إعداد: رضوى الشريف
أثارت تحركات “المجلس الانتقالي” الأخيرة خشية الأطراف الأخرى في اليمن، وذلك بعد أن أعلن رئيس المجلس، عيدروس الزبيدي، إعادة تشكيل هيئة رئاسة الانتقالي على نحو أشبه بالتمهيد لإعلان فصل جنوب اليمن عن شماله. وجاء ذلك خلال لقاء دعا إليه، عيدروس الزبيدي، في شهر مايو الماضي، عددًا مِن الشَّخصيات والمكوِّنات السياسية الجنوبية إلى ما اعتبره العديد من اليمنيين حوارًا “جنوبي- جنوبي”، ثمَّ عدل عنه فيما بعد إلى تسميته “اللِّقاء التَّشاوري الجنوبي”. وكان مِن الأهداف المعلنة للِّقاء: التوافق على ميثاق شرف للقوى السياسية الجنوبية، والخروج برؤية موحَّدة بشأن المشاركة بفريق واحد في مفاوضات الحل الشامل في اليمن، تحت قيادة المجلس الانتقالي.
وقد جاء الحديث عن هذا اللقاء متزامنًا مع الإعلان عن إعادة هيكلة “المجلس الانتقالي”، بما يشير إلى محاولة استيعاب مكوِّنات جنوبية جديدة، في ظلِّ التأكيد على أنَّ “المجلس الانتقالي” الجنوبي ليس “حزبًا سياسيًّا، بل هو كيان جامع لكلِّ الجنوبيين، وسيستوعب ما يمكن استيعابه مِنهم، بمختلف توجُّهاتهم.
يجدر بالذكر أن أغلب المكونات المؤثِّرة في المحافظات الجنوبية والشرقية قابلت تلك الدعوة بالرفض، باستثناء عدد محدود مِن الأفراد والكيانات، بما أظهره وكأنَّه حوار “انتقالي- انتقالي”. وبعد التوقيع على ما سُمِّي بـ”الميثاق الوطني الجنوبي”، أصدر الزُّبيدي، عددًا مِن القرارات بهدف إعادة هيكلة المجلس، كان أبرزها تعيين عضوين جنوبيين مِن مجلس القيادة الرئاسي نائبين له، الأمر الذي غير الانطباع العام عن اللقاء التشاوري، وزاد مِن هواجس المتمسِّكين بخيار الوحدة اليمنية مِن وقوف دول إقليمية خلف تلك القرارات والقبول بها، وأنَّها ترتِّب لمسار خطير يستهدف وحدة واستقرار اليمن.
فما دوافع تحركات المجلس الانتقالي وما دلالاتها؟ وما هو الأثر الذي يتركه على فرص السلام والاستقرار في اليمن؟
دوافع التحرك
أصدر الزُّبيدي، في أغسطس الماضي، قرارًا بتشكيل فريقين لما أسماه “الحوار الوطني الجنوبي، وفي رسالة ذات مغزى تمَّ تحديد موعد اللِّقاء في 4 مايو الماضي، وهو اليوم الذي صادف ذكرى تشكيل “المجلس الانتقالي” الجنوبي. وفضلًا عن الأهداف المعلنة، سعى “الانتقالي” إلى تحقيق عدد مِن الأهداف المضمرة، ومِنها: استقطاب شخصيَّات وقوى سياسية جنوبية جديدة ووضعها تحت نفوذه المباشر، ومحاولة الحصول على تفويض له ليكون الممثِّل الوحيد للمحافظات الجنوبية في المفاوضات التي مِن المحتمل إجراءها مع جماعة الحوثي في المرحلة القادمة، بما يمكنه من فرض سيناريو الانفصال.
وبالرغم من أن إجراءات اللقاء التشاوري كانت متواضعة وشبيهة بفعاليات الحوارات السابقة التي دعا اليها “الانتقالي”، إلا أن الأمر تغيَّر بعد أن أصدر الزُّبيدي قرارات تستهدف إعادة هيكلة قيادة المجلس، كان أبرزها تعيين عبدالرحمن المحرمي، عضو مجلس القيادة الرئاسي وقائد قوات العمالقة، وفرج البحسني، عضو مجلس القيادة الرئاسي، فضلًا عن أحمد بن بريك نوَّابًا لرئيس المجلس. ومثل هذا القرار يعدُّ اختراقًا وازنًا للشرعية، فإلى جانب إضافة عضوين في مجلس القيادة الرئاسي إلى عضوية “الانتقالي”، فهو يعني أيضا إلحاق قوات العمالقة بالمجلس، وإحداث اختراق في الموقف الحضرمي الرافض لمساعي “الانتقالي” للسيطرة على المحافظات الجنوبية، كما أنَّه يؤشِّر لإمكانية وجود مخطط يستهدف وحدة واستقرار اليمن.
كما أنَّه يستهدف تكبيل القوى الجنوبية بالمبادئ التي سيتضمَّنها ما أُطلِق عليه “الميثاق الوطني الجنوبي”، والتَّعبئة ضدَّ مَن يتبنَّى موقفًا معارضًا للانفصال، أو يسعى لترتيب وضع سياسي لمحافظات أو مناطق معيَّنة خارج التصوُّر الذي يتبنَّاه “الانتقالي” (كما هو حاصل في محافظات حضرموت والمهرة وسقطرى)، تحت دعاوى أنَّ ذلك الطرف خرج عن مبادئ الميثاق وإجماع الجنوبيين.
رفض جنوبي واسع
أبدت القوى السياسية الجنوبية الفاعلة رفضها للمشاركة في اللقاء التشاوري الذي دعا إليه رئيس الانتقالي الجنوبي في ذلك الوقت. وكان مِن الملاحظ أنَّ مستوى الرَّفض كان أكثر في المحافظات الشرقية ومحافظة أبين؛ إذ رفضت جميع الشخصيات التي تتولَّى مواقع قيادية في الدولة (قبل أن يتغيَّر موقف أفراد مِنهم)، وفي السلطة المحلِّية، والمكوِّنات السياسية والمجتمعية (مؤتمر حضرموت الجامع، ومرجعية قبائل حضرموت، والنخبة الحضرمية.. وغيرهم)، والأحزاب السياسية في حضرموت، المشاركة في هذا اللقاء، وحدث ذات الأمر تقريبًا في محافظات: أبين وشبوة والمهرة. بينما اقتصر الحضور على المحسوبين على “المجلس الانتقالي” في تلك المحافظات، ولم يشارك في اللِّقاء سوى محافظ المهرة السابق، راجح باكريت، ورئيس المكتب السياسي للحراك الثوري الجنوبي، فادي باعوم.
هذه المقاطعة الواسعة لحضور اللِّقاء التشاوري، والتي أظهرته كحوار “انتقالي- انتقالي”، كانت لها أسباب عدَّة لدى الأطراف الجنوبية المختلفة.
لماذا رفضت القوى الجنوبية المشاركة؟
أسهمت عدة عوامل في رفض القوى الجنوبية المشاركة في اللقاء التشاوري، من ذلك
- طبيعة المجلس الانتقالي: فالمجلس وإن ضمَّ في قياداته وأعضائه أفرادًا من مناطق مختلفة، مِن المحافظات الجنوبية والشرقية، فإنَّ معظم تركيبته تنحدر مما يُطلق عليه بـ”المثلث”، أي: الضالع، ويافع، وردفان، وبشكل أكبر مِن الضالع، وهي المحافظة التي تسيطر على المواقع المهمَّة في المجلس، وهو غالبًا ما يُمثِّل هذه المنطقة، ويتحرَّك لتأمين مصالحها.
وتظهر قضية التمثيل في مواقف كثيرة، كان آخرها تحرير “العميد “فيصل رجب” الذي ينحدر مِن محافظة أبين، فعلى الأرجح أنَّ “الانتقالي” لم يدرج اسمه ضمن كشوفات التبادل، على نحو ما فعل مع العميد محمود الصبيحي، وزير الدفاع الأسبق، ومع أقارب العميد طارق محمد صالح، وهذا الأمر استثار أبناء محافظة أبين فتحرَّك بعض رجال قبائلها إلى صنعاء، وجرى إطلاقه مِن قبضة جماعة الحوثي. فقد كان الشعور لديهم أنَّ الانتقالي لا يمثلِّهم، ولا يتحرَّك لأجل مصالحهم. وقد حاول عيدروس الزُّبيدي التخفيف مِن الأمر بلقاء بعض أبناء محافظة أبين، في شهر أبريل الماضي، غير أنَّ ذلك لم يكن له أثر يذكر، وأكثر مِن ذلك فالكثير مِن أبين ينظرون إلى “الانتقالي” على أنَّه نسخة جديدة، وأكثر راديكالية لما عُرِف في الذَّاكرة الجنوبية بـ”الطُّغمة”، وهو مصطلح يشير إلى أبناء المثلَّث (الضالع، يافع، ردفان)، والذين هم على صراع مستمر مع ما عُرِف في الذَّاكرة الجنوبية أيضا بـ”الزُّمرة”، وهو مصطلح يشير إلى أبناء أبين وشبوة. وفي محافظة حضرموت، غالبًا ما يُنظر إلى “الانتقالي” على أنَّه مهدِّد لأمن حضرموت وسكونها، وممثِّل سيء لمنطقة “المثلث” التي تحرِّكها أطماع للسيطرة على المحافظة ذات الموارد الوفيرة والطَّبيعة المسالمة، والهوية المتمايزة والنزعة الاستقلالية.
- النزعة نحو الهيمنة: فقد أظهرت المرحلة السابقة إصرار “الانتقالي” على الهيمنة على المحافظات الجنوبية والشرقية، سواء مِن خلال العمل العسكري، أو مِن خلال الاستقطاب والضم، ولا تقتصر المخاوف مِن محاولاته للهيمنة فقط، وإنَّما مِن فرض تصوُّراته القائمة على المناطقية الضيقة، وتوظيف ما يملك مِن قوَّة لتصفية حساباته مع الأطراف التي كانت معه على خصومة، لأسباب تاريخية وسياسية وجغرافية.
- المخاوف من فرض رؤيته السياسية: تمتلك القوى الجنوبية رؤى وتصوُّرات مختلفة حول الجنوب، ففيما يتبنَّى “الانتقالي” الانفصال، تتمسَّك قوى أخرى بالوحدة، وتؤمن قوى ثالثة بحقِّ مناطق جنوبية بالبقاء في الوحدة أو الاستقلال عن الجميع، ومِن ذلك عدد مِن القوى التي تؤمن بحقِّ حضرموت، أو المهرة وسقطرى، في الاستقلال. هذا التنوُّع في الرُّؤى يمنع تلك الأطراف مِن المشاركة في حوار لا تتوافر له شروط الندِّية والمساومة.
ما هو الأثر المتروك على فرص السلام والاستقرار في اليمن؟
جاءت دعوة “الانتقالي” للِّقاء التشاوري ضمن نهج عام يصرُّ على تنفيذ الأجندة الخاصة بالمجلس، مِن خلال تبنِّي موقف مغاير لسياسات مجلس القيادة الرئاسي وأولوياته في هذه المرحلة الحساسة، ومِن ذلك رفضه التَّوافقات حول وثيقة الإطار العام للرؤية السياسية لعملية السلام الشاملة خلال الفترة المقبلة، والتي كانت هيئة المصالحة والتشاور المساندة لمجلس القيادة قد توافقت عليها، في مارس الماضي، فبعد أن جرى إقرارها عاد رئيس الهيئة، الذي ينتمي لـ”الانتقالي”، للقول: بأنَّها ليست سوى مسودَّات ومقترحات، ولم يتم إقرارها، وليس لها أساس مِن الصحَّة. ومِن ذلك إعاقته لعمل اللجنة العسكرية والأمنية المعنية بتوحيد التشكيلات العسكرية ووحدات الجيش الوطني، ممَّا اضطرَّ رئيس مجلس القيادة الرئاسي لإصدار قرار بتشكيل هيئة العمليات المشتركة في عدن تحت قيادة وزارة الدِّفاع، لتكون بديلًا مؤقَّتًا ريثما يتمُّ توحيد الجيش وأجهزة الأمن.
ومِن المتوقَّع أن يترتَّب على هذا الحدث، وما لحقه مِن مواقف، التداعيات التالية
1- تزايد التهديدات الجدية لوحدة اليمن: فقد مثَّل سلوك “الانتقالي” على الدوام مهدِّدًا لوحدة اليمن وتماسكه السياسي والاجتماعي، وقد وصل هذا التهديد إلى أعلى مستوياته بتتابع الاستعدادات النظرية والعملية للانفصال، خاصة بعد انضمام عضوين مِن مجلس القيادة الرئاسي له، أحدهما يقود قوَّات عسكرية ضاربة.
2- إرباك -وربَّما- تفكُّك مجلس القيادة الرئاسي: مما لا شكَّ فيه أن القرارات التي أعلنها “الزبيدي” سيكون لها أثر كبير في إثارة الشكوك والمخاوف بين المكوِّنات التي تقف خلف مجلس القيادة الرئاسي، وقد تمثِّل ضربة قاصمة له، وتدفع عددًا مِن الأطراف إلى إعادة ترتيب أولوياتها، وربَّما تحالفاتها.
3- تقويض فرص السلام: فإضعاف مجلس القيادة الرئاسي مِن شأنه أن يعمِّق الاختلال في توازن القوى لصالح جماعة الحوثي، وقد يدفع الحوثيين إلى رفع سقف اشتراطاتهم، ويمنع انخراطهم الجدِّي في مباحثات السلام، ويسهم في تقويض فرص السلام المحدودة المتوافرة حاليًا.