ساهمتْ العديدُ من السواعدِ فى إعلاءِ شأنِ تنظيمِ داعش مع إعلانِ الخلافةِ فى سوريا والعراق عام 2014، وحتى مع سقوطِها إثْرَ الهزيمةِ العسكريةِ التى لاحقت التنظيمَ فى عام 2019، ظلَّ بعضٌ منها بمثابةِ حجرِ الأساسِ لإعادةِ السيطرةِ وتحقيقِ حلمِ الخلافة مرةً أخرى، ويأتى فى مقدمتهِا عاملُ التمويلِ حيث يَعتَبِرُ الخبراءُ أن تنظيمَ داعش جماعةٌ إرهابيةٌ ثَريّةٌ إعتمدتْ على شبكةٍ متنوعةٍ لجمعِ الأموال إستطاعَ من خلالهِا تَخزينَ احتياطاتٍ ماليةٍ ضخمةٍ خارجَ مناطقَ عملياتهِ المباشرةِ، والشاهدُ هنا أن جزءاً من استراتيجيةِ التنظيمِ تَعتَمِدُ على استحداثِ تِقْنياتٍ جديدةٍ للتمويلِ وتطويرِ الشبكات الماليةِ واستراتيجياتِ التمويلِ الذاتى، مما خَلَقَ مَوْجةً من التعقيدِ يَصْعُبُ مكافحتُها بالنسبةِ لأجهزةِ الأمنِ العالميةِ.
وفى إطارِ تلك الفكرةِ طرحَ “مركزُ مكافحةِ الإرهابِ Combating Terrorism Center” دراسةً حولَ المستقبلِ المالىِ لتنظيمِ داعش فى ضَوٰءِ تحليلِ مصادرِ تمويلِ ولاياتِ وفروعِ التنظيمِ والاستراتيجياتِ التّمويليةِ التى يَتّبِعُها التنظيمُ والشبكاتُ الماليةُ الوسيطةُ ناهيك عن طرحِ نهجٍ جديدٍ لتنظيمِ داعش لدعمِ شبكتهِ فضلاً عن الإشارةِ إلى تحدى جهودِ المكافحةِ الدوليةِ، وذلك عبر مجموعةٍ من المعلوماتِ المستنبطةِ من فريقِ الرصدِ التّابعِ لمجلسِ الأمنِ التابعِ للأممِ المتحدةِ والمقابلاتِ التي أجرتْهَا الباحثةُ (Jessica Davis) مع خبراءَ إقليميين.
مصادر متباينة للتمويل:
من أجل تنفيذِ أجندتهِ السياسيةِ إستطاعَ التنظيمُ قبل سقوطِ الخلافةِ من جَمْعِ مبالغَ كبيرةٍ فى الأراضىِ التى كان يُسَيطرُ عليها فى سوريا والعراق وصلت وفقاً لما ذكرتهُ الدراسةُ إلى “مليون دولار يوميا” وذلك بالاعتمادِ على مجموعةٍ من الأساليبِ مثل: استخراجِ وبَيعِ النفطِ، وفرضِ الضرائب، وابتزازِ السكانِ تحت منطقتهِ من خلال الخطفِ مقابل فديةٍ، وسرقةِ وبيعِ الآثارِ، وغيرها من الطرق الغيرِ مشروعة. وقد اعتمدَ التنظيمُ على نظامٍ لامركزىٍ فى إدارته وعَمَدَ إلى تأسيسِ وجودٍ عالمىٍ عبر “المديرية العامة للولايات”من خلالها تَمَّ إعادةُ تدوير فائضِ الأموالِ مرةً أخرى خارجَ العراق وسوريا فى دعم المجموعات الفرعية التابعة له فى العالمِ الموجودةِ بالأساس فى إفريقيا وآسيا، وعلى الرغم من ذكل نوهت الباحثة أن إدارة الخلافةِ استطاعت الحفاظَ على الكثير من هذه الاحتياطيات المالية نقداً.
ولكن التَّحولَ هنا بعد الهزيمة العسكرية وتفككَ الخلافة، لم تستطعْ الجماعةُ الوصولَ إلى بعضِ أموالهِا الفائضة وفقاً لما أشارت إليه الدراسةُ، فى مقابل بقاءِ بعض الموارد المالية فى كلٍ من سوريا والعراق والسودان وتركيا، وعن أصول تلك الموارد فإن تنظيمَ داعش استثمرها فى أعمالٍ تِجاريةٍ مشروعةٍ مثل “العقارات ووكالات بيع السيارات”، وأصولٍ أخرى نقلت ذهباً إلى تركيا وفق بعضِ مصادرِ الدراسةِ وبعضٍ منها تم نقلهُ إلى مواقعَ مختلفةٍ دولياً من خلال إحدى الشبكات الماليةِ مثل “شبكة الراوى”.
وطبقاً لبياناتِ الدراسة فإن تنظيمَ داعش المركزى لديه القدرةُ على الوصول إلى ما بين 10 إلى 20 مليون دولار من الأصولِ السائلةِ فقط على الرغم من أن هذا الزعمَ أقلُّ بكثيرٍ مما كان يَمتلِكُهُ التنظيم سابقاً قبل سقوطِ الخلافة، إلا أنه وفقاً لتقديراتِ الخبراءِ فإنها تكفى للهجماتِ الدوريةِ التى يشنُّها فى مناطقِ عملياته المركزية فى ولاياتهِ ومجموعاتهِ المختلفةِ والمواليةِ له والمدعومةِ بشبكةٍ ماليةٍ متصلةٍ.
الإستراتيجياتُ التمويليةُ لتنظيمِ داعش:
كما سلف الذكر أنشأَ تنظيمُ داعش”المديريةَ العامةَ للولايات” فى إطار قيادتهِ اللامركزية فى عامِ 2014 من أجل ضمانِ الحفاظ على قيادتهِ والسيطرة على الولايات الجديدة المواليةِ للتنظيمِ، ومنذ نشأتها أقام التنظيمُ علاقاتٍ مع مجموعاتٍ جديدةٍ فى العديدِ من الدول، وفى بعض الحالاتِ كانت تلك المجموعاتُ تمثلُ نهجاً استراتيجىاً ومصادرَ تمويلٍ قائمةٍ بالفعل قبل انضمامِها للتنظيم وفقاً لما ذكرته الدراسةُ، وقد تراوحت العلاقاتُ بين تلك الولايات وبين التنظيم ما بين الصعودِ والهبوطِ بمرور الوقتِ وبايعت زعيمَ التنظيمِ لاسيَّما فى كلٍ من “ليبيا والجزائر ومصر والسودان واليمن وغربِ إفريقيا والصومال وموزمبيق وجنوب إفريقيا والصحراء الكبرى وجمهورية الكونغو الديمقراطية وباكستان والقوقاز وأفغانستان وجنوب شرق آسيا”.
إستراتيجية تمويلٍ مشتركةٍ:
ووفقاً لهذا التشابكِ اللامركزى يَستَخدِمُ التنظيمُ المركزي وولاياتُه الفرعيةُ التى تسعى للسيطرة على الأراضى وفقاً لما توصلت إليه الباحثة استراتيجيةً مشتركةً للتمويل للحصول على عائداتٍ محليةٍ حيث تقوم بتطبيق “نظامٍ ضريبىٍ” يشبه فى مجملهِ النظامَ الذى نشره التنظيمُ في العراق وسوريا وقتَ الخلافة، فعند النظر إلى “داعش ولاية الصومال” فتشير البيانات التى جمعتها الدراسةُ إلى أنه يَقُومُ بتجميع ما لا يَقِلُّ عن “6 مليون دولار سنوياً” من خلال فرض الضرائبِ مع الأخذ فى الاعتبار أن هذا الرقمَ ضئيلٌ مقابل الفروع الأخرى للتنظيمِ ولكنها كافيةٌ لدعم أنشطتهِ الحاليةِ فى الصومال.
بينما تَغْلِبُ على بعض الولاياتِ أساليبُ أخرى من الاختطافِ من أجل الحصول على فديةٍ والسطو والسرقةِ لجمع الأموال ومن أشهرِها “داعش ولاية غرب أفريقيا” المرتكزة فى منطقة حوض بحيرة تشاد حيث نيجيريا والكاميرون، وكذلك “داعش ولاية موزمبيق” المتوجدة فى جنوب أفريقيا. وبالانتقالِ إلى القارةِ الآسيوية على سبيل المثال تتَمَكّنُ فروع التنظيم فى منطقة جنوب شرق آسيا من جمع الأموالِ للأنشطةِ الإرهابيةِ عبر آلياتٍ مثل التبرعاتِ والجمعياتِ الخيريةِ والتحويلات وكذلك العملاتُ المشفّرةُ التى سيلى تفصيلها، ولكن لا تزالُ تلك العوائدُ أقلَّ نسبياً من الولايات الأخرى التابعةِ للتنظيم لذلك لا تزال تَعتمِدُ بشكلٍ كبيرٍ ولاية جنوب شرق آسيا على أموالِ التنظيم المركزى لشنِّ الهجماتِ والأنشطة الدعائيةِ وذلك وفقاً لما اعتمدتْ عليه الدراسة طبقاً لبيانات الأممِ المتحدةِ لعام 2023.
التحويلات المالية من التنظيم المركزى:
عانت بعضُ الولايات التى تواجدتْ فى مناطق نزاعاتٍ مسلحةٍ وحروبٍ أهليةٍ من إنشاءِ نظامٍ محلىِ للتمويل من أجل توفير تَدفّقٍ مالى غير قائمٍ على الضرائب لتحقيق نوعٍ من السيطرة والنفوذ، مثل الحالة الليبيةِ حيث قامَ التنظيمُ المركزىُ بدعم “داعش ولاية ليبيا” عبر التحويلاتِ الماليةِ لدعم أنشطتِها وعملياتهِ فى عام 2014 والتى تراجعت بين عامى 2016 و2019، وناهيك عن الحالة الليية، كما تُوضّحُ البياناتُ الرسمية التى توصلت إليها تلك الدراسةُ فى الشكلِ البيانىِ أدناه، فإنه على مدى السنوات العشرِ الماضيةِ، قام تنظيمُ داعش المركزى بنقل ملايين الدولارات إلى مختلفِ الفروعِ والجماعات، وخاصةً “ولاية خرسان” و”ولاية القوقاز”،أقوى ولاياتِ التنظيمِ الفترة الأخيرة. وتوفر تلك البيانات التى اعتمدت عليها من خلال فريقِ الرصدِ التابعِ للأممِ المتحدة وغيرهِ من المصادر المفتوحة بشأن التحويلاتِ المالية لتنظيمِ الدولة الإسلامية لمحة عامة عن مستوى التمويل الذي أرسله تنظيمُ الدولةِ الإسلاميةِ المركزي إلى المجموعاتِ الفرعية.
شبكاتُ التمويلِ الداعشية:
تتناولُ الدراسة على صعيدٍ آخر الدورَ الذى تلعبهُ شبكاتُ التمويل سواء الإقليمية أو الدولية فى شبكةِ التسهيلات المالية من أجلِ دعم عملياتِ وأنشطةِ التنظيم، وتَتَرواحُ العَلاَقاتُ بينهما ما بين عَلاقَاتٍ متكاملةٍ بين التنظيم من ناحيةٍ وبين الشبكات من ناحيةٍ أخرى، وفى حالاتٍ أخرى تَقْتصِرُ تلك العلاقةُ فى شكلِ عَقْدٍ مدفوعٍ بالربح بين الطرفين ومن أهمِّ وأبرزِ تلك الشبكات الواردة بالدراسةِ محل العرض ما يلى ذكر:
شبكة الراوى ”Al-Rawi“:
تَعمَلُ شبكة الراوى فى كلٍ من “العراق وتركيا وبلجيكا وكينيا وروسيا والصين”، وقد اعْتَمَدَ عليها تنظيمُ داعش من أجل تحويل الأموال لفروعه المختلفةِ لاسيَّما فى دولِ جنوب شرق آسيا، ومن أجلِ إتمام عملية التحويلِ تَسْتخدِمُ الشبكةُ وكلاءَ لتهريبِ الأموال من بلدٍ لأخرى لإخفاءِ المصدرِ الرئيسى لأموالِ التنظيم، وفى حالاتٍ أخرى تَقومُ بتحويلِ الأموال إلى ذهب.
شبكة جنوب إفريقيا ”The South Africa network“:
تَمكّنتْ شبكةُ جنوب إفريقيا من العمل كوسيطٍ فى تحويلِ الأموال لمجموعاتٍ وجهاتٍ مختلفةٍ أهمُّها “شبكةُ تحالفِ القوى الديمقراطية” المبايعةُ لتنظيم داعش تحت مسمى ولايةِ أفريقيا الوسطى فى جمهوريةِ الكونغو الديمقراطية، استدلت الدراسةُ على تورطِها المباشرِ فى تحويلاتِ الأموالِ من جنوبِ أفريقيا، ناهيك عن تقديمِ تلك الشبكةِ الدعمَ والأموالَ إلى “ولاية داعش فى موزمبيق”.
شبكاتٌ فرديةٌ:
أشارت الدراسةُ إلى دَوْرِ الشبكات الفردية فى تسهيلِ المعاملات المالية للتنظيم والتى تَتَنوعُ ما بين الشركاتِ المزيفةِ وحملات التبرع الوهميةِ، بالنسبة للنوع الأولِ ذكرت الباحثة مثالاً، طبقاً للمعلومات التي نشرتها الأمم المتحدة، على أحدِ أعضاءِ التنظيم يُدعىَ (أبو بكر العراقى) وهو رجلُ أعمالٍ قام بتسجيلِ مجموعةٍ متنوعةٍ من الشركاتِ باستخدامِ هويات مزيفة في السودان وتركيا، يُديِرُ العديدَ من شركاتِ الصرافة والسياحةِ في تركيا ويَمتَلِكُ استثماراتٍ كبيرةً فى السودان، ويبدو أن هذه الشبكة أقربُ إلى تسهيل المعاملات المالية منها إلى مجموعة عملياتية نشطة. أما بالنسبة للنوعِ الثانى فإنه قد يقومُ مؤيدوا وأنصارُ التنظيمِ بجمع أموالٍ بشكلٍ فردىٍ عبر حملاتٍ للتبرعِ منسقةٍ ووهميةٍ وغالباً ما يعتمدوا على الميليشياتِ الإلكترونيةِ فى ذلك الغرض، ومثلما نوَّهتْ الباحثةُ خاصةً عندما تَحشدُ لتمويلِ هجومٍ إرهابيٍ بشكل مباشر أو عندما تستخدمُها المجموعةُ المركزية لنقلِ الأموالِ لأغراضٍ تشغيليةٍ.
مكتب الكرار”تسهيل المعاملات المالية”:
وعن ذِكْرِ الشبكاتِ المالية لابد من إفراد الدراسةِ الحديث عن الشبكاتِ التى تُسَهّلُ نقلَ الأموالِ بين مختلفِ المجموعاتِ التى أصبحت متطورةً بشكلٍ كبيرٍ، وعن مكتب “الكرار” فإنه يَقَعُ في الصومال ويمثلُ حلقةَ وصلٍ بين ولايات تنظيم داعش الواقعةِ فى أفريقيا من الشرقِ والغربِ والوسط والجنوبِ ، وأكّدَ البعضُ عن دَوْرِ المكتب المحورىِ فى تصديرِ نموذجِ أعمالِ الابتزازِ والضرائبِ الذى يتبناه التنظيمُ، وعن وظائفهِ ذكرت الباحثةُ أنه يَعْملُ كمركزٍ لوجستىٍ ومالىٍ للتنظيمِ، فضلاً عن قيامهِ بإنشاء استراتيجيةِ تمويلٍ للتنظيم في الفروع والجماعاتِ الفرعية، ويقوم بنشر المستشارين، ونقل الأموال بين المقرِّ المركزى للتنظيمِ والولاياتِ الفرعية . وعلى الرغمِ من محدوديةِ عمليات ولاية داعش فى الصومال وتَمتُّعِها بحضورٍ نسبىٍ فى البلاد، إلا أن الدورَ الذى لَعِبهُ التنظيمُ فى تمويلِ مكتب الكرار لا يمكنُ غَضُّ الطرفِ عنه، وتُوفّرُ ولاية داعش هناك أموالاً فائضةً لمجموعاتٍ أخرى من خلال مكتبِ الكرار يمكن إعادةُ توزيعِها ودعمُ أنشطِتها.
وقد لفتتْ الدراسة النظرَ إلى نقطةٍ محوريةٍ فى عمليةِ تدفقِ الأموالِ بين التنظيمِ المركزىِ والولايات فأشارت أنها لا تَسِيرُ فى اتجاهٍ واحدٍ حيث تشاركُ بعض الجماعاتِ جزءًا من أرباحِها في مكتب الكرار، إما كدفعة مقابل المشورة التى تلقتها أو كجزءٍ من جهدٍ مستمرٍ ومنسقٍ لتمويلِ المكتب، الأموال تتدفقُ جزئياً من الولايات إلى المركز. بعد ذلك، يتمُّ تحويلُ بعض الأموالِ كدفعةٍ إلى مكتبِ الكرار ومركز التنظيم. وعليه تساعد تلك العملية الكرار من تقديمِ الدعم المستمرِ للولايات، ودعمِ التنظيمِ في سوريا. وعلى الرغم من أن “مكتب الفرقان” فى نيجيريا لدية المزيد من الأموالِ تحت تصرفهِ إلا أن “مكتب الكرار” يلعبُ دوراً أكثر مركزيةً في تسهيلِ نقلِ الأموال عبر الشبكة، وقد ربطت الباحثةُ هذا الأمرُ بالشبكة الماليةِ التى طورَتْهَا الصومال بمرورِ الوقت والتى ساهمت فى نقلِ الأموال بسرعةٍ وبتكلفةٍ زهيدةٍ في جميع أنحاء العالم.
نهج العملات المشفرة:
طرحت الباحثة فكرةً مقرونةً باستحداثِ الجماعاتِ الإرهابية للعالم الرقمى فى أنشطتِهم وعالمِهم الإرهابىِ عبر استخدام تقنيات جديدة مثل “العملات المشفرة” من أجل نقل الأموال دولياً، حيث توجد المدفوعات في شكل إدخالاتٍ رقميةٍ إلى قاعدة بيانات إلكترونيةٍ لا يعتمدُ على البنوكِ المركزية للتحققِ من المعاملات. وبالحديث عن حالةِ الدراسةِ المعنية بتنظيمِ داعش فإنه يعتمدُ على العملاتِ المُشفّرةِ كآليةٍ لا غنى عنها بجانب الآليات التقليدية، وتَتّسِمُ العملات المشفرة بكونها أكثرَ جاذبيةً لنقلِ الأموال من الآليات الأخرى نظراً لأنها أسرعُ من الطرق التقليديةِ، وأقل احتمالاً للكشف عنها وتعطيلها، ويمكن إخفاءُ مصدرِ ووجهةِ الأموال. وكشفتْ الدراسةُ عن مصادر تتعاملُ بأنظمةِ الدفعِِ عبر الإنترنت والعملات المُشَفْرةِ يتمُّ من خلالها تلقى الجهاديين فى آسيا الوسطى على سبيلِ المثال للتبرعاتِ من شبكات الدعم مثل ”QIWI Wallet, Western Union, Ria“وغيرها من الآليات. فى حين تستخدم جزء من شبكة جنوب أفريقيا التى يسيطر عليها مكتب الكرار شركاتِ خدمات الأموال والبنوك والأموال عبر الهاتف المحمول وبعض معاملات العملات المشفرة لنقلِ الأموالِ على مستوى العالم.
تكشفُ الدراسةُ أن بعضَ ولايات داعش أكثر ميلاً إلى استخدامِ العملاتِ المشفرةِ من غيرِها، وفى مقدمتِهم “ولاية خراسان” التى استخدمت عملة ”Tether“ لتلقي الأموال، وتشيرُ الهجماتُ والاعتقالاتُ الأخيرةُ إلى استخدامٍ واسعِ النطاقِ للعملاتِ المُشفّرةِ من قِبَلِ الجماعةِ وأنصارِها، وذلك نظراً للقربِ من الهند وباكستان، وكلاهما من البلدانِ التى تتبنى العملاتِ المشفرةَ بدرجةٍ عاليةٍ جدًا. ومن ثم فاستخدامُ التنظيمِ للعملاتِ المشفرةِ يتمُّ فى إطارِ المناطقِ التي تسمحُ فيها الظروفُ المحليةُ وتتطلبُ الضغوطُ الأخرى تدابيرَ بديلةً من أجلُ التحويلاتِ الدولية، وإذا كان هناك بالفعلِ سوقٌ للعملاتِ المشفرة راسخٌ في بلد التشغيلِ الخاص بهم، وقطاعٌ متطورٌ للعملات المشفرة فى الدولة المعنية، وعليه فإنه لا تزال بعضُ الولاياتِ لديها حدٌّ أدنى من استخدام العملاتِ المُشفّرةِ فى دولٍ مثل نيجيريا وموزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية وذلك وفقاً للتقاريرِ التى ذكرتها الدراسةُ وتم نشرُها لتحليلِ معاملات ”Blockchain“.
تحدى مكافحة شبكات تنظيم داعش:
على الرغمِ من نجاحِ التحالف الدولى لمكافحةِ داعش من إلحاقِ الهزيمةِ العسكرية به، إلا أنه لم يستطعْ تقويضَ نفوذِ التنظيم وسعيَه المستمرَ فى إيجادِ بيئةٍ حاضنةٍ له وتطويرِ استراتيجيتهِ وآليات عمله، فأثبتت الممارسةُ العملية قدرةَ التنظيم على التكَيّفِ مع أزماتهِ وهزائمهِ، وعن مستقبله المالى فتوصلت الدراسةُ إلى أن التنظيمَ مترابطٌ ومرنٌ وقابلٌ للتكيفِ، ومن ثم فإن مكافحةَ تمويلهِ سوف تُشكّلُ تحدياً دولياً للتنسيق، وهو ما يتفاقمُ بسبب الانقسامِ بين القوى العظمى في بعضِ المؤسسات المعنيةِ بمكافحةِ الإرهابِ مثل: مجلس الأمنِ التابعِ للأممِ المتحدة، وفِرَقِ المراقبة المرتبطةِ به، وأسندت الباحثة هذا الخللَ إلى مجموعةٍ من العوامل يمكن الإشارةُ إليها فيما يلى:
أولًا:الجهودُ الحركيةُ لمكافحةِ الإرهابِ التي يَتمُّ تطبيقُها حالياً غير كافية لتعطيلِ السيطرة الإقليمية للولاياتِ الفرعية التابعةِ للدولة الإسلامية، وعليه فإنه بدون نهجٍ حركىٍ مستدامٍ وفَعّالٍ لمكافحة الإرهاب، فإن أنشطةَ الجماعة وشبكاتِها المدرةَ للدخل في فرض الضرائب والابتزازِ والتبرعات الوهمية ستظل قائمةً.
ثانيًا:عدمُ قدرة مكافحة تمويلِ الإرهاب (CTF) على تعطيلِ أنشطة تمويل الإرهاب من خلال التحقيقاتِ والاعتقالات لمموليِ الإرهاب والميسرين الماليين لتنظيمِ داعش، وهذا يَنْطَبِقُ على كلٍ من المناطقِ التى تعملُ فيها المجموعاتُ الفرعيةُ لتنظيمِ داعش بشكلٍ مباشرٍ، ومناطق دعمها خارجَ مناطقِ الصراع المباشرة.
ثالثًا: تَفْتقِرُ بعض الجهودِ إلى اللوائحِ التى تمنعُ تمويلَ الإرهاب فى القطاع المالى، كما هو الحال مع تنظيمِ العملات المشفرةِ، بمعنى آخر هناك نوعٌ من الافتقارِفى المراقبة المالية الذى أسْفَرَ عن وجودِ فجوات كبيرة في فهم شبكات التنظيم المالية. وهذا يعني أيضًا أن الميسرين الرئيسيين والقادةَ الماليين يعملون بحريةٍ، ويَحتَفِظُ العديدُ منهم بالقدرة على الوصولِ إلى النظام المالى العالمى.
رابعًا: تركيزُ جهودِ المكافحةِ فى المقامِ الأول على منع الهجماتِ الإرهابيةِ من أجل الحفاظِ على النظام الأساسيِ وسيادةِ القانون فى ظلِّ ما يعانيه عددٌ كبيرٌ من الدول من ضغوطٍ متصاعدةٍ وتهديداتٍ أمنيةٍ عنيفةٍ، دون فهم العلاقة بين التمويل والهجمات بشكلٍ كاملٍ، وتفشل في توفير الموارد وإعطاءِ الأولويةِ للتحقيقات المالية.
تأسيسًا لما تم عرضه فيما سبق؛
ساهمت مصادرُ تمويل التنظيمِ المتنوعة وشبكاتهِ التى تَتَّسِمُ بالتعقيدِ والتطور فى خلق بنيةٍ تحتيةٍ ماليةٍ قويةٍ للتنظيم يرتكز عليها فى تثبيت تواجدهِ عبر البيئات الخصبةِ التى تَمددَ بها خلال السنواتِ الماضيةِ لاسيما بعد سقوطِ الخلافة وما يتصلُ بها من جهود المكافحةِ، وقد ساعدت الدراسةُ على استنباطِ عددٍ من الملاحظات الهامةِ التى يمكن التطرق إليها فيما يلى :
الملاحظة الأولى:عَمِدَ التنظيمُ المركزىُ فى زيادةِ تمويلهِ لدعم عمليات وقدراتِ بعض الفروع الأضعف لاسيما التى تَفتقِرُ إلى عوائدَ محليةٍ من خلال تدفقات التمويل المحلى لفوائضِ مجموعاتٍ أخرى، وسعى التنظيم إلى تطبيق تلك الاستراتيجية “إعادة توزيع الأصول” فى جميعِ ولاياتهِ من أجل الحفاظِ على تماسك التنظيم.
الملاحظة الثانية: يَتّسمُ النظامُ المالىُ لتنظيم داعش بالتعقيد بحيث لا يسيرُ التدفقُ المالىُ بين التنظيمِ المركزىِ وفروعه فى اتجاهٍ واحدٍ إنما تَمُرُّ عمليةُ التحويلات المالية عبر دورةٍ ماليةٍ مركبةٍ ويدخل فيها مجموعةٌ من الشبكاتِ ومكاتبَ للتسهيلات المالية، فضلاً عن تميزِ الموارد المالية للتنظيم بالتعددِ فى أصولهِ وعدم تركزهِ فى دولةٍ واحدةٍ. خاصةً مع اتجاه استخدامِ العملات المشفرة.
الملاحظة الثالثة:أثبتَ تنظيمُ داعش قدرتَه على المرونةِ والتكيف وقدرتَه على البقاءِ والاستمرارِ، مع استحداث التقنياتِ المتطورةِ فى الحفاظِ على الشبكاتِ الماليةِ التى يمتلِكُها، وعلاقاته مع شبكاتِ التمويلِ الإقليميةِ أو الدولية فى إطار تبنى نوعٍ من التكنولوجيا المالية.
الملاحظة الرابعة: أثْبَتَتْ الممارسةُ أن جهودَ مكافحةِ تمويل تنظيمِ داعش تبدو فى حالةٍ من “الارتباك” فى ضوءِ عدمِ وجود رقابةٍ صارمةٍ وعدمِ وجود ضغوطٍ دوليةٍ لمكافحة الإرهاب على مستوى التمويل، لاسيما مع التطورِ التكنولوجى للمعاملات المالية وسهولة التنصلِ من معرفةِ وجهةِ تلك الأموال ومصدرِها بالنسبةِ لأجهزةِ إنفاذ القانونِ والأجهزةِ الأمنيةِ، مما يَزيدُ من صعوبةِ إيقافِ حركةِ تلك الأموال.
شبكاتُ التمويلِ الداعشية: