إعداد: أكرم السيد
تزخر الدولة السودانية بالعديد من النزاعات القبلية، هذه النزاعات لم تكن وليدة المرحلة الانتقالية المضطربة التى تعيشها البلاد فى الفترة الراهنة، بل كانت عاملًا من العوامل التى تزيد الوضع الانتقالى اضطرابًا، وتُعقِّدُ من إرساء السلام في الداخل السوداني كأولويةٍ انتقاليةٍ، وبالرجوع إلى الوراء، نلاحظ أن ثمَّة جذورًا تاريخيةً تقف وراء هذه النزاعات التى لا تهدأ حِدَّتُها، ولا ينقطع مداها، تأتى فى مقدمة هذه الجذور، أسباب معيشية، تدفع القبائل السودانية الممتدة شرقًا وغربًا، إلى الانخراط فى هذه النزاعات، وسرعان ما تتفاقم الأزمة، وتتحول من مجرد نزاعاتٍ نشأت لأسبابٍ معيشيةٍ إلى ثأْرٍ سياسىٍّ بين القبائل المتصارعة، وفى ظلِّ دولةٍ تعانى مؤسساتها المختلفة من إحكام قبضتها على سُدَّةِ الأمور، لا سيما القضايا الأمنية، فإن ثمَّة مسرحًا ملائمًا لتزايد النزاعات؛ ما يدفعنا -استنادًا على أسباب الأزمة وتحديات حلها- إلى الإشارة لبعض الحلول واجبة التنفيذ، والتى من شأنها، أن تحدَّ من هذا الوضع المتفاقم.
ليست وليدة اللحظة
إن جذور النزاع القبلى فى السودان -كما سبق الإشارة- يمتد لعقودٍ ماضيةٍ، وليس نتيجةً لوضعٍ انتقالىٍّ حالىٍّ، أو لفساد نظامٍ سياسىٍّ سابقٍ فحسب، بل إن هذه الأسباب ربما كانت من العوامل التى زادت من حِدَّة النزاعات القبلية، أو وفَّرت لها الأرض الخصبة كى تنمو، وليست هي منْشَؤُها فى الأساس.
ووفقًا لبعض المصادر التى تُؤرِّخ للنزاع القبلى فى السودان، فإن عام ١٩٣٢، يعتبر هو منبع الأزمة؛ حيث شهد هذا العام بداية النزاع القبلى للمرة الأولى، بين قبيلتى الزيادية والميدوب، ضد قبيلتي الكبابيش والكواهلة، في منطقة شمال دارفور، وتكرر هذا النزاع على مدار أعوامٍ أُخرى لاحقة، إلا أن ثمَّة مرحلةً فاصلةً فى تاريخ النزاع القبلى السوادنى قد تشكَّلت منذ عام ١٩٨٣، والذى يُعتبر بمثابة العام الذى شهد الصراع القبلى الحقيقى عما سبقه من أعوامٍ ماضيةٍ؛ حيث شهد عام ١٩٨٣، صراعات بين قبائل الرعاة والمزارعين؛ بسبب التنافس على أسبابٍ معيشيةٍ، كالتنافس على الموارد الناردة والأرض الصالحة للزراعة؛ بسبب الجفاف والتصحُّر الذي عانت منه منطقة القرن الأفريقى منذ ستينيات القرن الماضي، والتى زادت من هجرة القبائل، وبالتالى، تصاعُد النزاعات فيما بينها.
إضافةً إلى ذلك، فقد ألقت الحروب الأهلية التى شهدتها دول الجوار، كالحرب الأهلية التشادية، والحرب “الليبية – التشادية”، بظلالها على النزاعات القبلية في السودان؛ نتيجةً لاستدعاء القبائل المتحاربة فى دول الجوار أبناء القبائل السودانية ذات الصلة والنسب بهم؛ ما أدى إلى تداعيات سلبية على النزاعات القبلية فى السودان، وبذلك يكون النزاع القبلى قد اكتسب طابعًا مسلحًا، وتحوَّل من صراع قبلى بدائى على المرعى والمأكل إلى صراعات سياسية وأهلية متتالية، لم تنجح الجهود الحكومية أو الدولية فى وضْع حدٍّ أو نهاية لها.
أبرز النزاعات
تضرب النزاعات القبلية السودانية على امتدادها من الشرق إلى الغرب، فبالنظر إلى الشرق: حيث تقع الموانئ الرئيسية للبلاد ، تتوالى النزاعات فى الولايات الثلاث “ولايات البحر الأحمر، وكسلا، والقضارف” بين قبيلة بنى عامر من ناحية، وقبيلتى النوبة والهدندوة من ناحيةٍ أُخرى.
ومن الجنوب: تنتشر النزاعات فى ولاية جنوب كردفان بين قبائل الكواهلة والنوبة وكنانة من ناحيةٍ، وأولاد على والحوازمة من ناحيةٍ أُخرى، فضلًا عن ولاية النيل الأزر ، والتي تُعتبر مثالًا بارزًا على النزاع القبلى بين الرعاة ممثلين فى قبيلة الهوسا ذات الأصل النيجيرى، والمزارعين ممثلين فى قبيلة الفونج، والتى تمتلك شرعيةً سياسيةً فى الإدارة الأهلية؛ ما يشعل النزاع بينها وبين قبيلة الهوسا؛ نظرًا لكون الهوسا لا تمتلك الأراضى، ولا تمتلك شرعيةً سياسيةً.
ومن الغرب: حيث تقع دارفو ، لم يكتب بعد للنزاعات القبلية الانتهاء، ولعل أبرزها؛ هي تلك الواقعة بين قبيلة المساليت والقبائل العربية.
مُسبِّبات النزاع.. هل كانت أسبابًا معيشيةً فقط؟
تعددت الأسباب التى أدَّت إلى النزاعات القبلية فى السوادن، بحيث أصبح النزاع الناتج عن هذه الأسباب أمرًا بالغ التعقيد، إلا أنه يمكن إجمال أسباب النزاع إلى مستوييْن، أُولى هذه المستويات: يتعلق بالأسباب المعيشية؛ حيث دفعت بهذه القبائل إلى مرحلة الصدام ببعضها، مثل نزاع القبائل على الأراضى ومصادر المياه، وكذا المشاكل الناجمة عن تقاطُع مصالح الرعاة بمصالح المزارعين، كتعدى الحيوانات على المزارع، بالإضافة إلى ظروفٍ مناخيةٍ، كالجفاف والتصحُّر.
أما ثانى هذه المستويات: هو الغياب المؤسساتى التام، والذى دفع بدوره القبائل إلى الاعتقاد، بأنها تمتلك السيادة على ما تعيش عليه من مناطق جغرافية واقعة تحت سيطرتها، فلم يكن غياب السلطة الرسمية عن الريف، إلا بمثابة إذكاء نيران العصبية القبلية، والتوتُّر بين القبائل، ودفعهم إلى حمْل السلاح، وتماديهم فى أعمال العنف؛ دفاعًا عن مصالحهم.
وانطلاقًا من كوْن الأزمات السياسية دائمًا ما تكون فرصةً لاستغلالها من الأطراف صاحبة المصالح، فإن النزاعات القبلية فى السودان – في ظل غياب سلطة مركزية قوية، كان حرصها التام هو تولية المناصب المحلية للأفراد ذات الولاء إليها، وليس تولية المناصب المحلية للقادرين على إرساء دعائم الاستقرار بين القبائل- تمَّ استغلالها من قِبَلِ مجموعات، سواء كانت رسمية أو غير رسمية؛ لتحقيق مصالح حزبية وانتخابية أو مصالح مادية، عن طريق بيْع السلاح للقبائل المنحرطة في النزاع؛ لذا فإنه يمكن القول: إن النزاع وإن كان الدافع من نشوبه دافعًا غير سياسىٍّ، فإن ما ساعد على استشرائه وتفاقمه واستمراره منذ لحظاته الأولى وحتى الوقت الراهن، هو أسباب سياسية من الدرجة الأولى، قد هيَّأت له المجال تمامًا، وفشلت فى إيجاد حلولٍ حقيقةٍ له.
عوائق فى طريق حلِّ النزاعات القبلية
تعانى السودان كغيرها من مختلف دول القارة الأفريقية من مجموعة من التحديات، التي تُعيق التوصُّل إلى وضْع نهايةٍ للنزاعات القبلية، ويأتى فى مقدمة هذه التحديات، انتشار السلاح فى الداخل السودانى، حتى وصل إلى مرحلة متقدمة من الانتشار، فشلت فيها كل الجهود التى حاولت جمع السلاح من أيدى القبائل والميليشيات، وتجدُرُ الإشارة إلى أن انتشار السلاح فى الداخل السودانى لم ينْتُج فقط عن غياب هيبة الدولة، أو عدم إحكام قبضتها على الولايات، أو تواطئها فى كثيرٍ من الأحيان مع القبائل والميليشيات طوال حِقْبَة النظام السابق، بل ساهمت الاضطرابات المستمرة بدول الجوار على زيادة تدفُّق الأسلحة، فبالنظر إلى الشرق السوادنى، نجد أن الحرب “الإرتيرية – الإثيوبية” قد أدت إلى انتشار الأسلحة عن طريق الحدود الشرقية للسودان، وبالنظر أيضًا إلى الغرب السودانى، نجد أن الحرب الأهلية التشادية، والحرب “الليبية – التشادية” قد أدت إلى انتشار الأسلحة، عن طريق حدود السودان الغربية؛ لذا فإن أىَّ محاولةٍ حكوميةٍ فى السودان، تهدف إلى وضع نهايةٍ لانتشار الأسلحة في أيدى القبائل والميليشيات والأفراد، تتجاهل الأوضاع الإقليمية، وضرورة التوصُّل إلى اتفاقيات مع دول الجوار، بشأن منْع التهريب عبْر الحدود، وكذا ضرورة إحكام قبضة القوات النظامية السودانية على كافة حدود البلاد لن يُقدَّرَ لها النجاح، وبالتالى، استمرار النزاعات القبلية على ما هى عليه.
ولعل انتشار الأسلحة فى أيدى الكيانات الجماعية والفردية، يقودنا إلى الإشارة إلى تحدٍّ جديدٍ أمام الجهود الرامية للتعامُل مع النزاع القبلى، وهذا التحدِّى يتعلق بحالة الدولة منقوصة السيادة، باعتبار السودان مثالًا حيًّا عليها، ونعنى بها عدم تمكُّن الدولة السودانية في مناطق طرفية من البلاد، من إحكام سيادتها عليها، فالسيادة أولًا للقبائل، ولما تراه القبائل مناسبًا من سياسات على المناطق الواقعة تحت سيطرتها.
وفي سياقٍ متصلٍ، فإن السياسيات التى اتَّبعها النظام السابق، لا يمكن إعفاؤها إطلاقًا من إشعال نيران القبلية، وبالتحديد، فيما يتعلق بتسيس القبائل، فبدلًا من كوْن القبيلة كيانًا اجتماعيًّا مندمجًا داخل الكيان الأكبر وهو الدولة، أدَّت سياسات النظام السابق إلى توظيف القبلية سياسيًّا؛ لضمان ولائها من ناحية، وكذلك عندما يتم توظيف القبلية سياسيًّا، وجعلها خادمةً لسياسات النظام الحاكم، فإن هذا من شأنه، أن يُثير غضب القبائل الأُخرى غير الموالية للنظام، بل إن هذا سيُثير غضب أفراد القبيلة الواحدة؛ نظرًا لتنوُّع واختلاف رؤى وأفكار أفراد القبيلة الواحدة، وهذا كله من شأنه، أن يؤدى إلى استمرار سلسلة النزاعات القبلية، ويصبح النظام الحاكم هو المستفيد الأول من جرَّاء ذلك، ولعل أزمة دارفور هى المثال الأهم على ما سبق الإشارة إليه؛ حيث كان لتعامل النظام السياسى مع دارفور، عن طريق الانحياز إلى جُزْءٍ منها على حساب آخر، هو السبب الأبرز فيما شهده هذا الإقليم من إبادةٍ جماعيةٍ.
سيناريوهات المستقبل
إن التعامُل مع قضية النزاع القبلى فى السودان هو أمرٌ بالغٌ التعقيد، ومن هنا، نحاول تطوير بعض السيناريوهات المتعلقة بهذه القضية، وفقًا لدراسات معينة بهذا النزاع.
السيناريو الأول: هو سيناريو تشاؤمى، لا يتوقع انفراجةً حقيقيةً للنزاعات، ويُرجِعُ هذا السيناريو السبب فى استمرار النزاعات إلى عنصريْن، الأول: يتعلق بتجاهل اتفاقيات السلام، المعنيِّة بالنزاع القبلى لبعض القبائل على حساب قبائل أُخرى، وهو ما لا يبشر بأن يُكتب لهذه الاتفاقيات النجاح، فبدون اتفاقيات سلام شاملة كل الأطراف فى النزاعات، لن يتم تسوية النزاع، والثانى: يتعلق بوجود أطرافٍ إقليميةٍ تعمل على استعادة نفوذها داخل بعض الأقاليم السوادنية، كاعتراض إريتريا على تمثيل قبائل معارضة على رأس سلطة أقاليم سوادنية متخامة لها؛ ما يعطل بالضرورة من نجاح اتفاقيات السلام.
أما السيناريو الثانى: فهو تفاؤلى إلى حدٍّ كبيرٍ، بالنظر إلى الوضع الحالى، ويذهب إلى إمكانية تسوية النزاعات القبلية فى السودان، إذا ما تعاملت الحكومة مع جذور المشكلة، كالعمل على إرساء العدالة التنموية، وإرساء دعائم الدولة المدنية، الخالية من مظاهر العنصرية، والتفريق بين المواطنين على أساس أعراقهم، وكما سبق الإشارة، فإن هذا السيناريو ربما يكون مُفْرِطًا فى التفاؤل، بالنظر إلى مثل هكذا أوضاع على الأراضى السودانية، لكن بافتراض نجاح هذا السيناريو، فإنه يحتاج إلى سنواتٍ طويلةٍ، وقبل ذلك إرادة سياسية حاضرة.
ختامًا:
فإنه لا مجال للجزْم بوجود نهايةٍ قريبةٍ للنزاع القبلى فى السودان، إلا بتوافر إرادةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ، تنظر إلى مختلف القبائل على أنهم مواطنون، ولا تنظر إليهم على أنهم ينتمون لقبيلة معينة، هذه الإرادة السياسية إن توافرت، فيجب أن تتعامل الدولة مع مختلف القبائل بكل حيادية، وتمنتع عن استخدام القبائل فى المعارك السياسية لصالحها، وأن يكون للقانون الكلمة الأولى للفصل فى النزاعات القبلية، مع استبعاد أىِّ حلولٍ تقليديةٍ أو عرفيةٍ، هذا من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أُخرى، فإنه يجب أن تتضمن أجندة العمل الوطنية سياسة العدالة التنموية بين مختلف ولايات التراب السودانى، باعتبارها سياسةً لها الأولوية، وهى كفيلة بإخماد كل ما يؤدى إلى إشعال النزاعات بين القبائل.