنب الكبرى، طنب الصغرى، وأبو موسى.
-
دعا البيان إيران إلى التجاوب مع دعوات دولة الإمارات لحل النزاع إما عبر المفاوضات المباشرة أو من خلال محكمة العدل الدولية، بما ينسجم مع القانون الدولي ومبادئ حسن الجوار.
الأمن القومي العربي- سلاح الدمار الشامل والمياه:
-
أشار البيان إلى ضرورة إنشاء منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط، وشدد على أن امتلاك إسرائيل لترسانة نووية يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمي.
-
كما تطرق القادة إلى قضايا الأمن المائي العربي، مؤكدين أن المساس بحصص المياه في دول المصب (لا سيما مصر والسودان) يُعد تهديدًا مباشرًا للأمن القومي العربي.
-
دعوا إلى التزام كافة الأطراف باتفاقيات القانون الدولي للمياه، وعدم اتخاذ خطوات أحادية.
تحديات متشابكة:
جاء انعقاد القمة العربية في بغداد محاطًا بجملة من التحديات المتشابكة التي تعكس حجم التعقيد في المشهدين العربي والإقليمي، وهو ما يضع النظام العربي برمته أمام اختبار حقيقي يتعلق بقدرته على التحول من الدور الرمزي إلى الفعل المؤسسي الفاعل، ويمكن اجمال التحديات المحيطة بالقمة فيما يلي:
على الصعيد السياسي، يُعتبر الانقسام البنيوي بين الدول العربية من أبرز التحديات التي تحد من فعالية القمم العربية، اذ تختلف الأولويات والاستراتيجيات بين العواصم العربية بشأن الملفات الأساسية، ومنها الموقف حيال الحرب في غزة، ومستقبل سوريا، وتبعات الأزمة السودانية، والانقسام الليبي، ويُظهر هذا التباين في وجهات النظر ليس فقط تباينًا في تقييم المخاطر؛ بل يكشف أيضًا عن افتقار الإرادة السياسية الضرورية لتشكيل موقف عربي موحد يمكنه التأثير على معادلات المنطقة المتغيرة.
كما تتعرض البيئة الإقليمية لتحولات استراتيجية عميقة تتمثل في عودة المنافسة الدولية إلى المنطقة وزيادة نقاط التوتر التي أصبحت مسارح مفتوحة للتدخلات الخارجية، إذ يساهم تمدد النفوذ الإيراني، والدور المتزايد لتركيا، بالإضافة إلى الانخراط الإسرائيلي الأوسع في بعض قضايا المنطقة – فضلاً عن المنافسة الأمريكية-الروسية-الصينية – بوضع الدول العربية في موقع دفاعي ويقلل من قدرتها على المناورة الاستراتيجية خاصةً بغياب آلية أمن إقليمي عربية موحدة تعزز التوازن وتحمي الأمن القومي الجماعي.
وعلى المستوى الأمني، تواجه الدول العربية تحديات كبيرة مرتبطة بتفشي ظواهر الفوضى المسلحة وتعدد الفاعلين خارج نطاق الدولة وانهيار سيادة بعض البلدان كما هو الحال في ليبيا واليمن وسوريا، حيث تجعل هذه الظروف الوصول إلى توافقات حقيقية حول القضايا الأمنية أمرًا صعبًا لا سيما بسبب تضارب مصالح بعض الدول العربية فيما يتعلق بهذه الملفات وغياب رؤية موحدة لمعالجة التنظيمات المسلحة أو التدخلات الأجنبية.
من الناحية الاقتصادية، تواجه المنطقة فجوة تنموية شاسعة بين الدول الغنية التي تمتلك فوائض مالية ودول أخرى تعاني من أزمات اقتصادية حادة جراء النزاعات أو سوء الإدارة أو الاعتماد المفرط على المساعدات الخارجية، وتعتبر البطالة والفقر وارتفاع الديون السيادية من أبرز التحديات الاقتصادية التي تهدد الاستقرار الداخلي للعديد من الدول العربية، مما يعيق قدرتها على الانخراط في مشاريع التكامل الاقتصادي، خاصةً مع انعدام أي آلية فعالة لدعم تنفيذ القرارات الاقتصادية المشتركة بينهم، ومن ثم يعزز هذا الوضع ضعف التعاون العربي الجماعي، حيث تُفضل الاهتمامات القطرية على المشاريع التنموية المشتركة، وتفتقر السياسات المنسقة المتعلقة بالأمن الغذائي والمائي والتغير المناخي.
في السياق ذاته، يواجه العراق كدولة مستضيفة تحديات تتعلق بقدرته على استثمار الزخم السياسي وتحويله إلى نتائج فعلية، فرغم التحسن النسبي في استقراره الداخلي، إلا أن المشهد العراقي لا يزال محاطًا بتوازنات دقيقة بين القوى المحلية والدولية، مما قد يشكل عائقًا أمام قدرة بغداد على لعب دور قيادي طويل الأمد ضمن النظام العربي ما لم يتم تعزيز ثقة الدول العربية في توجهاته كفاعل محايد يسعى للتقريب بدلاً من الاستقطاب.
الخاتمة والتوصيات:
في ضوء التحديات المتعددة التي تحيط بالقمة العربية ببغداد، فإن الحاجة باتت ملحة لتطوير مقاربة عربية أكثر واقعية ومرونة تستند إلى إعادة تعريف مفهوم “الأمن القومي العربي” كمنظومة مترابطة تتجاوز منطق الاصطفافات الضيقة والتنافس الثنائي، وفي هذا السياق يُوصى بضرورة تبني خطة عمل عربية مشتركة تركز على ثلاثة محاور رئيسية:
أولاً، إنشاء آلية دبلوماسية دائمة لتنسيق سياسي فعّال بين العواصم العربية بعيدًا عن الإطار الموسمي للقمة.
ثانيًا، تشكيل غرفة عمليات عربية مشتركة لرصد الأزمات الإقليمية وإدارتها بأسلوب استباقي.
ثالثاً، إطلاق مبادرة اقتصادية تكاملية تأخذ في الاعتبار الأمن الغذائي والمائي والتحول الرقمي كأسس لبناء الاستقرار المستقبلي.
وبالتالي فإن نجاح قمة بغداد لا يتم تقييمه فقط بناءً على بيانها الختامي بل أيضًا بقدرتها على إرساء مسار مؤسسي جديد يعيد للعرب دورهم الفاعل في رسم خرائط الإقليم بدل الاكتفاء بردود الأفعال.
المصادر:
[1] د.علي فارس حميد، قمة بغداد 2025: أدوار النفوذ والتوازن المفقود، مركز البيان للدراسات والتخطيط، مايو 2024.
https://www.bayancenter.org/2025/04/13630/
[2] في ختام القمة العربية.. “إعلان بغداد” يطالب بوقف فوري للحرب على غزة ودعم الخطة العربية الإسلامية لإعادة الإعمار، وكالة أنباء الشرق الأوسط، مايو 2024.
https://www.mena.org.eg/ar/news/dbcall/table/textnews/id/11182570
[3] القمة الخليجية ــ الأميركية ترسم خريطة استقرار للمنطقة، صحيفة الشرق الأوسط، مايو 2024.
https://linksshortcut.com/KJdnt
[4] بعد لقاء ترامب والشرع.. هل يبدأ مسار التعافي السوري؟، سكاي نيوز عربية، 15 مايو 2024.
[5] إسرائيل تعلن بدء عملية عسكرية جديدة كبيرة في غزة، سكاي نيوز عربية، مايو 2024.
https://linksshortcut.com/zBcuO
[7] استقالة وزراء ليبيين عقب اشتباكات طرابلس.. وحكومة الدبيبة تنفي، العربية نت، مايو 2024.