تعرّضَ النفوذُ الروسي في الشرق الأوسط لصدمةٍ كبيرةٍ بسقوط نظام الأسد في سوريا، ويبدو أن التفسيرَ المنطقيَ لذلك هو انشغالها بالحرب الأوكرانية التى تستهلكُ عقلَ ومواردَ الدولة الروسية، هذا الاستنزاف الذي أثّرَ سلبًا على قدرة موسكو على الحفاظ على مستوى تأثيرها التقليدي في المنطقة. ومع ذلك، تبحث روسيا عن طرقٰ وأساليبَ وأقاليمَ أخرى لإبقاء أو مدِّ النفوذ، مثل الحفاظ على قواعدها العسكرية في سوريا، مع توسيع نشاطها في أفريقيا، وآسيا وعبر منصة “أوبك بلس”.
وتُظهر روسيا اهتمامًا متزايدًا بآسيا ومنطقة الساحل في أفريقيا، في ظل التحولات الأمنية والسياسية، لكن يبدو –على المدى القصير- أن طبيعةَ التدخلِ الروسي مستقبلاً ستختلفُ بشكلٍ جوهريٍ، حيث لن تتمكنَ موسكو من تبنّي استراتيجياتِ الانخراط السياسي والعسكري الواسع كما كان الحال في سوريا، بل ستعتمد على أدواتٍ أكثرَ محدوديةٍ مثل نشر الصواريخ في آسيا أو استخدام مواردها الطبيعية ونفوذها الاقتصادي، مع التركيز على إدارة النفوذ عن بعد، وهذا النهجُ يعكسُ محاولةً روسيةّ لإعادة التموضع الدولي، بما يضمن تحقيق مكاسب جيوسياسية بأقل تكلفة ممكنة.
سقوط الأسد:
يشكلُ “سقوط الأسد” ضربةً خطيرةً لصورة روسيا كحليفٍ موثوقٍ قادرٍ على ضمان بقاء شركائه وهي الصورة ذاتها التي حاولت روسيا إلصاقها بالولايات المتحدة عند خروجها من أفغانستان 2021، كما فقدت روسيا دورها القيادي في الملف السوري، حيث قادت المبادرات عبر منصة آستانا بالتعاون مع تركيا وإيران، ثم مسار سوتشي، وامتدَ تضررُ “المصالح الروسية” إلى ما هو أبعد من سوريا، فسقوط “الأسد” يعني أن الحرب الأوكرانية قد أرهقت روسيا بشكلٍ جعلها تبدو غيرَ قادرةٍ على إدارة قضاياها الأخرى، وهو ما يبعثُ بإشارةٍ إيجابيةٍ للغرب بأن العقوباتِ على روسيا والمساعدات لأوكرانيا مسارٌ فعالٌ، وهو ما قد يشجعهم على استكمال ذلك المسار، أو حتى مع عودة ترامب فإن لديهم الفرصة والمساحة لبناء موقف تفاوضي قوي ضد روسيا.
كان الوجودُ العسكري الروسي في سوريا رمزا للثِقلِ السياسي لموسكو في شؤون الشرق الأوسط، حيث استطاعت موسكو أن تكونَ طرفا يديرُ العلاقاتِ بين الإيرانيين والنظام من جهة والمناطق التي وقعت اتفاقيات وقف إطلاق النار مع دمشق من جهةٍ أخرى، وبذلك حافظت روسيا على قنوات اتصال مع قوات المعارضة السورية.[1]
وفي ضوء ذلك المشهد الذي يُعبرُ عن امتلاك روسيا أوراقَ اللعبة في سوريا عبر قيادة العلاقات بين الأطراف المختلفة، أصبحت روسيا البوابة لأي تطبيع محتمل بين تركيا ونظام الأسد، أو بين النظام وقوات سوريا الديمقراطية، وقد أعطى هذا لروسيا نفوذا في مواجهة تركيا، وأصبحت هذه الديناميكية تشكل سياسة تركيا تجاه قضايا أخرى تتعلق بروسيا، مثل أوكرانيا أو ليبيا أو البحر الأسود، لكن سقوط الأسد يغيرُ في حجمِ وطبيعة نفوذِ العلاقات بين تركيا وروسيا، حيث يمنح لتركيا نفوذاً جديداً في مواجهة روسيا، وقد يدفع تركيا والغرب إلى التقارب، بالتالي ستضطر موسكو إلى إدارة استيائها من تركيا، باعتبار أن النفوذَ التركي الجديد في سوريا أحدُ محدداتِ التحرك الروسي لتحديدِ شكل المصالح الروسية الجديدة في سوريا، مثل الحفاظ على قواعدها البحرية والجوية في سوريا.[2]
وفي سياقٍ متصلٍ، فإن القاعدتين العسكريتين لروسيا في طرطوس وحميميم، تواجهان مصيرًا غير مؤكد، خاصة مع توارد الأنباء عن انسحابِ جميع النقاط والقواعد الروسية المنتشرة بالبلاد إلى طرطوس واللاذقية[3]، وبات يرتبطُ استمرارُهما بالتفاوض بين “هيئة تحرير الشام” وروسيا، وفي هذا السياق، صرّح المتحدث باسم الكرملين “ديمتري بيسكوف” بأن الحديثَ عن مصير القاعدتين العسكريتين لا يزال سابقًا لأوانه، مشيرًا إلى أن “الأمر برمّته سيكون موضوعَ نقاشٍ مع من سيتولى السلطة في سوريا”[4]، فيما ذكرت إدارة الأزمات بالخارجية الروسية أن عمل السفارة الروسية في دمشق مستمرٌ، وأن السفيرَ “ألكسندر يفيموف” متواجدٍ بدمشق.[5]
إذا ما اضطُرت روسيا إلى إخلاء هاتين القاعدتين، سيتراجع تهديدها لحلْفِ الناتو عبر البحر الأبيض المتوسط[6]، حيث مثلت القاعدتان أحد مرتكزات الانتشار الجيوسياسي الروسي حول العالم، وتزدادُ أهميتهما باعتبارهما نقطةَ وصولِ وربطِ روسيا بالمياه الدافئة، وهو ما يُعتبرُ حلاً لمُعضلةٍ تاريخيةٍ بالنسبة لروسيا، كما أنهما مركزٌ راهنت عليه روسيا كنقطةٍ لوجستية للتوسع في أفريقيا، إذ إن قاعدةَ طرطوس البحرية هي مركزُ الإصلاح و الإمدادِ الوحيد لروسيا في البحر المتوسط، في حين تُعدُ قاعدة حميميم نقطةَ انطلاقٍ رئيسيةٍ للنشاط العسكري في إفريقيا.
القوقاز:
تأتي تلك الانتكاسةُ للنفوذ الروسي بعد وقتٍ قليلٍ من خسارةٍ أخرى في جنوب القوقاز، حيث الصراعُ بين أرمينيا وأذربيجان على إقليم “قرة باغ”، وهو الصراع الذي وقفت فيه روسيا موقفَ المتفرجِ، رغم أن الإقليمَ كان ساحةَ نفوذٍ تقليديةٍ لروسيا والاتحاد السوفيتي سابقا، ففي حرب عام 2020 بين أرمينيا وأذربيجان لم تُفعّلْ روسيا بنودَ معاهدة منظمة “معاهدة الأمن الجماعي”، والتي تنص على أن أيَّ عدوانٍ على دولة عضو بالمنظمة يمثّلُ عدوانا على بقية الدول، حيث تذرعت موسكو بأن الحرب في “قره باغ” تجري خارج الأراضي الأرمينية، وبالتالي لا تنطبق عليها المعاهدة.
وبعد أن سيطرت أذربيجان على إقليم “قره باغ” في سبتمبر 2023 دون أي تدخلٍ من قوات حفظ السلام الروسية المنتشرة في المنطقة، اتجهت أرمينيا بشكلٍ متسارعٍ نحو الابتعاد عن روسيا وتعميق علاقاتها مع الغرب، حيث أعلنَ رئيسُ الوزراء الأرميني في 23 فبراير الماضي عن تجميدِ عضوية بلاده في منظمة “معاهدة الأمن الجماعي” التي تقودها روسيا ليعكسَ تحديًا جديدًا لمكانةِ موسكو في المنطقة، وهذا التحول يتماشى مع رغبة فرنسا في كبح النفوذ الروسي والتركي، بالإضافةِ إلى مساعي الولايات المتحدة لإضعافِ تأثيرِ روسيا في جنوب القوقاز، وهذه التحولاتُ تؤدي إلى إعادة تشكيلِ التوازناتِ الجيوسياسيةِ في القوقاز، حيث يتزايد التنافس الدولي والإقليمي على النفوذ في ظل تقلّصِ الدور الروسي التقليدي.[7]
ليبيا وأفريقيا..”وجهة تعويضية”؟
حاليًا، تُظهرُ الولاياتُ المتحدة اهتمامًا محدودًا بالملف الليبي، إذ تُركزُ أولوياتها على تطوراتِ الأحداثِ السياسية والأمنية في ملفاتٍ أخرى مثل غزة ولبنان وسوريا وإيران، وحتى لا تُوجدُ بعثةٌ دبلوماسيةٌ أمريكيةٌ على الأرض في ليبيا منذ عام 2014، حيث تدير واشنطن شؤونها المتعلقة بليبيا عبر سفارتها وقنصليتها في تونس، وذلك بعد حادثة مقتل السفير الأمريكي “كريستوفر ستيفنز”، مما يعكسُ تراجعَ إرادتها للانخراط بشكلٍ أعمق في الشأن الليبي.[8]
في المقابل، فوجودُ روسيا في ليبيا واضحٌ، حيث تمثّل ليبيا بوابةً مهمةً لموسكو في أفريقيا والتواجد على جبهة أخرى هي جنوب أوروبا، ويسهل من هناك النفاذ لمنطقة الساحل، بالتالي تأمين الموارد الحيوية الضرورية لدعم اقتصادها وفتْحِ أسواقٍ جديدةٍ وتدعيم تطلعاتها الاستراتيجية طويلة الأجل من خلال التأكيد علي علاقاتها وروابطها مع العالم الثالث، وهو ما يعكسُ هدفَها الجيوسياسي الأبعد، وهو رسمُ صورةٍ لذاتها كقوةٍ عظمى.[9]
ومؤكد أن الكرملين سيحاولُ تعويضَ خسائره من خلال زيادة وجوده في ليبيا أو السودان[10]، ووفقًا لصحيفة “التلغراف”، قامت روسيا خلال عام 2024 بتطوير منشآتها العسكرية وتعزيز أسلحتها في ثلاث قواعد جوية في ليبيا، بناءً على بياناتٍ تحليليةٍ مستمدةٍ من صور الأقمار الاصطناعية، وتشير هذه الترقيات إلى أن روسيا تعملُ على زيادةِ وجودها العسكري بشكلٍ كبير في ليبيا، مما يعكسُ استراتيجيةَ موسكو لتعزيز نفوذها في المنطقة والاستفادة من موقع ليبيا الجغرافي في تحقيق مصالحها الإقليمية والدولية.[11]
أفغانستان:
مؤخراً، تُطلُ أفغانستان كساحةٍ مرشحةٍ لاجتذاب اهتمامٍ روسيٍ أكبر، حيث كشف أمين مجلس الأمن الروسي “سيرغي شويغو” خلال زيارة لكابول في أواخر نوفمبر الماضي عن أن موسكو ستسحب حركة “طالبان” التي عادت للحكم عام 2021 من قائمة المنظمات المحظورة في روسيا، في وقت أعرب “بوتين” عن نيته تعزيز التعاون مع أفغانستان المعزولة على الساحة الدولية، وتقيمُ موسكو علاقاتٍ مع حكومة طالبان وتستقبلُ مبعوثيها، لكنها لا تعترفُ رسمياً بحكومة “طالبان” أو “إمارة أفغانستان الإسلامية”، وفي يوليو الماضي، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه يعتبرُ الحركةَ “في عدادِ الحلفاء في مكافحة الإرهاب”[12]، وعززت موسكو علاقاتها مع “طالبان” منذ عادت الحركة للسلطة في عام 2021 بعد الانسحاب الأمريكي من البلاد.[13] ولكن هذه الخطوات ستكونُ رمزيةً بحتةً، ومن غير المرجّح أن تفعلَ الكثير لتعميق العلاقات الاقتصادية بين البلدين.[14]
عملت روسيا على تطويرِ علاقاتها مع طالبان لسنوات. وبحلول عام 2017، كانت روسيا تزوّدُ طالبان بالأسلحةِ والمعلومات الاستخباراتية لمحاربةِ تنظيم “داعش خراسان” والولايات المتحدة، وسعت روسيا إلى جعْلِ الولايات المتحدة تنزفُ عسكريا أفغانستان. ومنذ الانسحاب الأمريكي في عام 2021، عملت روسيا جاهدةً على الحدِّ من النفوذ الأمريكي في المنطقة ومعارضة استمرار القواعد الأمريكية في أفغانستان، لكن لم تتمكنْ روسيا من تحريكِ طالبان بشأن الحكم الداخلي في أفغانستان.[15]
في المقابل، أكد ترامب على أهميةِ قاعدة “باغرام” العسكرية في شمال كابول باعتبارها قاعدةً إستراتيجيةً، نظراً إلى قربها من الصين، لكن لم يقدمْ ترامب سياسةً واضحةً تجاه أفغانستان، رغم إعلان ممثلي الجمهوريين في مجلسي النواب والشيوخ دعمهم القاطع لجبهة المقاومة الوطنية الأفغانية.[16]
بذلك يبدو أن بوتين – من خلال تأكيد العلاقة مع “طالبان”- يحاولُ تعزيزَ الوجود الروسي في آسيا الوسطى واستخدام تلك العلاقات كأحدِ محدداتِ التفاعل مع باقي دول الإقليم، وعرقلةِ أيِّ نفوذٍ غربيٍ مُهدد، لكن تظلُ فرصُ إقامةِ علاقاتٍ اقتصادية أوثق محدودة في ضوء التخوفات التي لم يتمْ معالجتهُا بشكلٍ كاملٍ والعقوبات المفروضة على أفغانستان، كما أن روسيا لا تريدُ كسْرَ الإجماع الدولي حول أفغانستان بشكلٍ صارخٍ حتى لا تزيدُ من حنق الغرب مرة أخرى، خاصة مع ما سببته روسيا من توترات بتطوير علاقاتها مع كوريا الشمالية التي تخضع أيضا لقوبات أممية ودولية، ومع ذلك يأملُ الكرملين في تحقيقِ مكاسبَ جادةٍ، ففوائد التعاون قد تشمل الوصول إلى طرق تجارية جديدة.
أوبك بلس:
يُعدُ تحالفُ “أوبك+” أداةً فعالةً لروسيا ودول الخليج العربي لتعزيز نفوذهم الدولي، ليس فقط اقتصاديًا، ولكن أيضًا سياسيًا من خلال التحكم في إنتاج النفط وأسعاره، حيث يمتلكُ التحالفُ القدرةَ على التأثير على السياسات الدولية وتحقيقِ مصالحَ أعضائه، ومع عودة ترامب قد تُفتحُ نافذة لانتعاش العلاقات الروسية-الخليجية، لكن هذه الفرصة ستتحدد بعدة عواملَ متشابكةٍ، أبرزها سياسات الطاقة العالمية وطبيعة التحالفات الإقليمية والدولية.
ترامب معروفٌ بسياساته التي تدعمُ صناعةَ النفط والغاز الأمريكية، حيث يسعى إلى زيادة الإنتاج والصادرات لتحقيق أمن الطاقة للولايات المتحدة وتقليل الاعتماد على الواردات.
وكان قد تعهدَ بخفضِ عجزِ الموازنة الأمريكية إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي، وزيادة النمو الاقتصادي إلى نفس النسبة سنويًا، إلى جانب رفعِ إنتاجِ النفط والغاز في الولايات المتحدة بمقدار 3 ملايين برميل يوميًا بحلول عام 2028. ووفقًا لما صرح به ترامب، فإن هدفه هو تحقيق “هيمنة عالمية على أسواق الطاقة”، فزيادة إنتاج الطاقة ستساهمُ في تحقيق أهدافٍ متعددةٍ، أبرزها زيادة صادرات النفط والغاز، وخاصةً الغازَ الطبيعي المُسالَ إلى أوروبا، مما يقللُ من العجز التجاري الأمريكي. بالإضافة إلى ذلك، فإن ارتفاعَ عائداتِ الضرائب من شركاتِ الطاقة سيحسّنُ وضع الموازنة العامة، كما ستتيح هذه الزيادة فرصةً لتشديد العقوبات على إيران دون التأثير على أسعار الوقود في الأسواق الأمريكية. علاوةً على ذلك، فإن زيادةَ إنتاج الغاز الطبيعي ستوفرُ الطاقةَ اللازمةَ لدعم مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، التي تحتاجُ إلى كمياتٍ هائلةٍ من الطاقة لتشغيلها.[17]
هذا التوجّهُ قد يخلقُ منافسةً مع منتجي النفط الخليجيين، مما يدفعُ دولَ الخليج، مثل السعودية والإمارات، إلى تعزيز التنسيق مع روسيا ضمن إطار تحالف “أوبك+”، وهذا التحالفُ أثبتَ فعاليتَه في تحقيق التوازن في سوق النفط خلال السنوات الماضية، مما يُعززُ احتمالَ استمرار التعاون الروسي-الخليجي.
الحربُ الأوكرانيةُ:
في خطابٍ ألقاهُ أمام كبار المسؤولين في وزارة الدفاع، أشادَ الرئيس الروسي بوتيرة تقدم جنوده على طول خط المواجهة في أوكرانيا ، معلناً “تحرير 189 بلدة” في خلال عام 2024[18]، ومع دخولِ متغيراتٍ جديدةٍ إلى المشهد الدولي، بما في ذلك خسارة روسيا لنفوذها التقليدي في سوريا، وعودة ترامب، تُفتحُ آفاقٌ جديدةٌ لسيناريو إنهاء الحرب الأوكرانية، فترامب، المعروف بميله لتقليص الالتزامات العسكرية الخارجية تعهدَ بإنهاء الحرب الأوكرانية وتقليص المساعدات لأوكرانيا، وبذلك فهو منفتحٌ على اتفاقٍ مع روسيا، لكن بشروطٍ تعكسُ مكاسبَ للولايات المتحدة.
فترامب يميلُ إلى إعادةِ توجيه الموارد نحو القضايا الداخلية، مما يجعلُ إنهاءَ الحرب الأوكرانية، أولوية استراتيجية لإدارته، كذلك تسعى إدارة ترامب إلى تقليل التوترات مع روسيا للتركيز على الصين كأولويةٍ قصوى، مما يجعلُ التوصلَ إلى اتفاقٍ مع الكرملين خيارًا جذابًا.
كما أن تزايدَ النفوذِ الروسي في كوريا الشمالية ومنطقةِ آسيا عمومًا يقلق الغرب، مما قد يدفع واشنطن للبحث عن تسوياتٍ لتخفيفِ التوترات في أوروبا، لكن أوروبا التي تعتبرُ أوكرانيا حاجزًا أمام النفوذ الروسي، قد تعارضُ أيَّ تسويةٍ تتجاهلُ مصالحها الأمنية، وهو ما قد يؤكد على وجود فجوة بين ضفتي الأطلسي تزداد مع عودة ترامب، وهو ما قد تعوّلُ عليه روسيا.
تحالف بريكس:
حذّرَ ترامب “دول البريكس” من أنه سيطالبها بالتزاماتٍ بعدم التحرك لإنشاء عملةٍ جديدةٍ كبديلٍ لاستخدام الدولار الأمريكي، وهددَ بفرضِ رسومٍ جمركيةٍ بنسبة 100٪، وتحدث ترامب عن سبل معاقبة الأطراف التي تسعى للانخراط في التجارة الثنائية بعملاتٍ أخرى غير الدولار، وتشملُ هذه التدابير النظر في خياراتٍ مثل ضوابط التصدير ورسوم التلاعب بالعملة والرسوم على التجارة.[19]
ردَّ المتحدثُ باسم الكرملين “دميتري بيسكوف” بأن إجبارَ الولايات المتحدة “دول البريكس” على استخدام الدولار لن يؤديَ إلا إلى تعزيزِ اتجاهها نحو استخدام العملات الوطنية، ومع ذلك، يشيرُ الزعيمُ الروسي إلى أنه من السابق لأوانه مناقشة إنشاء عملة واحدة للمجموعة.[20]
يأتي ذلك على خلفية مناقشة دول البريكس قضية إزالة الدولرة في قمة عام 2023، بعدما اكتسبت ردود الفعل ضد هيمنة الدولار “زخمًا” في عام 2022 عندما قادت الولايات المتحدة جهودًا لفرض عقوبات اقتصادية على روسيا واتبعت سياسات التشديد النقدي.
في الواقع، تعززت هيمنة الدولار الأمريكي في الاقتصاد العالمي، مدعومة بقوة الاقتصاد الأمريكي، والسياسة النقدية الصارمة التي يتبعها الاحتياطي الفيدرالي، ووفقًا لمركز أبحاث المجلس الأطلسي، يمثل الدولار حوالي 58% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، مقارنة بـ20% لليورو، بينما لم تتجاوز حصة اليوان في الاحتياطيات العالمية 2.3% بحلول أواخر عام 2023، وهذا الواقع يعكس صعوبة منافسة الدولار في ظل استمراره كعملة مهيمنة على التجارة الدولية والاحتياطيات النقدية.[21]
سيناريوهاتٌ محتملةٌ لتطورات النفوذ الروسي وتأثيرها على التوازنات الدولية:
1- سيناريو تعزيز النفوذ الروسي:
إستمرارُ روسيا في توسيع نشاطها العسكري والاقتصادي في إفريقيا وآسيا الوسطى، مع استغلال الفراغِ الأمنيِ والسياسي في مناطق مثل ليبيا والساحل الأفريقي، وهذا السيناريو قد يؤدي إلى إعادة تموضع روسيا كقوةٍ رئيسية، مما يُتيحُ لها تعزيزَ أوراقها التفاوضية في النزاعات الكبرى مثل الحرب الأوكرانية.
2- سيناريو تراجع النفوذ الروسي:
استمرارُ .استنزاف روسيا في أوكرانيا مع تزايدِ العقوبات الغربية، مما يُضعفُ قدرتَها على تمويل نشاطها الخارجي، ويؤدي هذا إلى انكفاءِ روسيا على الداخل وتراجعِ دورها كقوةٍ عالميةٍ، بالتالي فتورُ العلاقات مع شركاء مثل الصين أو إيران إذا ما شعرت هذه الدول بضعْفِ روسيا كحليف استراتيجي.
3- سيناريو التوازنِ الإستراتيجي:
نجاحُ روسيا في الحفاظ على مناطق نفوذٍ محدودةٍ، ولكن ذات أهمية استراتيجية مثل ليبيا ومنطقة الساحل، مع تحسين علاقاتها مع قوى إقليميةٍ مثل تركيا والخليج، لضمانِ استمرار مصالحها، وتحقيقِ توازنٍ في التعامل مع الصين لضمانِ استقلاليةِ قراراتها، ويتيحُ هذا السيناريو لروسيا الاحتفاظَ بمكانتها كقوة كبرى.
4- سيناريو التقاربِ الروسيِ-الغربي المشروط
مع عودةِ ترامب ورغبتهٓ في إنهاء الحرب، ومن ناحيةٍ أخرى، بسبب تأثّر روسيا بالعقوبات والضغوط الاقتصادية والعسكرية، قد يتمُّ التوصل لاتفاق سلام بشأن أوكرانيا ووضعِ ترتيبات اتفاقيةٍ أمنيةٍ جديدة مع أوروبا لضمان استقرار حدودها، ويؤدي هذا السيناريو إلى تهدئة التوترات الدولية وإعادة رسْمِ حدود النفوذ الروسي.
ختامًا:
يتسمُ المشهدُ الدولي اليوم بتشابك المصالح والتحديات، حيث تسعى روسيا إلى إعادةِ تشكيل نفوذها العالمي في مواجهة ضغوط غربية متزايدة، فمن الشرقِ الأوسط إلى القوقاز وأفغانستان، وصولًا إلى الحرب الأوكرانية، تظهرُ بوضوحٍ ديناميكيات التنافس بين القوى الكبرى وتأثيرها العميق على استقرار النظام الدولي.
وفي سياق الحرب الأوكرانية “الأولوية الأولى” لروسيا، فيبدو أن روسيا تعملُ على تعزيز موقفها التفاوضي، سواء عبر المكاسب الميدانية أو التوسع في مناطق نفوذٍ جديدةٍ، مستفيدةً من التغيرات المحتملة في السياسة الأمريكية. ومع ذلك، فإن التداعياتِ العالميةُ لأي اتفاقٍ مستقبليٍ بين موسكو وواشنطن لن تقتصرَ على طرفي الصراع، بل ستؤثرُ بشكلٍ مباشر على دول أوروبا الشرقية، الشرق الأوسط، وآسيا.
