يُمثِّلُ الفردُ اللبنةَ الأساسيةَ في بناء الدولة واستقرارها، فهو الحامي لاستقلالها والمكوِّنُ الرئيسيُّ لكيانها، ووفقًا لنظرية العقد الاجتماعي، فإن الفرد يتنازل طواعيةً عن جزءٍ من حريته الشخصية لصالح الدولة، في إطار عقدٍ اجتماعيٍّ يضمن تحقيق المصلحة العامة؛ وتستند فكرة وجود الدولة إلى هذه القاعدة؛ مما يجعلها بمثابة ملكيةٍ جماعيةٍ لجميع الأفراد.
انطلاقًا من هذه المكانة المحورية، يتحتم على الفرد أن ينهض بذاته ثقافيًا وعلميًا؛ كي يُصبحَ قادرًا على إدارة هذه الملكية المشتركة (أي الدولة) إدارةً رشيدة، أو ليتمكَّن من اختيار من ينوب عنه في إدارتها بشكلٍ فعَّال. لذا يجب أن يتمتع هذا النائب – أو النخبة الحاكمة – بالكفاءة والعلم والوعي الكافي لتحمُّل مسؤولية إدارة الدولة، مع القدرة على حماية كيانها وضمان استقرارها، وتحقيق طموحات أغلبية الشعب، وصون ثروات الوطن وتعظيمها؛ ويصون تجانسَ وحدتَه الاجتماعية، وذلك كله ضمانٌ لأمن الأفراد وحريتهم، وقدرتهم على العيش بحياةٍ كريمة.ٍ
بما أن الأفراد – أو من ينوب عنهم تمثيلًا للإرادة الشعبية – هم مصدرُ السلطات وواضعوا القوانين، فإن التشريعات التي تُنظِّم حياة الأفراد ومعاملاتهم اليومية والاقتصادية إنما تصدر في الأصل عن إرادتهم الشعب.
هذا المبدأُ هو ما أكَّد عليه الدستور المصري الصادر عام 2014، حيث رسَّخَ أن الشعب هو من يمنح الشرعية للدولة ويحميها، وهو من يختار من يُدير شؤونها، وهو مصدرُ السلطة التشريعية التي تضع القوانين المنظّمة للحريات والملكيات، والضامنة للأمن في ربوع الوطن، بالإضافة إلى نواب الشعب هم من يحددوا السياسات العامة المحدّدة لجميع مناحي حياة الفرد، ومراقبةِ أداء الحكومة ومسائلتها.
وعليه، يمكن القول: “إذا صلَحَ الفردُ، صلَحَتِ الدولةُ”_ فإصلاح الدولة يبدأ من إصلاح الفرد، ولكي تكونَ الدولةُ قويةً _ لا بدَّ أن يكون أبناؤها أقوياء؛ ولا تقتصر القوة هنا على المعنى المادي للقوة البدنية والصحة الجسدية فحسب، بل تتعداها إلى القوة العلمية والمعرفية، التي تُحقِّقُ لمجتمعٍ بلا أمية، كما تشمل “القوة الثقافية” بمعناها الشامل والمتطور، والتي تعني إدراك الفرد لطبيعة نظام دولته وآليات إدارتها، ومعرفته التامة بالتحديات الخارجية التي تواجهها، لاسيَّما في محيطها الإقليمي بدول الجوار، هذه المعرفة ليست خيارًا ثقافيًا فحسب، بل هي واجبٌ وطنيٌ مُلزم لكل فرد.
انطلاقًا مما سبق، يتحتم على كل فردٍ تعزيزَ وعيه الثقافي والمعرفي بشكلٍ مكثّف وهادف، من خلال الاعتماد على القراءة الواعية للمصادر الرسمية الموثوقة، مع التنويع في هذه المصادر لضمان دقة المعلومات وصحّتها، والوصول إلى استنتاجاتٍ قائمةٍ على اليقين فيما يخص المعلومة ومصدرها، كما ينبغي له أن يتجنّب تمامًا الانسياق وراء ما يُنشر خارج إطار المؤسسات المعتمدة والرسمية.
إلى جانب ذلك، لا بدّ من أن يواجهَ الفرد تحدياته الداخلية المتعلقة باحتياجاته، كما عليه أن يتعامل بجدّيةٍ مع تحديات البيئة الدولية، عبر اعتماده على ذاته وتوجيه رغباته نحو ما يعود بالنفع عليه وعلى دولته، وهذا يتطلّبُ خلْقَ توازنٍ اجتماعيٍ يحمي المجتمع من الضغوط الخارجية، وذلك من خلال تحكيم العقل في إدارة الرغبات والاعتماد على مقومات المجتمع المحلي في تلبية الاحتياجات، بما يعزّز قوّة المجتمع وقدرتَه على مواجهة الضغوط الداخلية والخارجية، بمعنى آخر، أن يعتمدَ الفرد على إمكانيات دولته ويسعى إلى تنميتها، دون الركون إلى الاعتماد على المحيط الخارجي.
كما يجب أن تستندَ هذه المحددات إلى رفْضِ كلّ ما يتعارض مع هوية الوطن وقيمه وعاداته وتقاليده، لتكونَ تلك القواعدُ هي الإطارَ الحاكمَ الذي يضبط سلوك الفرد ويوجّهه، بما يتوافق مع ثوابت النظام السياسي. فالعادات والتقاليد التي ينشأ عليها الفرد داخل مجتمعه تمثّل ركيزةً أساسيةً للالتزام والانتماء، في حين يُعدّ الخروج عنها أو التقيّد بما يخالف الهوية الوطنية من أصعب الالتزامات التي قد يُطالب بها الفرد؛ وهكذا، يصبحُ الفردُ هو الذي يقرّ بالعادات والتقاليد وبضرورة الالتزام بها، كما أنه – من خلال مشاركته المجتمعية – يشارك في صياغة الكيفية التي يُدار بها النظامُ السياسيُ لشؤون الدولة.
لذا، يتوجّب علينا العمل على إحياء بناء الهوية الوطنية للدولة المصرية، من خلال تنمية ثقافة الفرد في جميع الجوانب؛ وذلك بتطويرِ وعيه المهني، وزيادة معرفتِه بالنظام السياسي، وتعزيز إدراكه للمحيط الإقليمي والدولي؛ على أن تستندَ هذه الجوانب الثقافية إلى أساسٍ متينٍ من الولاء والانتماء للدولة المصرية.
يُذكر أن دول العالم الثالث قد تعرضت هويتها للتفكّك والإضعاف، نتيجةً للاحتلال الذي سعى إلى عدم استقرار مجتمعاتها التي اتخذت من الأفكار المضلّلة مرجعيةً فكريةً، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع. هذه الأفكارُ تؤدي عادةً إلى تعزيز الهوية الإثنية على حساب الهوية الوطنية، وإعلاء الشعارات الفكرية والانتماءات الضيقة فوق الانتماء للدولة، كما أن المُحتلَ فرضَ على هذه الشعوب أنماطًا فكريةً مغايرةً لبيئتها الاجتماعية، وبعيدةً عن حلولها الذاتية، مما أفقدها القدرة على تشكيل هويةٍ موحدةٍ، وأصبحتْ عاجزةً عن إنتاج حلولٍ مجتمعيةٍ تلبّي احتياجات الأغلبية؛ وهذا ما تعرضت له مصر خلال ثلاثة آلاف عام من الاحتلالات المتعاقبة، حيث فقد الفرد تدريجيًا قدرته على بناء هويةٍ وطنيةٍ قادرةٍ على تشكيل هويةٍ حضاريةٍ متماسكة، وقادرةٍ على التصدي للتحديات المفروضة على الدولة.
إن تمسّك الفرد غير الواعي، والفقير في ثقافته المدنية، بالهويات الإثنية أو المصطنعة أو العقائدية المتطرفة، يؤدي حتمًا إلى انقسام المجتمع وتمزقه فكريًا، مما يخلقُ هوياتٍ متصارعةً تعجز عن حماية المجتمع أو الحفاظ على كيانه في مواجهة التحديات التي تتعرض لها الدولة؛ ذلك أن الإيمان بالهويات المصطنعة والولاء لها – كالأحزاب والنقابات المنغلقة، أو العقائد الدينية المتطرفة – يؤثر سلبًا على تماسك الهوية الوطنية، وهو أحدُ الآثار المدمرة لفرضِ أنظمةٍ اجتماعيةٍ بعيدةٍ عن الخصوصية الاجتماعية للدول، كما أن انتماء بعض الأفراد المطلق لهويتهم الإثنية – سواءً انتماءً قبليًا أو عائليًا أو عقائديًا متطرفًا – يفوق انتماءهم للدولة، يؤدي إلى تفكك النسيج المجتمعي، وإلى ضعْف الدولة داخليًا، وعدمِ تجانس هويتها الوطنية.
كما أن التشبث بالهويات الإثنية يؤدي في غالب الأحيان إلى صراعاتٍ حتميةٍ، حيث إن توظيف الهوية بهذا الشكل يُفضي إلى العنف، سواء كان عنفًا فكريًا يتمثّل في رفض الآخر والتمسك الحصري بالفكر والهوية الذاتية، أو عنفًا ماديًا يتجلّى في الصراع والاصطدام بين الهويات المتنافسة، إن هذا يمثّل أسوأ أشكال استخدام الهوية على الإطلاق، كما أن الفرد الذي يفتقر إلى هويةٍ واضحةٍ غالبًا ما ينتهي به المطاف إلى رفض الهوية الوطنية ذاتها، وهي الحالة التي أصابت شريحةً من أفراد المجتمع المصري، ولا سيَّما بين الشباب.
إن الهوية الوطنية تمثّل درعًا واقيًا للفرد والدولة من مخاطر الانقسام والتفكك، غير أن بعض أفراد المجتمع المصري يجهلون هويتهم الوطنية ولا يدركون أبعادها أو فوائدها، وقد جاء ذلك نتيجةً لطبيعة المجتمع المعاصر والعولمة الاقتصادية التي فرضتها الدول الاستعمارية، بهدف اختراق الفرد فكريًا عبر ربطه بالمنافع المادية والمكاسب الاقتصادية، دون اعتبارٍ للانتماء إلى الوطن أو الدولة، أو الالتفات إلى الجانب النفسي والروحي والعقائدي الذي يمنح الفرد استقراره وسلامه النفسي، من خلال انتمائه وولائه للدولة التي توفر له الأمن والأمان.
لذا ينبغي على الفرد، إلى جانب سعيه لتلبية احتياجاته المادية، أن يعمل على تحقيقِ سيرورتهِ النفسية المرتبطة بالأمن النفسي والتماسك المجتمعي، وتظلُ الهويةُ الوطنية هي الهويةَ الأمثلَ التي تربط الفرد بوطنه، بما توفره من أمانٍ نفسيٍ وفكريٍ، فضلًا عن الأمن المادي، غير أن سيرورة الفرد تتعاظم من خلال هويته الفكرية والنفسية أكثر مما تتعاظم من خلال تلبية احتياجاته المادية؛ فالهويةُ الوطنيةُ تقدم إضافةً حضاريةً وإبداعًا فكريًا، وهو ما يفرض على كل مواطنٍ مصريٍ واجبَ البحثِ عن هويته الوطنية في أعماق نفسه وفكره وقلبه، باعتبار ذلك الطريق نحو جمهوريةٍ جديدةٍ قادرةٍ على تلبية طموحات الأفراد وأحلامهم، بما يتوافق مع غالبية أفراد المجتمع المصري.
إن الفرد في الجمهورية الجديدة عليه أن يقدّمَ أولويته الأولى وهي الهوية الوطنية والاعتماد على الذات في التنمية الفكرية للفرد وترابطه المجتمعي، لخلْقِ فكرٍ متجانسٍ قادرٍ على مواجهة التحديات الدولية؛ وذلك من خلال بناء هويةٍ وطنيةٍ قادرة على تحقيق التنمية وتلبية مصلحة الفرد عبر تحقيق مصلحة المجتمع ككل؛ هذا هو الطريق إلى الجمهورية الجديدة، حيث تكونُ الهويةُ الوطنيةُ للفرد هي أساسَ الدولة، مما يمكننا من التصدي للضغوط التي تفرضها الدول الكبرى.
إن الدولَ المنغمسة بالعولمةَ معرضةٌ للاختراقِ في محوِ هويتهِم من أجلِ السيطرةِ على ثرواتِهم مستغلينَ الجهلَ وفقدانَ الثقافةِ والهويةِ للوصولِ الى مصالحهِم عن طريقِ سلبِ ثرواتِ الدولِ الجاهلةِ التي بلا هويةٍ _ فيقول “كار بوبر” إذا أردتَ أن تقتلَ دولةً فأنزعْ منها هويتهَا _ فإن الهويةَ هي قلبُ الدولةِ”_ كما يقولُ بوبر “ إن حريةَ الدولةِ هي واهبةُ حريةِ الفرد” _ وأن من يحميِ الدولةَ من الداخلِ هي الهويةُ الوطنيةُ ومنها تستمدُ الدولةُ حريتهَا وقوتهَا وقدرتهَا على التصدي لكلِ التحدياتِ الدوليةِ والداخليةِ، تلك هي مميزاتُ الهويةِ الوطنيةِ المفتقدةُ.
إن الهويةَ الوطنيةَ هي القادرةُ على بناءِ التنميةِ المتوافقِ عليها أفرادُها _ وإن الهويةَ الوطنيةَ هي القادرةُ على بناءِ الحضارةِ _ وذلك من خلالِ الولاءِ والانتماءِ للدولةِ، فتكونُ مصلحةُ الفردِ هي مصلحةَ الدولةِ اولاً، ذلك ما تقدمهُ الهويةُ الوطنيةُ، ترتقي بالفردِ وبتراجعِ الذاتيةِ و تتعاظمُ فيه روحُ الدولةِ، فيضعُ أهدافَه ومصالحَه من خلالِ مصلحة بناءِ الدولةِ وتعظيمِ قدراتهِا وقوتهِا؛ لذا فإن الهويةَ الوطنيةَ التي تتكونُ من خلالِ إرادةِ الأفرادِ هي صانعةُ الهويةِ الوطنيةِ التي تكونُ قادرةً على بناءِ حضارةِ الدولِ.
تشهد مصر في هذه الأيام استحقاقًا انتخابيًا بالغ الأهمية، يتمثّل في انتخاب أعضاء مجلس النواب، حيث تُعَدُّ المشاركةُ الانتخابيةُ مقياسًا حقيقيًا لدرجة وعي المواطن، حيث تُجسّد إدراكه لدوره في صُنعِ القرار السياسي، كما تُبرِز هذه المشاركة قدرة أفراد المجتمع على توجيه النظام السياسي لتحقيق طموحاتهم وتطلعاتهم، وهو ما ينعكس إيجابًا على تحقيق الاستقرار السياسي ومن ثمّ استقرار الدولة ككل.
ويُمثِّل هذا الاستقرارُ حجرَ الزاوية لجذْب المزيد من الاستثمارات، سواء كانت محليةً أو إقليميةً أو دوليةً. وعليه، تُعَدُّ المشاركة الانتخابية الفاعلة أحد المؤشرات الأساسية المعززة لمسار التنمية الشاملة في الدولة. لذلك، إذا كان الفرد يطمح إلى الإسهام في دفْع عجلة التنمية بمصر، فإن واجبه الوطني يقتضي المشاركة الإيجابية في هذا الاستحقاق الانتخابي؛ فإن بدايةَ التنمية بالدولة تبتدأ بالاستقرار السياسي، حيث تمثّل المشاركة الانتخابية للأفراد في اختيار نوابهم؛ ما هي إلا الصخرةُ الأولى لبناء الهوية الوطنية، القادرةُ على التصدي للتحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها الدولةُ المصريةُ، كما تُعد المشاركةُ الانتخابيةُ هي من أهمِ المؤشرات التي تدل على الاستقرار السياسي المؤدي إلى التنمية.
تسجيل الدخول
يجب أن تحتوي كلمة المرور على 8 أحرف على الأقل من الأرقام والحروف، وتحتوي على حرف كبير واحد على الأقل