يشهدُ العالمُ اليومَ تحولًا عميقًا في مفاهيم القوة الاقتصادية والتكنولوجية، حيث تزدادُ أهميةُ المعادنِ الأرضيةِ النادرةِ باعتبارها أساسَ الصناعاتِ المستقبليةِ من الرقائق الإلكترونية إلى البطاريات والطاقة المتجددة والدفاع الذكي. في هذا السياق، يتعمّق التنافس بين الولايات المتحدة والصين للسيطرة على سلاسل التوريد العالمية لتلك المعادن، حيث بات يُنظر إليها كأصلٍ استراتيجي.
وقد أظهرتْ الصين قدرةً استثنائيةً على الاحتكار والسيطرة على مراحل الإنتاج والتكرير، فيما تسعى واشنطن لتقليص اعتمادها عبر تنويع مصادرها، وتعزيزِ الشراكاتِ مع حلفاءٍ استراتيجيين، واستكشافِ آفاقٍ جديدةٍ في قاع المحيطات رغم التحديات القانونية والبيئية.
الهيمنةُ الصينيةُ:
استخدمت بكين قدرتها على التحكم في الإمدادات العالمية من المعادن الأرضية النادرة في الرد على إجراءات الولايات المتحدة في إطار الحرب التجارية، حيث فرضتْ بكين في وقتٍ سابقٍ من هذا الشهر قيودًا على تصدير سبعة عناصر أرضية نادرة تُستخدمُ في تقنياتِ الدفاعِ والطاقة والسيارات.[1]
تُهيمن الصين على نحو 70% من عمليات استخراج المعادن الأرضية النادرة عالميًا، وتُعالج ما يقرب من 90% منها، ما يمنحُها سيطرةً كبيرةً على مُدخلاتٍ حيويةٍ لسلاسل التوريد العالمية، وتكتسب هذه السيطرة أهميةً استراتيجيةً بالنظر إلى اعتماد الصناعات الأمريكية المتقدمة، من أشباه الموصّلات إلى الطائرات، على هذه الموارد. وبناءً عليه، فإن قدرةَ بكين على تعطيلِ تدفقاتِ هذه المعادن تُمثل تهديدًا مباشرًا لصناعة الدفاع الأمريكية، وقد تُعرقل طموحات إدارة ترمب في إعادة بناء القاعدة الصناعية الوطنية. ولهذا السبب، استثنت واشنطن المعادن الأرضية النادرة من الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات الصينية.[2]
سياساتٌ أمريكيةٌ جديدةٌ:
الولايات المتحدة تُعدّ ثاني أكبر منتجٍ للمعادن الأرضية النادرة عالميًا، وتمتلكُ سابعَ أكبر احتياطيات منها، فإن حجمَ إنتاجها لا يزالُ محدودًا مقارنةً بسيطرة الصين على هذا القطاع.[3] لذا حددت وزارة الدفاع الأمريكية هدفًا يتمثلُ في تطويرِ سلسلةِ توريدٍ متكاملةٍ للعناصر الأرضية النادرة، قادرة على تلبية جميع احتياجات الدفاع الأمريكية بحلول عام 2027، وذلك في استراتيجيتها الصناعية الدفاعية الوطنية لعام 2024. ومنذ عام 2020، خصصت وزارة الدفاع الأمريكية أكثر من 439 مليون دولار لبناءِ سلاسلَ توريدٍ محليةٍ ومنشآتٍ لمعالجة العناصر الأرضية النادرة الثقيلة، لكن بحلول الوقت الذي تصبحُ فيه هذه المنشآت جاهزةً للعمل، سيكون إنتاجُها أقل بكثير من إنتاج الصين، حيث لا تزالُ الولايات المتحدة بعيدةً كل البعد عن تحقيق هدف وزارة الدفاع الأمريكية المتمثل في توفير إمداد مستقل للعناصر الأرضية النادرة.[4]
وفي 20 مارس الماضي، أصدر ترمب أمرًا تنفيذيًا يهدفُ إلى تقويةِ القدراتِ الوطنيةِ في مجال إنتاج المعادن الأرضية النادرة، وينصّ الأمر على تسريع تطوير هذه الصناعة داخل الولايات المتحدة من خلال تبسيط إجراءات إصدار التصاريح، وتحفيز الاستثمار المحلي في الاستخراج والمعالجة، باعتبار ذلك عنصرًا أساسيًا في تعزيز الأمن القومي. ويأتي ذلك في وقت تستورد فيه الولايات المتحدة نحو 70% من المعادن الأرضية النادرة المستخدمة من الصين.[5]
وبدأت الولايات المتحدة بالفعلِ في إعادةِ بناء قدراتها الذاتية، لا سيَّما عبر مشروعِ MP Materials في كاليفورنيا، الذي يستخرجُ العناصرَ الأرضيةَ النادرةَ من منجمِ “ماونتن باس”. وقد حصل المشروع على دعم حكومي، وتخططُ الشركةُ لبناءِ منشآتٍ للمعالجة داخل الولايات المتحدة. إلا أن الطاقة الإنتاجية الحالية لا تغطي سوى جزء من الطلب المحلي، ولا تشملُ كلَ أنواعِ المعادن المطلوبة في الصناعات الحساسة. لذا فإن هذا الخيارَ يُعد الأساسَ الذي تبني عليه واشنطن استراتيجيتها، لكنه يحتاج إلى التكامل مع شراكات دولية وتكنولوجيات داعمة.[6]
اتفاقُ المعادن الأمريكي مع أوكرانيا:
أعلنت كييف الخميس 17 أبريل، توقيعَ “إعلان نوايا” مع الولاياتِ المتحدة يمهّد لاتفاق يتيح لواشنطن استخدام الموارد الطبيعية والمعادن النادرة في أوكرانيا. واتفاق أو مذكرة النوايا هي وثيقة غير ملزمة يتم توقيعها بين طرفين أو أكثر بهدف التعبير عن رغبتهم المشتركة في التعبير عن المبادئ الأساسية التي يُتوقعُ أن يتمَّ الاتفاقُ عليها في مرحلةٍ لاحقةٍ، وتتميز مذكرة النوايا بالمرونة، حيث يمكن تعديلها أو التراجع عنها بسهولة قبل الوصول إلى اتفاق نهائي، ولكنها في نفس الوقت تعكسُ الالتزامَ المعنويَ أو السياسيَ بين الأطراف المتعاقدة.
وذكرت الوزيرة الأوكرانية يوليا سفيريدنكو أن الإعلانَ يهدفُ إلى تأسيسِ شراكةٍ اقتصاديةٍ وصندوقٍ استثماريٍ لإعادة إعمار البلاد. ورغم غياب التفاصيل، أشارت سفيريدنكو إلى استمرار العمل نحو اتفاق نهائي يُسهم في جذْبِ الاستثمارات وتحديثِ البنيةِ التحتيةِ ودعمِ الاقتصادِ الأوكراني. وتعتبر واشنطن أن تعزيزَ مصالحِها الاقتصاديةِ في أوكرانيا يمكن أن يردعَ روسيا مستقبلاً، خاصة إذا تمَّ التوصّلُ إلى وقفٍ لإطلاق النار يتضمنُ ضماناتٍ أمنيةً لكييف.[7] وكان ترمب ذكر أن الولايات المتحدة وأوكرانيا ستوقعان اتفاقاً بشأن المعادن الحرجة الأسبوع الجاري.[8]
وتُظهر قائمةٌ تضم 50 معدنًا حيويًا، أعدتها هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، أن أكثرَ من اثني عشر معدنًا تعتمدُ عليها الولاياتُ المتحدةُ متوفرة بكثرة في أوكرانيا، مثل المنغنيز والتيتانيوم والجرافيت، ومع ذلك، فإن تلك المعادن ليست من المعادن الأرضية النادرة.
العناصر الأرضية النادرة مجموعة محددة من 17 عنصرًا كيميائيًا، وفي أواخر العام الماضي، صرّحَ رومان أوبيماخ، المديرُ العامُ السابق لهيئة المسح الجيولوجي الأوكرانية، أنه لا يوجدُ تقييمٌ حديثٌ للاحتياطياتِ، وتقول إيلي ساكلاتفالا، كبيرة محللي المعادن في شركة أرغوس البريطانية لاستشارات السلع أنه رغم امتلاك أوكرانيا لثروات معدنية متنوعة، إلا أنها لا تملكُ مواقعَ معادنَ أرضيةٍ نادرةٍ قابلةٍ للتطوير والتوسع، ويعود ذلك جزئيًا إلى أن قطاع التعدين أعطى الأولويةَ لثرواتٍ أخرى متاحةٍ فورًا ومربحة، مثل خام الحديد والفحم والتيتانيوم.[9]
إن استخراجَ المعادنِ الأوكرانية يتطلبُ استثماراتٍ، وخبراتٍ فنيةً، واعتباراتٍ بيئيةً، وبنيةً تحتيةً كالكهرباء وتكنولوجيا التعدين والمعالجة وطرق وسكك حديدية.[10] فالحرب مع روسيا عطّلت عمليات التعدين وألحقت أضرارًا بالبنية التحتية، وتركت العديد من رواسب أوكرانيا المعدنية غير مستكشفة.[11] وتراجعت الثقة بمناخ الأعمال، وحتى بعد انتهاء النزاع، فإن تطوير قطاع التعدين والمعالجة سيستغرق سنوات، وهو إطار زمني لا يتناسب مع الحاجة الأميركية العاجلة.
الشراكاتُ الدوليةُ و الحلولُ الممكنة:
1- الكونغو الديمقراطية – ثروات محاصرة بالمعوقات
تُعد الكونغو الديمقراطية من أغنى دول العالم بهذه الموارد، حيث تنتجُ نحو 70% من الكوبالت العالمي، فضلًا عن النحاس والليثيوم، وهي عناصرُ أساسيةٌ في صناعةِ البطاريات وتقنيات الطاقة النظيفة، وقد عرض رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية “فيليكس تشيسكيدي” عقْدَ شراكةٍ مع الولايات المتحدة، في شأن اتفاق للمعادن في مقابل الأمن.[12] لكن اتفاقاً من هذا القبيل يواجهُ صعوباتٍ، فالولايات المتحدة ليست لديها شركاتُ تعدينٍ تعملُ حاليا في أرض الكونغو، وإذا أرادت البدء من جديد فقد تحتاج إلى الكثير من الوقت لتجهيز الوسائل اللوجستية حتى تتمكن من دخول ميدان المنافسة، معظم المناجم الغنية المكتشفة في شرق الكونغو تم منحها مسبقا لشركات خصوصية تهيمنُ الصين على أغلبها، وإذا أرادت الولايات المتحدة الدخول في المنافسة قد يتعينُ عليها القيامُ بعملياتِ مسوحٍ واكتشافاتٍ جديدةٍ، وهو ما يتطلبُ الكثيرَ من الاستثمارات الضخمة التي لا تضمن نتائج كبيرة عند الوصول[13].
2- مبادراتٌ دوليةٌ واعدةٌ:
تسعى عدةُ دولٍ، من بينها أستراليا والبرازيل وجنوب إفريقيا والسعودية واليابان وفيتنام، إلى تطوير قدراتها في مجالات تعدين ومعالجة العناصر الأرضية النادرة. وتُعد هذه المبادراتُ أساسيةً لبناءِ بدائلَ موثوقةٍ لسلاسل التوريد العالمية، ما قد يجذب الدعم المالي والدبلوماسي الأميركي لضمان نجاحها، حيث تُركز أستراليا حاليًا على تطوير منجم “براونز رينج” ليصبحَ أولَ مصدرٍ كبيرٍ لعنصرِ الديسبروسيوم خارج الصين، بقدرة إنتاجية سنوية تُقدر بنحو 279 ألف كغ. ورغم أن شركة “ليناس” الأسترالية تُعدُ أكبرَ منتجٍ للعناصر الأرضية النادرة المفصولة خارج الصين، إلا أنها لا تزالُ ترسلُ خاماتهِا إلى الصين للتكرير. وبالتالي، من المرجّح أن يبقى الاعتماد الأسترالي على البنية التكريرية الصينية قائمًا حتى عام 2026 على الأقل، ما يبرزُ الحاجةَ إلى تسريع بناء قدرات المعالجة المستقلة في الدول الشريكة.[14]
3- مفارقةٌ جيوسياسيةٌ:
قال الكرملين إن روسيا مستعدةٌ للتعاون مع واشنطن في تطوير الموارد الأرضية النادرة التي تحتاجها الولايات المتحدة، مع بدء تحسّنِ العلاقاتِ بين الدولتين منذ تولي ترمب الرئاسة، وأشار بوتين إلى أن أي صفقة مع الولايات المتحدة يمكن أن تشملَ المعادن الموجودة في المناطق التي تحتلها روسيا في أوكرانيا.[15] بالتالي سترى أمريكا التعاون مشروط بتنازلات، ما يضعف فرص التعاون.
الخططُ الأمريكيةُ لاستغلال المعادن في قاع المحيط الهادئ
ذكرت صحيفة «فايننشيال تايمز» أن إدارة ترمب تعمل على صياغة أمر تنفيذي يسمح بتخزين المعادن الموجودة في قاع المحيط الهادئ لمواجهة هيمنة الصين على المعادن النادرة.[16]
لكن تواجهُ الولاياتُ المتحدةُ تحديًا قانونيًا كبيرًا في استغلال المعادن في قاع المحيط الهادئ، بسبب عدم مصادقتها على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. هذا يضعها في موقفٍ حيث لا تخضعُ للإشراف المباشر من السلطة الدولية لقاع البحار (ISA)، ولا تملك وضعًا قانونيًا يسمحُ لها بالتحكم أو استغلال الموارد دون إثارة اعتراضات دولية، حيث تُعتبر هذه المنطقة إرثًا مشتركًا للبشرية، مما يتطلب ترخيصًا من الهيئة الدولية لتنفيذ أي أنشطة تجارية.[17]
كذلك تواجهُ خططُ التعدين في قاع البحار معارضةً متناميةً من قِبلِ علماء البيئة ودول عديدة، نظرًا للمخاطر البيئية المحتملة، فقد دعت أكثر من 20 دولة، من بينها فرنسا وألمانيا، إلى فرْضِ حظرٍ أو تجميدٍ مؤقتٍ على أنشطة التعدين في أعماق البحار، حتى يتم التحقق بشكل دقيق من آثارها البيئية وتحديد المعايير التنظيمية اللازمة لحماية البيئة البحرية العالمية.[18]
ويعكسُ التحركُ نحو التعدين في قاع المحيط الهادئ، التوجّهَ الأميركي نحو عسكرة سلاسل التوريد وجعلها جزءًا من الأمن القومي، وهذا يضعُ الولايات المتحدة في منافسةٍ مع الصين، التي تسعى إلى تعزيزِ هيمنتِها على هذا المجال، وهو ما قد يدفعُ الصين لتعزيز حضورها البحري في المناطق المتنازع عليها، خاصة في بحر الصين الجنوبي والشرقي.
وبالتالي، لا تقتصرُ المساعي الأميركيةُ نحو استغلال معادن قاع المحيط على البُعد الاقتصادي فقط، بل تحملُ أبعادًا جيوسياسيةً معقدةً، مما يزيدُ من التوتراتِ والتنافس على النفوذ بين الولايات المتحدة والصين في منطقة استراتيجية.
تحدياتٌ متعددةٌ:
استنادًا إلى أحدثِ بياناتِ هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (USGS) لعام 2024، تتصدّر الصين قائمةَ الدول من حيث احتياطيات المعادن الأرضية النادرة بـ 44 مليون طن، تليها البرازيل (21 مليون طن)، ثم الهند (6.9 مليون طن)، وأستراليا (5.7 مليون طن)، وروسيا (3.8 مليون طن)، وفيتنام (3.5 مليون طن)، بينما تأتي الولايات المتحدة في المرتبة السابعة باحتياطي يقدر بـ 1.9 مليون طن فقط. [19]
يُظهر هذا التوزيع الجغرافي للمورد مدى صعوبةِ تحقيقِ اكتفاءٍ ذاتيٍ أميركيٍ عبر الإنتاج المحلي وحده، ويُبرز الحاجة الملحة إلى تنويع الشراكات الجيوسياسية مع دول موثوقة تمتلكُ احتياطياتٍ كبيرةً. كما يوضحُ محدوديةَ الرهان على دولٍ مثل أوكرانيا والكونغو الديمقراطية، حيث لا تزال احتياطياتهما غير مؤكدة بالكامل، ويعوق الاستثمار فيهما عوامل عدم الاستقرار السياسي، أو غياب البنية التحتية والمعالجة المتقدمة.
تكمنُ المعضلةُ الأعمقُ في أن الصين لا تهيمنُ فقط على مرحلة الاستخراج، بل تحتكر كذلك أكثر من 90% من عمليات فصل ومعالجة المعادن الأرضية النادرة عالميًا، وهي المرحلةُ الحاسمةُ التي تُمكّن من استخدامِ هذه المعادن في الصناعات الحيوية كالدفاع، وأشباه الموصلات، والتقنيات الخضراء. هذا الواقعُ يجعلُ أيَ تحركٍ أميركي نحو تنويع مصادر الاستخراج غير مكتمل ما لم يترافق مع بناء قدرة صناعية محلية أو شراكات دولية في مجال التكرير والمعالجة.
ختامًا:
باتَ الصراعُ على المعادنِ الأرضيةِ النادرةِ يتجاوزُ الجوانبَ التجاريةَ، ليصبحَ ساحةً جديدةً للتنافس الاستراتيجي بين القوى الكبرى، ويتداخل فيه عناصر الأمن القومي، بالتالي لم تعدْ الولاياتُ المتحدةُ قادرةً على تجاهلِ مركزية هذه الموارد في الحفاظ على تفوقها التكنولوجي وبالتالي الاقتصادي والعسكري، لذا يمثّلُ هذا الملفُ اختبارا وفرصةً لتأكيدِ وتقويةِ تحالفاتٍ بما يخدمُ أهدافَ الاستقلالِ في ملف المعادن.
