تأتى “زيارة الدولة” التى أجرها الرئيس بايدن إلى فرنسا خلال إحياء الذكرى الثمانين لإنزال النورماندى – الذي مهد للانتصار على ألمانيا النازية عام 1944- لتكون علامة على تقارب بايدن مع ماكرون وعلى التضامن الغربي بشكل عام فى مواجهة التحديات، وقد استمرت الزيارة خمسة أيام في فرنسا واستمرت الاحتفالات لثلاثة أيام على غير العادة، ما يعكس خصوصية الزيارة، وقد حضر الرئيس الأوكراني الاحتفالات، بهدف إظهار وحدة الصف الغربي على خلفية الحرب في أوكرانيا، وفي المقابل، استُبعدت روسيا على الرغم من دعوتها في عام 2014 بعد أن ضمت شبه جزيرة القرم قبل ثلاثة أشهر.
الزيارة بداية لتسلسل مهم يخص ليس فقط أوكرانيا، بل الوحدة والتحالف الغربي، خاصة مع إجراء انتخابات البرلمان الأوروبي، وعقد قمة مجموعة السبع، وقدوم قمة الناتو، والانتخابات الرئاسية الأمريكية نوفمبر المقبل، فقد حاول ماكرون استثمار تلك المحطة الدبلوماسية -استقبال بايدن- لخوض حملة للانتخابات الأوروبية، وكذلك الوضع نفسه لبايدن الذى استغل الزيارة ليبعث رسائل مباشرة ومبطنة لمهاجمة ترامب، فالقادة الغربيون لديهم مخاوف بشأن اختيار الناخبون ممثلين ذوي ميول يمينية، ما قد يؤدي إلى تحويل القارة والولايات المتحدة إلى سياسات انعزالية أكثر، في وقت يشدد فيه بايدن على الحاجة إلى الوحدة العالمية، وعلى أن الديمقراطية معرضة للتهديد الآن أكثر من أي وقت مضى، وأن “الإنعزالية لم تكن الحل قبل 80 عاماً، وهي ليست الحل اليوم”[1]، فى انتقاد واضح لترامب، حيث يخشى بايدن والاوربيون في حال فوز ترامب من منحى انعزالي جديد من جانب الولايات المتحدة، ما قد يقضي على معركة أوكرانيا في مواجهة روسيا.
ورغم التصريحات المعبرة عن توافق الرؤى خلال لقاءات الرئيسين، واتفاق الرئيسان على “خريطة طريق” مشتركة من أجل “السماح لأوكرانيا بالاستفادة من الأرباح الكبيرة من الأصول السيادية الروسية المجمدة”، وإعطاء الضوء الأخضر لأوكرانيا لضرب العمق الروسى بأسلحتهما، لكن الأمر ليس كذلك تماما، لا سيما فيما يتعلق بحرب غزة والحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى الصين وملف العلاقات الاقتصادية بين فرنسا والولايات المتحدة، فواشنطن لا توافق على كل مقترحات الرئيس الفرنسي، مثل احتمال إرسال مدربين عسكريين إلى الأراضي الأوكرانية، كذلك تختلف فرنسا مع الولايات المتحدة حول طريقة إدارة اسرائيل حربها علي قطاع غزة.
إن إعانات بايدن للصناعة وإعادة تشكيل سلاسل الإمداد المعروفة بقانون مكافحة التضخم، والتي انتقدها ماكرون، تلحق المزيد من الضرر بالصناعات الأوروبية من خلال تحويل الاستثمارات التجارية من أوروبا الى الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه، يأمل بايدن في إقناع فرنسا وبقية دول الاتحاد الأوروبي بالانضمام إلى الولايات المتحدة في مواجهة بكين من خلال زيادة الرسوم الجمركية على البضائع الصينية، لكن ماكرون كان قلقًا بشأن السماح لواشنطن بإملاء نهجها تجاه بكين على أوروبا، مصرحًا في مقابلة أجريت معه العام الماضي أنه لا ينبغي لزعماء القارة أن يتبعوا الولايات المتحدة “بشكل أعمى” ويذهبوا إلى حرب تجارية فوضوية.
كذلك فإن ماكرون – الذي خاض انتخابات البرلمان الأوروبي وهو يعلم بتراجع شعبيته- يحتاج من الولايات المتحدة إلى تخفيف سياساتها التجارية “أمريكا أولاً” التي أضعفت النمو في جميع أنحاء أوروبا ما أضعف قادة أوروبا سياسيًا.
بذلك تجد أوروبا نفسها عالقة بين الحفاظ على دوره كمدافع عن القواعد متعددة الأطراف فى إطار منظمة التجارة العالمية، والخوف من خسارة ملايين الوظائف وعشرات المليارات في مجال الاستثمار، في الوقت الذي تفرض فيه الولايات المتحدة والصين إعانات الدعم والرسوم الجمركية “المشوِهتين للسوق”، ما أدى الى معاناة الكتلة الأوروبية من “أزمة القدرة التنافسية” التى سببت تراجع الاستثمار والدخل والإنتاجية، حيث تشهد حصة أوروبا من الاقتصاد العالمي تراجعا وتتفاقم المخاوف من أن القارة لم تعد قادرة على مواكبة الولايات المتحدة والصين.
وتمثل مهاجمة سياسات بروكسل سلاحا فى يد الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة التي تتطلع إلى استغلال حالة القلق على الاقتصاد، ففي هذا الإطار وصف حزب التجمع الوطني اليمينى المتطرف في فرنسا الاتحاد الأوروبي بأنه “عدو الشعب”، خاصة وأن الحلول المستدامة المقترحة لإعادة التكيف مع التطورات الاقتصادية الدولية الجديدة قد تصطدم بالمصالح السياسية داخل أوروبا، فمنح بروكسل المزيد من السيطرة والقوة المالية، يزيد القلق بشأن تركيز السلطة، كما أن توحيد السوق “سيضر بالمستهلكين والعمال والشركات الصغيرة، وسيمنح الشركات العملاقة قدراً هائلاً من النفوذ، ما سيتسبب في ارتفاع الأسعار”[2].
وبحسب ماكرون، فقد اتفق الرئيسان على أن “ممارسات الصين قد تكون غير عادلة”، والتي تولد “قدرات فائضة”، وفي مواجهة ذلك، “علينا أن نتصرف بطريقة منسقة”، وجاءت تصريحات ماكرون لتعبر عن عدم الرضا المتنامى تجاه الصين بعد أن رفض الرئيس الصينى تقديم تنازلات بشأن الخلافات التجارية خلال زيارته الى فرنسا الشهر الماضي.
وعلى ذلك يبدو أن أوروبا تحركت خطوة باتجاه الولايات المتحدة بشأن الخلافات مع الصين، فقد أعرب قادة مجموعة السبع خلال اجتماعهم فى إيطاليا عن توافقهم بشأن موقف موحد تجاه الصين، بعد ممارسة بكين سياسات لا تتناسب مع السوق وقدرة فائضة ضارة في مجموعة متزايدة من القطاعات.[3]
وقد بات المسؤولون في بروكسل أكثر حزماً، فالإتحاد الأوروبي يحاول تحديد حجم الدعم الذي تقدمه بكين للشركات المحلية المنتجة للمركبات الكهربائية، بهدف فرض تعريفات جمركية، وبالتالى حذرت الصين من أن فرض أي رسوم جمركية على صادراتها من قبل الاتحاد الأوروبي سيواجه بردود فعل سريعة من جانبها، فالحكومة الصينية تفكر في إجراء تحقيقات لمكافحة الإغراق بشأن واردات لحوم الخنزير ومنتجات الألبان من أوروبا، حيث بلغت قيمة تلك الواردات في عام 2023 نحو 5 مليارات يورو، ما يعادل ربع صادرات الاتحاد الأوروبي من الأغذية الزراعية الصين[4]، ويبدو أن الصين حاولت من وراء ذلك التأثير على نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، حيث تزامن تهديدها مع الانتخابات الأوروبية، وفى وقت لم يكد ينتهى فيه السياسيون الأوروبيون من موجة احتجاجات المزارعين التي اندلعت مؤخرا.
وعلى جانب آخر خلال قمة السبع ناقش بايدن وماكرون مع نظرائهم المساعدات الجديدة وآلية الدعم المالي التي تسمح بالاستفادة من الأصول الروسية البالغة 300 مليار يورو المجمّدة من قبل الدول الغربية لصالح أوكرانيا[5]، وتسعى مجموعة السبع إلى ضمان تمويل مساعداتها العسكرية لكييف مع احتمال عودة ترامب إلى البيت الأبيض.
ختامًا:
فإن إدارة بايدن وقادة أوروبا سيحتاجون لتأكيد التعاون بين بعضهما البعض خيفة أن تتحول بوصلة التوجهات السياسية الحالية نحو اليمين واليمين المتطرف، خاصة مع دخول موسم الانتخابات سواء في الولايات المتحدة أو فرنسا بعد أن قام الرئيس بحل البرلمان ودعا لانتخابات برلمانية مبكرة وهو ما قد يحمل معه انتكاسة سياسية لمعسكر ماكرون المعتدل فى مواجهة اليمين المتطرف والذي قد يلقي بظلاله على أوروبا، ومن ناحية أخرى تمثل الضغوط الاقتصادية القادمة من القدرة الفائضة للصين والحرب الأوكرانية اختبار لمستقبل أوروبا والعلاقات الأمريكية الأوروبية.
