عاد النقاش إلى الواجهة حول مدينة “الكويرة”، الواقعة في أقصى الجنوب المغربي بالصحراء، والتي تشهدُ نِزَاعًا مستمرًا بين المغرب وجبهة البوليساريو، ويزداد الاهتمام بوضعها الإستراتيجي؛ ما يثير الطموحات لاستعادتها وإعادة إحيائها بعد سنوات من الإخلاء بسبب النزاع، بعد أن كانت في السبعينيات مركزًا تجاريًّا مهمًّا في غرب أفريقيا، فبينما الأهمية الاقتصادية والجيوسياسية لمدينة “الكويرة” تجذب المغرب لاستعادتها، تريد موريتانيا بقاء الوضع كما هو، فيما تترقَّب دولٌ أُخرى الخُطْوة المقبلة كي تساند جبهة البوليساريو.
أهمية الكويرة في تعزيز السيادة وتوازُن القوى في المنطقة:
تُوجد مدينة “الكويرة” عند نهاية تمدُّدٍ صخريٍّ بالقُرْب من حدود موريتانيا؛ حيث تحيط بها مياه المحيط الأطلسي من الجهات الثلاث: الشمال والجنوب والغرب، بينما تحدُّها مدينة “أنواذيبو” الموريتانية من الشرق، وتحْظَى الكويرة بموقعٍ جغرافيٍّ حسَّاسٍ للغاية؛ إذ تتداخل فيها مصالح المغرب وموريتانيا؛ كوْنها تقع بالقُرْب من المحيط الأطلسي، وتُعتبر نقطة توازنٍ مهمةٍ في العلاقات بين البلديْن، على الرغم مما يراه البعض كـ”توجس موريتاني” تجاه إمكانية تعرُّض نواكشوط للضغط اقتصاديًّا إذا قام المغرب بتطوير الكويرة لوجستيًّا.[1]
من الناحية القانونية، فإن مدينة “الكويرة” لا تخضع لأيِّ دولةٍ، بعد أن تنازلت عنها موريتانيا عام 1978، كجزءٍ من أراضي إقليم الصحراء، الذي كانت قد تقاسمته مع المغرب عام 1975، وفقًا للقانون الدولي، تعتبر المدينة جزءًا من المناطق المتنازع عليها بين المغرب وجبهة البوليساريو.
بالنسبة للمغرب، يُنظر إلى “الكويرة” كمدينةٍ ضِمْن إقليم أوسرد التابع لمنطقة الداخلة وادي الذهب، وهي جزء لا يتجزأ منه تمتدُّ منذ طنجة حتى أقصى الجنوب.
على الجانب الآخر، تعتبرها جبهة البوليساريو جُزْءًا لا يتجزأ من الجمهورية الصحراوية التي تسعى لإقامتها داخل إقليم الصحراء، واعتبارها وديعة تمَّ تكليف موريتانيا بحمايتها بعد انتهاء النزاع والحر، ومن خلال السيطرة عليها، يسعى البوليساريو إلى تعزيز سيادته على المنطقة، كما أن الكويرة كانت مركزًا تجاريًّا مهمًّا في السبعينيات؛ ما يجعلها نقطة جذْبٍ اقتصاديةٍ، فضلًا عن كوْنها أداة ضغط سياسية على المغرب، في سياق النزاع المستمر حول الصحراء الغربية.
بالنسبة لموريتانيا؛نظرًا لقُرْب هذه المدينة الحدودية، والتي تبعد عن أنواذيبو – أكبر مدنها الاقتصادية – حوالي 15 كيلومترًا ، فقد فضلت حماية “الكويرة”؛ لتفادي أيِّ صراعٍ قُرْب مركزها الاقتصادي إلى حين التوصُّل إلى حلٍّ بشأن نزاع الصحراء الغربية.[2]
كما أن وضعية الكويرة مرتبطة بطبيعة النزاع حول الصحراء وتاريخه الطويل؛ حيث يعود الوجود العسكري لموريتانيا في هذه المدينة إلى منتصف السبعينيات من القرن الماضي، عندما تمَّ توقيع اتفاق مدريد”، إن اتفاق السلام الذي وقَّعته موريتانيا مع جبهة البوليساريو في أغسطس 1979، نصَّ على تولِّي الموريتانيِّين إدارة الكويرة؛ حتى يتمَّ حلّ مسألة الصحراء حمايةً للأمن القومي لموريتانيا, كما أنه – تاريخيًّا – لم يكن للجبهة أيُّ حضورٍ سابقًا في هذه المدينة.
صراع متجدد:
استمتعت مدينة “الكويرة” بفترة ازدهارٍ ملحوظةٍ من 1968 إلى 1976، قبْل أن يندلع الصراع على الصحراء، ويواجه سكانها صعوبات مختلفة؛ بسبب الهجمات المتكررة من عناصر جبهة البوليساريو ممن كانوا يسعون للسيطرة على هذه المنطقة بعد مغادرة الإسبان-المؤسسين لها-، ومع تصاعُد الاشتباكات حول “الكويرة”، التي تُعتبر المدينة الأهم في المنطقة، تأثَّرت الحركة الاقتصادية بشكلٍ كبيرٍ، وبدأ السكان بالهجرة تدريجيًّا حتى تحوَّلت المدينة إلى منطقةٍ عسكريةٍ، جاء ذلك بالتزامن مع انسحاب موريتانيا من الصحراء بعد حراكٍ؛ أدى إلى الإطاحة بالرئيس السابق ” المختار ولد داداه، في 1978.
واليوم، لا تتجاوز “الكويرة” كوْنها مدينةً مهجورةً تمامًا، تسكنها الأطلال والبنايات القديمة التي تعود لفترة الاستعمار الإسباني، وتتمّ حمايتها بقوة أمنية موريتانية محدودة تمنع دخول المدنيِّين إليها؛ نظرًا لوضعها الحالي، ومنذ الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء وإقدام الرباط على طرْد عناصر البوليساريو الذين كانوا يُعطِّلُون الطُّرُق الدولية، عبْر نصْب حواجز وفرْض رسومٍ على سائقي الشاحنات المغاربة، بدأت المملكة المغربية سياسة لتثبت واقعًا جديدًا؛ ما أوجد اهتمامًا متجدِّدًا بـ “الكويرة”.[3]
الكويرة في صميم التحوُّل المغربي الحديث:
في 13 نوفمبر 2020، قام المغرب بتحرُّكٍ في معبر الكركرات؛ لإنهاء التعطيل الذي سببَّه نشاط عناصر البوليساريو في المنطقة العازلة، وبعد إنذاريْن لتلك العناصر بضرورة الانسحاب، تدخَّلت القوات المسلحة الملكية لتأمين المعبر؛ الأمر الذي أجبر البوليساريو على الانسحاب[4]، تَبِعَ ذلك إعلان المغرب عن مشاريع كُبْرَى، تتضمن إنشاء ميناء الداخلة الأطلسي، وبناء طريقٍ سريعٍ، يربط “تيزنيت” بالداخلة، وتأسيس مناطق لوجستية؛ لتعزيز التجارة مع أفريقيا، وكانت هذه المبادرات تهدف إلى تقديم ردٍّ اقتصاديٍّ على الطروحات الانفصالية وتعزيز التنمية في الأقاليم الجنوبية، مع التركيز على تنمية الكويرة وتحويلها إلى وجهةٍ سياحيةٍ، وجاءت هذه الخطوات بعد سلسلةٍ من الإجراءات العسكرية والسياسية، التي استهدفت تأكيد سيادة المغرب على الصحراء، ولإحداث تحوُّلٍ شاملٍ للاقتصاد المحلي.[5]
وعلى الرغم من عدم توفُّر معلومات رسمية واضحة حول مشروع إعمار الكويرة – باستثناء المشاريع السابقة المشمولة، والتي هي قيد التنفيذ في جهة الداخلة وادي الذهب؛ بما لها من شريط ساحلي بطول 667 كيلومترًا على المحيط الأطلسي – إلَّا أن القناة الأولى المغربية قدَّمت صورةً ثلاثية الأبعاد لميناء الكويرة في أبريل 2021؛ ما يدُلُّ على إدراج المنطقة ضمن خطط الإعمار بالمكان، كما قرَّرت الولايات المتحدة فتْح قنصلية فيها، عقب اعترافها بمغربية الصحراء خلال ديسمبر 2020، ورغم أنها كانت تقع خلف الجدار الرملي قبْل عملية الكركرات، فإن الكويرة تُعتبر اليوم منتسبةً إداريًّا لجماعة حضرية تابعة لإقليم أوسرد؛ حيث يتم انتخاب رئيسها عبْر الانتخابات المحلية، وكان آخر انتخابات قد جرت عام 2021.[6]
وتكرَّرت المناقشات حول خطوة إعادة إعمار المدينة، خلال زيارة ماكرون إلى المغرب في أكتوبر الماضي، وارتفعت التوقُّعات لاحتمال أن تشمل الزيارة تعاوُنًا فرنسيًّا مغربيًّا لتحقيق ذلك، ورغم ذلك، لم تُسْفِر مُخْرجات الزيارة عن أيِّ حديثٍ بخصوص وضْع تلك المدينة أو خطة إعادة الإعمار، ومن ثمَّ فإن النقاش الذي أثارته الرباط لا يتعدَّى كوْنه محاولة غير رسمية لاستكشاف ردود الأفعال، ولكنه ليس أمرًا عشوائيًّا تمامًا، فقد يكون هذا المسعى بهدف تقييم الموقف إذا اتخذ المغرب خطوةً في إطار انتصاراته الدبلوماسية الأخيرة في الصحراء، لكن الرباط ليست بصدَدِ المخاطرة بعلاقاتها مع موريتانيا، التي تُمثِّلُ المنفذ البري الوحيد لها نحْو أفريقيا؛ من أجل استعادة أراضٍ متنازعٍ عليها وبناء ميناء بالقُرْب منها.[7]
مكسب إستراتيجي محتمل:
تتتمثَّلُ المكاسب الإستراتيجية المحتملة لهذه الخطوات المغربية في إنهاء الاعتقاد السائد لدى البوليساريو، بأن المناطق خلف الجدار – بما فيها الكويرة – “محررة”، بينما هي تحت إشراف الأمم المتحدة لتحقيق اتفاق وقْف إطلاق النار لعام 1991؛ حيث لم تُلبَّ مطالب البوليساريو بشأن الانتشار العسكري بالمنطقة الممتدة من شرق الجدار حتى الحدود الدولية للمغرب مع الجزائر، رغم تكرار تلك المطالب، فضلًا عن توفير ضمانات واقعية تُعزِّزُ ثقة المجتمع الدولي بمقترح الحُكْم الذاتي؛ ما يُعزِّزُ التنمية الاقتصادية التي ستعود بالنَّفْع على سكان الصحراء.
انعكاسات الوضع على العلاقات “المغربية – الموريتانية”:
من شأن تلك الخطوات التي تُقبل عليها المغرب أن تؤثر على علاقاتها بجارتها الجنوبية؛ إذ لا تعترف موريتانيا بمدينة الكويرة كأرضٍ موريتانية، سواء في خرائطها أو ضمن بياناتها الرسمية، ومع ذلك، هناك قلقٌ واضحٌ في نواكشوط، بشأن إمكانية قيام المغرب بأيِّ خطوات لتطوير هذه المدينة واستثمار مواردها؛ لأسبابٍ تتعلق بالسيادة والاقتصاد بشكلٍ رئيسيٍّ، فكما تمَّ الإشارة إلى أن الكويرة تقع بالقرب من مدينة نواذيبو، التي تُمثِّلُ عصب الاقتصاد الموريتاني ومركز نشاط صيْد الأسماك وتصدير المعادن؛ لذا فإن أيَّ استثمارات مغربية في المنطقة ستكون بلا شكٍّ على حساب الاقتصاد الموريتاني؛ ما يثير حساسية كبيرةً لدى الحكومة الموريتانية، وبالتالي، فإن المخاوف الموريتانية حِيَالَ الكويرة هي مخاوف سيادية أساسًا.
ورغم أن مسألة الإعمار تعتبر شأنًا سياديًّا خاصًّا بالمغرب، إلَّا أن الرباط قد تفتح حوارًا سياسيًّا مع موريتانيا، في إطار حِرْصها على طمأنتها، بأن أيَّ مشروع تنموي في المنطقة، سيُسْهِمُ في تنمية المنطقة بشكلٍ عامٍ، ومن غير المتوقع أن يخاطر المغرب بتدهور علاقاته مع موريتانيا، التي كانت تمتلك حقوقًا في الصحراء، وتشترك بصفة مراقب في المفاوضات، وفي حال حدوث توتُّر بين البلديْن، قد تضطر موريتانيا إلى إعادة تقييم موقفها بشكلٍ شاملٍ؛ ما قد يدفعها إلى تجاوُز الحياد الإيجابي الذي تتبنَّاه حاليًا.
وفي الختام:
يمكن القول: إن الرباط ونواكشوط تدركان بحساسية الوضع الإستراتيجي لهذه المدينة؛ بما استدعى من الطرفيْن تحديد مستقبلها ضِمْن توافُق بين البلديْن يتمتع بمرونةٍ إستراتيجية تأخذ بعين الاعتبار مخاوف وتطلُّعات الجانبيْن ومصالحهما الوطنية، وفي إطار طبيعة الوضْع الخاص لهذا الموقع الجغرافي ضِمْن خريطة العلاقات المغربية الموريتانية؛ ما يتيح للدولتيْن الاستفادة منه والعمل سويًّا لحفظ المصالح المشتركة، رغم وجود بعض الأصوات المتطفلة التي ترغب بعدم استقرار المنطقة، وتسعى لاستغلال الوضع الخاص لتلك المدينة وغيرها من القضايا؛ لإحداث الفِتَن والخلافات بين الشعبيْن.
المصادر:
[1] سواحل “لكويرة” تشعل صراعا رباعيا في غرب أفريقيا، اندبندنت عربية، يوليو 2023.
