بعد إعلان أنقرة التوصُّل لاتفاق مصالحةٍ بين الحكومة الصومالية والإثيوبية، ١١ ديسمبر ٢٠٢٤؛ من أجل حلِّ الخلاف العالق بينهما، على خلفية إقدام أديس أبابا على توقيع مذكرة تفاهم مع إقليم “صومالي لاند”، يناير الماضي، فإن ثمَّةَ تساؤلات يتمُّ طرْحُها في هذا الصدد، بشأن تأثير هذه المصالحة على الدولة المصرية، لا سيما وأنها مؤخرًا دعمت حكومة مقديشو، عبْر إرسال معدَّات عسكرية لأراضيها، فيما شكَّلت هذه الخطوة بارقة أملٍ نحْو الضغط على آبي أحمد؛ للتراجع عن مواقفه الأُحادية في الملف الإثيوبي، ولكن على ما يبدو أن الوساطة التركية عادت بجولة مفاوضات أُخرى؛ ستؤدي إلى بعثرة الأوراق من جديدٍ أمام القاهرة.
تأثير المصالحة بين الصومال وإثيوبيا على مصر:
قد يحمل التقارُب “الصومالي – الإثيوبي” المرتقب في طيَّاته عوامل دفْعٍ لمنطقة تعاني من التوترات وبؤرةٍ ملتهبة من الصراعات، ولكنه سيُعيد تشكيل الترتيبات المصرية في المنطقة من جديدْ؛ لأنه سيؤثر عليها في نواحٍ عِدَّة، في ظل حالةٍ من الضبابية وعدم اليقين، فيما يمكن أن يحدث خلال الفترة القادمة، ومن ثمَّ إعادة ترتيب الأوراق من جديدٍ؛ استباقًا لسياسة آبي أحمد المندفعة والهوجاء، والتي قد تؤثر على قناة السويس؛ حال نفاذه إلى البحر الأحمر، مثلما يفعل في السَّدِّ الإثيوبي؛ وبالتالي تضييق الحصار على مصر نهرًا وبحرًا.
إلا أنه وبالرغم من ذلك، فقد ظلت الحكومة المصرية تدعم خُطى الاستقرار والتنمية في القارة الأفريقية جمعاء، بل وشاركت الأفارقة في عمليات التنمية، وسعت لاحتواء أشقائها في أزماتهم المختلفة، عبْر تقديم كافَّة سُبُل الدعم؛ لهذا فإذا كان اتفاق المصالحة الذي توسَّطت فيه تركيا سيدفع نحْو الاستقرار والسلام؛ فمصر من أولى الدول التي ترحب بمثْل هذه الخطوة، ولكن دون أن يمسَّ ذلك الاتفاق بمصالح القاهرة أو التزاماتها السابقة مع مقديشو وغيرها.
وفيما يلي إجمالٌ لأبرز التحديات التي قد تواجه مصر خلال الفترة المقبلة:
على الصعيد السياسي والدبلوماسي
لقد ظلَّت مصر لسنوات تُوظِّفُ جهودها السياسية والدبلوماسية في القارة الأفريقية، سواء من خلال الوساطة في الأزمات أو دعم الأشقاء الأفارقة على مختلف الأصعدة عبْر سياسة الاحتواء؛ ما أسَّس لها قوة نفوذ لا يُستهان بها، حتى أصبحت شريكًا مقبولًا لدى الدول الأفريقية، وهو ما يؤكده الزيارات المتبادلة التي تمَّت بصيغةٍ تبادليةٍ بين مصر وبعض دول القارة مؤخرًا، مثل “مالي والكونغو الديمقراطية وأوغندا”، وغيرهم، وإعلان الإدارة المصرية، عزْمها نقْل خبراتها في مجال مكافحة الإرهاب لدولة كـ”مالي”، ومن هذا المنطلق، فقد يدفع التقارُب “الصومالي – الإثيوبي” إلى التأثير على نفوذ مصر في محيطها الإقليمي، ولكن ليس بالصورة المبالغ فيها؛ لأن الحضور المصري في أفريقيا لن يُطْمَسَ بهذه السهولة؛ استنادًا إلى تاريخها الحافل والذَّاخر بالإنجازات في القارة السمراء.
اقتصاديًّا
إن فرضية التقارُب الذي رعته الدولة التركية، قد يؤدي إلى ضياع بعض الفُرَص الاقتصادية والاستثمارية لمصر في المنطقة، بخاصةٍ مع الوجود التركي الذي بات يتوغل بقوة، في ظل سعْي الجانبيْن “المصري والصومالي”؛ لتعزيز التبادل التجاري والاستثماري، ورغبة مصر في توجيه استثماراتها للصومال – على وجه التحديد – في مجال إنشاء المدارس وقطاع الحاصلات الزراعية وإنشاء مجزر آلي ومركز تحاليل طبية، علاوةً على محطات لمعالجة المياه وشبكات لنقل وتوزيع الكهرباء، هذا بالإضافة إلى نواحٍ أُخرى متعددة؛ حيث قطاع الثروة الحيوانية والسمكية، وتكثيف التعاون في البِنْية التحتِيَّة، على رأسها النقل والطاقة المتجددة، ولقد كان خطُّ شركة مصر للطيران بين القاهرة ومقديشو، الذي تمَّ تدشينه مؤخرًا دليلًا على مدى الاهتمام الذي تُولِيه الدولة المصرية للتعاون مع الصومال في مختلف المجالات؛ لذا فالاتفاق الأخير مع إثيوبيا ربما يُحجِّمُ من هذا التعاون، ليس على الصعيد الصومالي فحسب، بل على الأغلب مع دولٍ أُخرى.[1]
أمنيًّا
بعد إقدام أديس أبابا على عقْد اتفاقية مع أرض الصومال، بات يُنظر لها لكونها مُهدِّدًا للأمن والاستقرار في المنطقة، ولكن بعد أن عادت للاتفاق مع حكومة مقديشو، ستتغير نظرة هذه الدول لإثيوبيا؛ حيث ستظهر الأخيرة بمظهر راعي الأمن والسِّلْم الذي غيَّر دفَّته من الاتفاق مع حكومة غير شرعية إلى التعاون مع الدولة الصومالية ذاتها، وفيما يتعلق بالتأثيرات الأمنية على مصر، فإن تواجُد إثيوبيا على سواحل الأحمر سيُمكِّنُها من الهيْمنة على مضيق باب المندب وخليج عدن، ومن ثمَّ، خنْق قناة السويس، أحد أهم مصادر الدخل القومي، وبهذه الطريقة تكون إثيوبيا قد تمكَّنت من حصار مصر من جهة النهر؛ حيث السَّدِّ الإثيوبي، ومن جهة البحر، فقد تنغمس في مؤامراتٍ ضد مصر ومناكفتها في هذه المنطقة الإستراتيجية.
ثمار يمكن أن تجنيها مصر:
تعاون ثلاثي
من بين التأثيرات المحتملة أيضًا، أن يكون هناك تعاونٌ بين مصر والصومال وإثيوبيا، يسعى من خلاله كُلُّ طَرَفٍ إلى الحفاظ على مصالحه، مع مراعاة مصالح الطرف الآخر، عندئذٍ يكون لأديس أبابا الحق في الحصول على قطعةٍ من ساحل البحر الأحمر، ولكن مع الوضع في الاعتبار، عدم تهديد الدولة المصرية من جهة البحر، وبطبيعة الحال التأثير على المِلَاحة في قناة السويس، التي تُعدُّ شريان التجارة بمصر؛ أمَّا عن السد الإثيوبي، فقد يكون هناك اتفاقٌ يضمن حقَّ مصر في مائية نهر النيل وعزوف سياسة آبي أحمد عن تعنُّتِها، وإن كان هذا الأمر مستبعدًا إلى حدٍّ كبيرٍ، إلا أنه لن يكون بمآل الاستحالة في عالمٍ تحكمه المصالح وتغيُّر الولاءات.
وفيما يخُصُّ حيثية هذا التعاون، ربما يتمُّ إيجاد صيغةٍ لإحداث تفاهمات بين الأطراف الثلاثة؛ من أجل تحقيق التكامل والاندماج الاقتصادي، ودحْر خطر التهديدات الإرهابية بالمنطقة، ومن ثمَّ، بعْث رسالةٍ جديدةٍ لاستقرار القرن الأفريقي، أمَّا عن تركيا فتُعدُّ شريكًا مقبولًا لدى الدول الثلاث؛ وعليه قد يكون هذا التعاون برعايةٍ تركيةٍ، خاصَّةً وأن هذا التحرُّك يُعدُّ نجاحًا لدبلوماسيتها الخارجية – على وجه التحديد – في القرن الأفريقي، الذي تسعى جاهدةً لترسيخ نفوذها فيه.
ختامًا:
ظلَّت السياسة الخارجية المصرية على مرِّ السنين يحكمها عدة ثوابت، من بينها تعزيز وتدعيم أواصر الاستقرار والأمن في المنطقة؛ لكوْن التوتُّر في القرن الأفريقي أحد مُهدِّدات الأمن القومي المصري، بل والعربي والدولي؛ وعليه فإن فرضية نجاح المصالحة “الصومالية – الإثيوبية” أو تعثُّرها لا يمكن الحُكْم عليها بشكلٍ قَطْعِيٍّ، ولكن حال نجاحها؛ فستؤثر على مصر بشكلٍ أو بآخرَ، وذلك الأمر يتطلَّبُ ضرورة التحرُّك عبْر خطواتٍ استباقية، تضمن بقاء النفوذ المصري في القارة الأفريقية – مثلما كانت – شريكًا مهمًا وحيويًّا على مرِّ السنين.
المصدر:
[1] محمد أسعد، وزير الاستثمار: العمل على زيادة حجم التبادل التجاري بين مصر والصومال، اليوم السابع، نوفمبر ٢٠٢٤، متاح على الرابط الآتي: https://n9.cl/g4wci
