إعداد: عنان عبد الناصر
شهدت مالي في الثامن عشر من يونيو 2023، استفتاء على مشروع الدستور الجديد، الذي وضعه المجلس العسكري الحاكم في البلاد، برئاسة الكولونيل عاصمي غويتا، وذلك في ضوء المسار الانتقالي الذي يفترض أن يقود باماكو إلى الانتخابات الرئاسية في 2024م؛ من أجل تشكيل سلطة تنفيذية مدنية، وقد طرح رئيس المجلس العسكري الحاكم “غويتا” مسودة الدستور الجديد للبلاد، خلال لقاء مع عدد من المدنيين والسياسيين والمجتمع المدني، وتم التأكيد على أن إقرار هذا الدستور الجديد سوف يشكل نقطة لانتقال السلطة في البلاد.
ملامح الدستور الجديد
شهدت مالي في عام 1974، أول استفتاء في البلاد على الدستور، الذي طرحه موسى ترواري، وقد كتب ذلك الدستور نهاية الجمهورية الأولى في مالي، وعزَّز الحكم العسكري في البلاد، واستمر حتى عام 1991م، عندما تم تدشين الجمهورية الثالثة، وهو ما أعقبه استفتاء على دستور 1992م، الذي تبنَّى التعددية السياسية، ووفقًا لذلك، تعكس ملامح الدستور الجديد إعادة إحياء لكثير من نصوص دستور 1974م، وقد تمثل ذلك في مجموعة من النصوص الهامة، التي يمكن إيضاحها فيما يلي:
- توسيع صلاحيات الرئيس ومنحه سلطة تحديد سياسة الأمة، والتي كانت مخولة سابقًا لرئيس الوزراء.
- منح الدستور الرئيس، حق تعيين رئيس الحكومة ووزرائه، وجعلهم مسؤولين أمامه بدلًا من مسؤوليتهم السابقة أمام الجمعية الوطنية.
- التأكيد على وحدة الدولة المالية، وسيادة الطابع العلماني لها، فضلًا عن إنشاء مجلس أعلى للأمة يعادل مجلس الشيوخ.
- نص الدستور على أن اللغات الوطنية هي اللغات الرسمية والفرنسية هي لغة العمل، ويجوز للدولة أن تعتمد أي لغة لتكون لغة العمل.
- يمنح الدستور حق اقتراح القوانين للرئيس ضمن اختصاصاته.
- لا يسمح للرئيس بالترشح بعد حكم فترتيْن تحت أي ظرف.
الموقف الداخلي من عملية الاستفتاء
تعهد المجلس العسكري الحاكم في مالي، بإجراء استفتاء على دستور جديد؛ تمهيدًا لإجراء الانتخابات الرئاسية، ومن ثمَّ إنهاء المرحلة الانتقالية في البلاد، وقد أثارت عملية الاستفتاء على الدستور انقسامات داخلية عميقة، فقد أعلنت الهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات في مالي، في 23 يونيو 2023م، أن نسبة التصويت على مشروع الدستور بلغت ما يقرب من 39.5%، وأن 97% من الناخبين صوتوا لصالح المشروع الذي طرحه المجلس العسكري الحاكم، والجدير بالذكر، أنه بموجب الدستور الجديد، سيتم تأسيس غرفة برلمانية ثانية بجانب الغرفة الأولى (الجمعية الوطنية)، فضلًا عن التأكيد على فكرة علمانية الدولة في مالي، ومن ثم الدفع نحو إنشاء محكمة جديدة منفصلة مسؤولة عن مراجعة حسابات الحكومة.
إن نسبة المشاركة في عملية الاستفتاء على الدستور متدنية للغاية، فقد شهد ذلك الاستفتاء مقاطعة واسعة، خاصة في شمال ووسط مالي، ربما يعود ذلك إلى خوف البعض من الهجمات الإرهابية المتزايدة في تلك المناطق، أو نتيجة للخلاف بين الحكومة المركزية وحركات الأزواد التي سيطرت على شمال البلاد؛ ونتيجة لذلك اقتصرت عملية الاقتراع في الشمال على عواصم المناطق الرئيسية؛ مثل “غاو، وتمبكتو، وميناكا”؛ نظرًا لأن حركات الأزواد وقعت اتفاق سلام مع الجزائر في عام 2015، بمنع إجراء عملية الاقتراع في شمال البلاد؛ لاعتبار أن ذلك الاستفتاء لا يدعم اتفاق السلام الموقع مع السلطات المالية، وقد انضمت المنظمات الدينية في مالي إلى معارضة الاستفتاء؛ احتجاجًا على النص الخاص بعلمانية الدولة، ولعل من أبرزها حزب المؤتمر الوطني للتضامن في أفريقيا، وحزب النهضة الدولية وحزب التضامن الأفريقي من أجل الديمقراطية والاستقلال.
أشار رئيس الهيئة المستقلة لإدارة الانتخابات، مصطفى سيسي، أن عملية الاستفتاء جرت في كافة مراكز الاقتراع في البلاد باستثناء ما يقرب من 1121 مركزًا، وهو ما يتناقض مع تقارير هيئات الرقابة على الانتخابات، التي اعتمدها من قِبَلِ السلطات والتي أوضحت أن الأرقام الحقيقية أقل من ذلك بكثير، وما يؤكد ذلك الرأي أن السلطات فشلت في إجراء الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد في جميع أنحاء البلاد، خاصة وأن دستور مالي السابق لعام 1992م، ينص في مادتيه (26- 118) على ضرورة إجراء عملية الاستفتاء في كافة أنحاء البلاد؛ لكي يصبح الاستفتاء صحيحًا.
وقد ردت السلطات على ذلك، من خلال التأكيد على أن دستور عام 1992م تم تعطيله من قِبَلِ المجلس العسكري الحاكم في البلاد، بعد الانقلاب في عام 2021م؛ ما يعني عدم الحاجة إلى الالتزام بنصوصه فيما يتعلق بعملية الاستفتاء على الدستور الجديد.
الموقف الدولي من عملية الاستفتاء
شهدت عملية الاستفتاء على الدستور قبولًا ودعمًا من قِبَلِ منظمة الأمم المتحدة والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس)، ووجدت أنها خطوة هامة تمهد لإنهاء المرحلة الانتقالية، وتشكيل حكومة مدنية، والجدير بالذكر، أن عملية الاستفتاء على الدستور تزامنت مع تصاعد التوترات بين السلطات في باماكو والأمم المتحدة؛ جرَّاء التقرير الذي نشرته في نهاية مايو 2023م، فيما يخص الانتهاكات التي شهدتها مالي، خلال عام 2022 م.
وقد اتهم التقرير السلطات المالية بإعدام أكثر من 500 شخص، بمشاركة قوات فاجنر الروسية؛ ما دفع باماكو لمطالبة بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، بمغادرة باماكو، وذلك قبل يوم من الاستفتاء الأخير على مشروع الدستور؛ بدعوى فشلها في الاستجابة للتحديات الأمنية المتزايدة في مالي، وقد انخرطت بعثة مينوسما في مالي 2013؛ للمشاركة في مكافحة المجموعات المسلحة هناك، والتي انتهى تفويضها بالفعل في نهاية يونيو 2023م.
الإجراءات السياسية والمؤسسية المرتقبة في أعقاب الاستفتاء الدستوري
في أعقاب الاستفتاء الدستوري الذي شهدته الدولة في مالي، سيكون هناك مجموعة من الإجراءات المرتقبة على الصعيد السياسي والمؤسسي، فمالي بحاجة إلى نظام مبني حول المؤسسات وليس نظامًا مبنيًّا حول شخص بعينه، فعلى صعيد السلطة العسكرية، يفترض أن تكفل الدولة للقوات المسلحة وقوات الأمن القدرات اللازمة لأداء مهامها؛ لكي تتمكن من مواجهة كافة أشكال العنف، بجانب إنشاء مجلس الشيوخ، بالإضافة إلى الجمعية الوطنية القائمة، وإنشاء مجلس لمراجعي الحسابات تكمن سلطاته في مراجعة حسابات الأموال العامة، وقد يساعد هذا في تحسين الحوكمة.
اضطرابات محتملة للأوضاع في مالي
عودة الحركات الانفصالية: قد تشهد الفترة المقبلة تكرارًا لمساعي الانفصاليين للاستقلال بشمال مالي، ومن ثم تشكيل دولة للطوارق، والجدير بالذكر، أن هذه المخاوف قد تُعزِّزُ نتيجة لخروج القوات الفرنسة من مالي، فضلًا عن الخلافات الأخيرة التي نشبت بين روسيا ورئيس مجموعة فاجنر، ربما يكون لها تداعيات سلبية على نفوذ الأخيرة في أفريقيا، ولا سيما مالي، وذلك في ظل اتجاه السلطات الانتقالية في باماكو للاستعانة بالشركة الروسية؛ لدعمها في مواجهة التهديدات الإرهابية، ومن ثم قد تكون هذه المعطيات عاملًا مُحفِّزًا للانفصاليين؛ لإعادة تكرار محاولاتهم الانفصالية السابقة.
تفاقم محتمل للاضطرابات: من المحتمل أن تشهد مالي اضطرابات أمنية في شمال البلاد، خلال الفترات المقبلة؛ نتيجة لتمسك الجماعات المسلحة برفض نتائج الاستفتاء على الدستور الجديد، بالإضافة إلى رفضها فكرة رحيل بعثة مينوسما من مالي، فقد رأت هذه الجماعات المسلحة أن خروج القوات الأممية يعني تقويضًا لاتفاق السلام، ومن ثم سوف تتصاعد التوترات في شمال مالي؛ ما يرجح عودة القتال الداخلي من جديد.
مستقبل بعثة مينوسما: أصدر مجلس الأمن الدولي قرارًا في الموافق من 30 يونيو 2023، أنهى بموجبه مهام بعثة مينوسما، الأمر الذي سبق وأن طالبت به باماكو، على أن تتم العملية خلال ستة أشهر، فضلًا عن إيقاف أنشطة جنود حفظ السلام، اعتبارًا من أول يوليو الجاري، وقد جاء التصويت بعد أسبوعيْن من وصف وزير الخارجية المالي، عبد الله أيوب، مهام البعثة بـ “أنها فاشلة”، طالبًا من مجلس الأمن إنهاءها على الفور.
تكريس الاستقطاب في باماكو: يحظى العسكريون في مالي بدعم شعبي لا يمكن إنكاره، بالرغم من إخفاقات المجلس في القضاء على الجماعات الإرهابية في شمال البلاد، وفي المقابل، جاءت معارضة الدستور الجديد من قِبَلِ الأحزاب السياسية القديمة والراسخة، فضلًا عن مجموعة من للأطراف غير المتجانسة.
ولذلك قد يكرس الدستور الجديد حالة الاستقطاب التي تشهدها البلاد، فقد أشار البعض أن الدستور الجديد أقام سلطة مركزية قوية على النقيض من دستور 1991م، والذي أسس لدولة مركزية ضعيفة، وعلى الصعيد الآخر، يرى البعض أن الدستور الجديد يستهدف في الأساس ترسيخ سلطة الجيش وليس الدولة.
ختامًا
يمكن القول: إن بين الأوضاع الأمنية المضطربة وغياب الثقة بين قيادة الانقلاب والأحزاب السياسية، وعدم اليقين الذي يعيشه الشعب في مالي لمجموعة من العوامل الداخلية والخارجية تتجاذب توجيه دفة البلاد، والعودة إلى الحياة الدستورية، وقد فاقم الدستور الجديد من حالة الاستقطاب داخل الدولة في مالي، وتحديدًا بعد تمسُّك باماكو بخروج البعثة الأممية من البلاد، والجدير بالذكر، أن مالي مقبلة على مشهد حرج، فيما يتعلق بعبور المرحلة الانتقالية ومواجهة استحقاق الاستفتاء بتحديات عديدة، بدءًا من توفر الموارد المالية وتحسُّن الأوضاع الأمنية وغير ذلك من متطلبات، ومن المحتمل حدوث اضطرابات أمنية واسعة، سواء من قِبَلِ تنظيميْ “القاعدة، وداعش” أو من جانب حركات الأزواد الانفصالية؛ ما يجعل كافة السيناريوهات مطروحة، بما في ذلك حدوث انقلاب عسكري جديد، أو تفكُّك الدولة.