أعلنت القواتُ المسلحةُ في مدغشقر، يوم الثلاثاء 14 أكتوبر الجاري، عن استيلائها على السلطة؛ إثْرَ تحوُّلِ تمرُّدٍ شبابيٍّ إلى انقلابٍ عسكريٍّ، وجاء ذلك بعد فرار الرئيس أندريه راجولينا من البلاد إثْرَ تصويتٍ برلمانيٍّ لعزْلِهِ، تزامنًا مع احتجاجات واسعة النطاق كانت تعكس غضب الشباب تجاه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردِيَّة، وأعلن المجلس الانتقالي عن نِيَّتِه تعيين رئيس وزراء سريعًا لتشكيل حكومة مدنية، رغم رفْض مكتب راجولينا الواضح للانقلاب واعتباره انتهاكًا لسيادة القانون، في مشهدٍ يعكس صراعًا على الشرعية وسط حالة من الغموض حول مستقبل الحُكْم في مدغشقر.
تصاعُد الاحتجاجات وتحولها إلى انقلاب عسكري
جاء الانقلاب العسكري في مدغشقر بعد أسابيع من احتجاجات حاشدة، قادها بشكلٍ رئيسيٍّ نشطاء من الجيل Z، الذين عبَّرُوا عن استيائهم – منذُ سنوات طويلة – من سوء الإدارة والإهمال الحكومي، وبدأت هذه الاحتجاجات كتجمُّعات صغيرة؛ احتجاجًا على الانقطاعات المتكررة في التيار الكهربائي ونقْص المياه، لكنها سُرْعَانَ ما تحوَّلَتْ إلى حركة وطنية واسعة تطالب بالقضاء على الفساد وتحقيق المساواة.
وتدفَّقَ المتظاهرون إلى شارع الاستقلال وساحات رئيسية في العاصمة أنتاناناريفو حاملين العلم الوطني ومُرَدِّدِين هتافات مناهضة للرئيس أندريه راجولينا، بينما ردَّتْ قوات الأمن بالغاز المسيل للدموع وعمليات اعتقال في البداية، ومع ذلك؛ تغيَّرت مُجْرَيات الأحداث بشكلٍ حاسمٍ، عندما انشقت وحدة “كابسات” العسكرية، التي كانت تعتبر موالية لراجولينا، وانضمت إلى المتظاهرين؛ مما أدَّى إلى تدهور موقف الرئيس.
وأعلنت وحدة “كابسات” التي كان لها دورٌ كبيرٌ في صعود راجولينا إلى السلطة، عبْر انقلاب عام 2009، يوم السبت 11 أكتوبر، السيطرة على جميع القوات المسلحة، وبحلول الثلاثاء 14 أكتوبر، تمَّ تعيين قادة جدد للجيش والدرك؛ مما أكَّدَ تمكين الجيش من السيطرة الكاملة على السلطة[1].
الإطاحة بالرئيس “أندريه راجولينا”
بعد أسابيع من الضغط المتزايد على الرئيس أندريه راجولينا، شهد يوم الإثنين 13 أكتوبر، فترة فوضى استمرت 24 ساعة؛ حيث أعلن مكتبه عن نِيَّتِه إلقاء خطاب للأمة عبْر التليفزيون والإذاعة الرسمييْن، إلا أن الخطاب تأخَّر لساعات ولم يُبَث على القنوات الرسمية، بل نُشِرَ أخيرًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعد وصول الجنود إلى مباني الإذاعة، وفي خطابه من مكان سرِّيٍّ، كشف “راجولينا” عن فراره إلى مكانٍ آمنٍ؛ بسبب ما وصفه بمؤامرة لاغتياله في قصره، مؤكدًا احترامه للدستور ورفضه الاستقالة[2].
وحاول “راجولينا” تعزيز سلطته بإصدار مرسوم بحلِّ البرلمان، يوم الثلاثاء 14 أكتوبر، لكن النواب تجاهلوا هذا القرار وصوَّتوا بأغلبية ساحقة على عزْله، وفوْر التصويت أعلن العقيد مايكل راندريانيرينا استيلاء الجيش على السلطة أمام القصر الرئاسي في العاصمة، معلنًا تشكيل مجلس انتقالي يضُمُّ ضباطًا من الجيش العام وقوات الدَّرَك، مع وعْدٍ بتعيين رئيس وزراء مدني لتكوين حكومة بسرعة، وتمَّ تداول تقارير تفيد بأن “راجولينا” غادر مدغشقر على متْن طائرة عسكرية فرنسية؛ مما أثار تساؤلات حول دور فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، في مساعدته على الهروب[3].
إعلان زعيم الانقلاب “مايكل راندريانيرينا” تولِّيه رئاسة البلاد
أعلن زعيم الانقلاب العسكري، العقيد مايكل راندريانيرينا، أنه يتولَّى رئاسة البلاد حاليًا؛ حيث ستكون القوات المسلحة مسؤولة عن إدارة شؤون الدولة، لمدة تصل إلى عامين قبْل إجراء أيِّ انتخابات، وأكَّدَ في مقابلة مع وكالة أسوشيتد برس، أنه يتوقع أداء اليمين الدستورية قريبًا؛ لتثبيت منصبه كرئيس للبلاد، مشيرًا إلى أن الجيش سيبقى في السلطة لفترة تتراوح بين 18 شهرًا وسنتين على الأكثر، كما أعلن أن الجيش حلَّ جميع المؤسسات الحكومية ما عدا مجلس النواب، وأن لجنة عسكرية ستتولَّى الحُكْم بالتعاون مع حكومة انتقالية حتى يتمَّ تنظيم انتخابات جديدة[4].
ويُظهر تولِّي مايكل راندريانيرينا رئاسة البلاد، عبْر انقلاب عسكري العجز المستمر في النظام السياسي المدني بمدغشقر عن الاستجابة لمطالب السكان، خصوصًا الشباب الذين يُعبِّرُون عن استيائهم من الفقر والفساد المستشريين، ويعكس الاعتماد على الجيش لإدارة المرحلة الانتقالية؛ حالة عدم استقرار عميقة، تجعل من الصعب إيجاد حلول سياسية تحقق التوازن بين مصالح جميع الأطراف، كما يشير هذا الانقلاب إلى تحديات تاريخية تواجه مدغشقر؛ حيث تتكرر الأزمات السياسية والاقتصادية دون معالجات فعَّالة؛ ما يضع البلاد في دائرة مُفْرَغة من الاضطرابات.
ردود الفِعْل على الانقلاب
أدانت المنظمات الدولية مِثْل “الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة” بشدة الانقلاب ودعت القوات المسلحة إلى سرعة استعادة النظام الدستوري والحُكْم الديمقراطي، وفي بيانٍ صادرٍ عن مفوضية الاتحاد الأفريقي بمدينة أديس أبابا، عبَّرَتْ عن قلقها العميق تِجَاه التطورات الجديدة، مُؤكِّدَةً على ضرورة فتْح حوار شامل يُعيد البلاد إلى المسار الديمقراطي، كما تابعت فرنسا الموقف عن كَثَبٍ، في حين وصفت وزارة الخارجية الأمريكية الانقلاب، بأنه انتهاكٌ واضحٌ للمؤسسات الديمقراطية ودعت إلى حماية المدنيين.
وأشارت الأمم المتحدة إلى قلقها العميق من أيِّ تغييرات غير دستورية في السلطة، وأكَّدت أنها تعمل على متابعة التطورات مع جميع الأطراف، داعيةً إلى تسويةٍ سِلْمِيَّةٍ للأزمة وأسبابها الجِذْرِيَّة، وصرَّح نائب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فرحان حق، أن المنظمة مستعدة للتعاون مع مدغشقر والاتحاد الأفريقي ومؤسسة تنمية الجنوب الأفريقي لاستعادة السلام والاستقرار في البلاد، مؤكِّدًا رفْضَ أيِّ انقلاب ودعوة الجميع للعودة إلى النظام الدستوري[5].
كما قرَّرَ الاتحاد الأفريقي تعليق عضوية مدغشقر في مؤسساته بشكلٍ فوريٍّ، وجاء هذا التعليق بعد إعلان وحدة خاصَّة في الجيش بقيادة العقيد مايكل راندريانيرينا استيلاءها على السلطة وتعهُّدها بإدارة فترة انتقالية تمتدُّ من 18 إلى 24 شهرًا قبْل إجراء انتخابات جديدة، ويأتي تعليق العضوية كخطوة ضغط دولية؛ تهدف إلى دفْع الأطراف في مدغشقر إلى استعادة النظام الدستوري والحُكْم الديمقراطي؛ حيث يعكس هذا القرار موقف الاتحاد الأفريقي الرافض لأيِّ تغييرات غير دستورية في السلطة، وتؤكِّدُ هذه الخطوة أيضًا جِدِّيَّة المجتمع الدولي في مواجهة الانقلابات العسكرية وضمان احترام العملية الديمقراطية، بينما تبقى التحديات الاجتماعية والاقتصادية في البلاد تُشكِّلُ عامل ضغطٍ مستمرٍّ على الاستقرار السياسي[6].
ختامًا:
تعكس الأزمة الراهنة في مدغشقر تحدِّيًا كبيرًا لمسار التحوُّل الديمقراطي في البلاد؛ حيث جاء الانقلاب العسكري كنتيجة لتراكُم مشاكل اقتصادية واجتماعية عميقة، ولغياب الاستجابة الحقيقية لمطالب الشباب والمجتمع المدني، بينما يبقى مستقبل الحُكْم في مدغشقر غامضًا وسط الصراع على الشرعية بين الجيش والقوى المدنية، يتوجَّبُ على الأطراف المعنِيَّة بدعم المجتمع الدولي والإقليمي، العمل على فتْح حوارٍ شاملٍ، يضمن عودة النظام الدستوري واحترام إرادة الشعب؛ إذ يعتمد الاستقرار السياسي والاجتماعي على قُدْرة هذه الأطراف في تجاوُز الأزمة وتأسيس مؤسسات حقيقية للحُكْم الرشيد، بعيدًا عن الانقلابات والاضطرابات.
المصادر:
[1] GERALD IMRAY, This is what led to Madagascar’s military coup, AP News, October 15, 2025.
