مع بدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، هدأت الأوضاع نسبيًا في مياه البحر الأحمر بعد أكثر من 14 شهرًا من التوترات المتزايدة التي فرضتها جماعة الحوثي على حركة الملاحة الدولية تحت شعار “نصرة فلسطين”. إلا أن هذه التهدئة جاءت وسط مخاوف دولية من نوايا الحوثيين المستقبلية، وتصعيد محتمل عقب تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أعلن مساء الأربعاء 22 يناير الجاري إدراج جماعة الحوثي على قائمة الإرهاب مرة أخرى.
وأعلن زعيم الحوثيين، عبدالملك الحوثي، الإثنين الماضي، أن التزام جماعته بوقف العمليات العسكرية مرتبط بتطبيق كامل بنود اتفاق غزة، وأن جماعته ستكتفي فقط باستهداف السفن التابعة لإسرائيل خلال مرورها في البحر الأحمر، بعد بدء سريان وقف إطلاق النار في قطاع غزة.
ونقل ما يسمى بـ”مركز تنسيق العمليات الإنسانية”، التابع للجماعة الحوثية والذي يعمل كحلقةَ وصل بينها وبين شركات الشحن التجاري، أنها توعدت الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل باستئناف الضربات على السفن التابعة لها في حال استمرار هذه الدول في هجماتها الجوية على المواقع التابعة لها والمناطق الخاضعة لسيطرتها. وسبق للجماعة الحوثية تحذير الدول التي لديها وجود عسكري في البحر الأحمر من أي هجوم عليها خلال فترة وقف إطلاق النار في قطاع غزة، كما توعدت في بيان عسكري، أنها ستواجه أي هجوم على مواقعها خلال فترة وقف إطلاق النار في غزة، بعمليات عسكرية نوعية “بلا سقف أو خطوط حمراء”.[1]
ومنذ أواخر عام 2023، كثف الحوثيون هجماتهم على السفن التجارية والعسكرية في البحر الأحمر، مما أدى إلى خسائر بشرية ومادية وتعطيل الملاحة في واحد من أهم المضائق البحرية. ردًا على ذلك، شكلت القوى الدولية بقيادة واشنطن ولندن تحالفًا تحت اسم “حارس الازدهار”، هدفه حماية حركة الملاحة وتأمين الممرات المائية من التهديدات الحوثية عبر ضربات دفاعية وقائية.
في هذا السياق، كانت جماعة الحوثي قد استغلت الحرب الإسرائلية على غزة لتوسيع نطاق نفوذها، خاصة عبر استهداف السفن الإسرائيلية وتلك الداعمة لإسرائيل في البحر الأحمر، بالإضافة إلى تقديم الدعم العسكري الذي اعتبرته جزءاً من “نصرة غزة”، مما عزز من شعبيتها وموقفها كفاعل داعم لقضية فلسطين. ومع البدء في تنفيذ أولى مراحل وقف إطلاق النار في غزة وإدراجهم على قوائم الإرهاب، يبقى السؤال قائماً: هل سيتوجه الحوثي نحو مزيد من التصعيد العسكري في البحر الأحمر ، أم أنهم سيضطرون إلى التكيف مع الضغوط الدولية والإقليمية التي قد تقودهم إلى الدخول في مفاوضات سلام؟.
السياق السياسي والعسكري قبل وقف إطلاق النار
قبل إعلان وقف إطلاق النار، كانت جماعة الحوثي قد استخدمت الحرب بين إسرائيل وحماس كغطاء لتصعيد عملياتها العسكرية في البحر الأحمر، فكانت تستهدف السفن الإسرائيلية وسفن الدول الداعمة لإسرائيل، حيث اعتبرت ذلك جزءاً من دعم المقاومة الفلسطينية، ولإظهار نفسها كطرف إقليمي فاعل، كان يشير هذا التصعيد العسكري إلى رغبة الحوثيين في استعراض قوتهم العسكرية، كما كان يعكس محاولة من جانبهم للابتزاز على الصعيدين المحلي والدولي.
كان الحوثيون يروجون لأيديولوجيتهم عبر إظهارهم كأبطال للدفاع عن غزة، وهو ما أدى إلى حشد مزيد من الدعم الشعبي المحلي في المناطق التي يسيطرون عليها. ولكن، في الوقت نفسه، كانت هذه العمليات العسكرية قد خلقت أزمات اقتصادية وإنسانية إضافية في اليمن، مما ساهم في تعميق الفجوة بين مطالب المواطنين وواقعهم القاسي.
كما كانت الحرب في غزة، من جهة أخرى، تقدم مبرراً لجماعة الحوثي لتعزيز نفوذها العسكري والسياسي في المناطق المحورية في اليمن، إذ تحولت حملات الاستقطاب والتجنيد إلى وسيلة لحشد القوى البشرية اللازمة لمواصلة القتال، وهو ما يعكس عجزهم عن تلبية احتياجات المواطنين في المناطق التي تحت سيطرتهم. وبذلك، أصبحت عملية التجنيد أداة أساسية لتوسيع سيطرتهم العسكرية، وتغطية فشلهم في الحكم والإدارة.
تحديات داخلية أمام جماعة الحوثي بعد اتفاق غزة
يوجد عدة تحديات أمام الحوثي بعد بدء أولى مراحل وقف إطلاق النار في غزة يمكن عرضها كالأتي:
على الصعيد العسكري:تشهد جماعة الحوثي حالة من الضبابية في الاستراتيجية التي يجب اتباعها بعد وقف النار في غزة، حيث يجد الحوثيون أنفسهم في موقف صعب؛ فبعد أن كانت “نصرة غزة” ذريعة لهم لتوسيع دائرة عملياتهم العسكرية، أصبحوا الآن في حاجة إلى استراتيجية جديدة لملء الفراغ الذي خلفه انتهاء الحرب.
على الصعيد الاقتصادي: فإن الوضع لا يبدو أفضل حالاً بالنسبة لجماعة الحوثي خاصة في المناطق التي تسيطر عليها الجماعة، حيث شهدت تدهوراً مستمراً نتيجة لاستمرار الحصار المفروض عليها، والذي أثر بشكل كبير على توفير المواد الأساسية والخدمات الضرورية للسكان. ومع تزايد مشاعر الإحباط بين المواطنين بسبب قلة الموارد وسوء الأوضاع المعيشية، بات الحوثيون في مواجهة مباشرة مع الشعب اليمني الذي أصبح يطالب بتحسين الأوضاع الاقتصادية والخدمية.
أما على الصعيد السياسي، فإن جماعة الحوثي تجد نفسها أمام تحدٍ حقيقي في كيفية التعامل مع الضغوط الدولية التي تتزايد من أجل فرض تسوية سياسية في اليمن، فالتصعيد العسكري الذي كانت تنتهجه الجماعة تحت شعارات دعم المقاومة الفلسطينية بدأ يفقد قوته بعد انتهاء العمليات العسكرية في غزة، وأصبح المجتمع الدولي يطالب الحوثيين بالانخراط في محادثات سياسية حقيقية لإنهاء الحرب اليمنية. لكن الحوثيين، المدعومين من إيران، لا يزالون يرفضون أي تسوية سياسية طالما أن ذلك لا يتماشى مع مصالحهم.
تظل إيران العامل الرئيسي الذي يدعم جماعة الحوثي في استراتيجياتها العسكرية والسياسية، وعلى الرغم من الضغوط المتزايدة على طهران في ملفات أخرى مثل الملف النووي والعقوبات المفروضة عليها، تبقى إيران قادرة على دعم الحوثيين بالمال والموارد اللازمة من أجل الحفاظ على بقاءها خاصة بعد فقدانها لنفوذها في سوريا ولبنان. بالتالي، يظل الحوثيون في موقف قوي نسبياً من خلال هذا الدعم الإقليمي، لكنهم في الوقت نفسه يدركون أن التحديات التي يواجهونها في المرحلة القادمة قد تكون أكبر من أي وقت مضى.
تآكل فرص التسوية
على مدار السنوات الماضية، مرت الأزمة اليمنية بعدة مراحل من التصعيد والتهدئة، إلا أن الفترة الأخيرة تشير إلى تراجع فرص التسوية السياسية؛ فقد أفادت مصادر مطلعة أن المملكة العربية السعودية أبدت عدم قدرتها على تنفيذ خارطة الطريق السابقة، بسبب العقوبات الأمريكية المفروضة على جماعة الحوثي، بجانب تصنيفها كمنظمة إرهابية.
في الوقت ذاته، أكدت مصادر أخرى أن الولايات المتحدة، في إطار سعيها للحد من تحركات الحوثيين، طلبت من سلطنة عمان، التي تُعد أحد الرعاة الرئيسيين للتسوية في اليمن، وقف استضافتها لقيادات الحوثي على أراضيها. ورغم أن المصادر لم تذكر كيفية رد السلطنة على هذا الطلب، إلا أن التطورات تشير إلى تعقيد الوضع بشكل أكبر.[2]
في هذا السياق، يتزامن استلام سلطنة عمان للسفينة “جالاكسي ليدر” التي كانت قد احتجزتها جماعة الحوثي في نوفمبر 2023، مع الإفراج عن طاقم السفينة المكون من 25 شخصًا،[3] ليشكل خطوة أولى ضمن الجهود التي تسعى لتخفيف الضغوط على الحوثيين، وبالتالي تحفيزهم على المضي في مسار التسوية.
الأبعاد الدولية وخيارات ترامب المحتملة في التعامل مع الحوثيين
مع اتفاق غزة، يبدو أن المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة سيحاول توجيه اهتمامه نحو اليمن، إذا استمرت هجمات الحوثي ضد السفن الملاحية في البحر الأحمر، وبالحديث عن الخيارات المتاحة أمام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يعد معروف بسياسته الصارمة تجاه إيران. من المتوقع أن يعتمد ترامب مقاربة مشابهة ضد الجماعة، خاصة أن سجلّ ترامب في فرض العقوبات والانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني يظهر استعداده لاتخاذ خطوات جريئة في مواجهة النفوذ الإيراني. بالتالي، قد تصبح جماعة الحوثي هدفًا مباشرًا ضمن استراتيجيته لإضعاف إيران ووكلائها في المنطقة، وبجانب إدراجه لجماعة الحوثي على قوائم الإرهاب وتوعده لهم بالمزيد، يوجد عدداَ من الخيارات الأخرى أمام ترامب في تعامله مع جماعة الحوثي وهي الأتي:
الخيار الأول: تصعيد عسكري واسع النطاق
قد تلجأ الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى تصعيد عسكري يستهدف البنية التحتية العسكرية للحوثيين، بما في ذلك مواقع إطلاق الطائرات المسيرة والصواريخ. وتعد الفرصة مواتية لهذا الخيار، خاصة بعد زوال الغطاء السياسي الذي وفره الحوثيون تحت شعار دعم غزة. لكن هذا السيناريو مستبعد – على الأقل في الفترة القادمة – لأنه محفوف بالمخاطر، إذ يمكن أن يؤدي إلى تصعيد إقليمي مع إيران وزيادة التكلفة الإنسانية في اليمن.
الخيار الثاني: تعزيز العقوبات الدولية
يمكن أن يتجه ترامب إلى فرض عقوبات إضافية على الحوثيين، بالتزامن مع تصعيد الضغوط على إيران للحد من دعمها لهم، وبالرغم من أن هذا الخيار مرجح بشكل كبير، إلا أنه يظل ليس كافيًا، نظرًا لتاريخ الحوثيين في التحايل على العقوبات واستمرار الدعم الإيراني الخفي.
الخيار الثالث: دعم القوات المحلية
قد يتم التركيز على تقوية الأطراف اليمنية المناهضة للحوثيين مثل الحكومة اليمنية الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي والمقاومة الوطنية، بهدف استنزاف قدرات الحوثيين محليًا، ويعد هذا الخيار عملي ومرجح كحل بديل، خاصة أنه يوجد دعوات داخلية من قبل المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يرى في التصعيد فرصة للحد من تهديدات الحوثيين على المدى الطويل. ذلك بجانب انتقاد وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبير، رفض إدارة بايدن بتسليح الحكومة اليمنية الشرعية، مما يشير إلى إمكانية أن ترفع الولايات المتحدة الحظر عن تسليح الحكومة الشرعية ضد الحوثيين.
الحوثي وتكتيكات البقاء
في الختام، يمكن القول إن إعلان وقف إطلاق النار في غزة يمثل نقطة تحول حاسمة بالنسبة لجماعة الحوثي، التي تواجه ضغوطًا متعددة على الصعيدين الداخلي والخارجي. فقد تآكلت ذريعة ‘نصرة فلسطين’ التي استُخدمت لتبرير تصعيدهم العسكري، مما يضعهم أمام تحديات جديدة تتعلق بضرورة إيجاد مبررات جديدة لتحركاتهم السياسية والعسكرية.
داخليًا، تتفاقم التحديات الاقتصادية والإنسانية في اليمن، ما يزيد من مطالب الشعب بتحسين الأوضاع، في ظل إدارة غير كفؤة ونهج يقوم على استنزاف الموارد.
خارجيًا، يجد الحوثيون أنفسهم في مواجهة ضغوط إقليمية ودولية متزايدة خاصة بعد ادراجهم على قوائم الإرهاب، فضلاُ عن احتمالية حدوث تصعيد عسكري شامل يهدف إلى كبح تهديداتهم للملاحة الدولية واستقرار المنطقة. في هذا السياق، يبدو أن خيارات الحوثيين محدودة، إما بتعزيز سيطرتهم الداخلية وتجنب التصعيد مع القوى الكبرى، أو السعي للتوسّع في المواجهات الإقليمية، وهو خيار قد يحمل في طياته مخاطر وجودية.
إذن، فإن مصير الحوثيين في المرحلة المقبلة مرهون بقدرتهم على التكيف مع المتغيرات، والبحث عن استراتيجيات بديلة لضمان بقائهم في الساحة، في وقت تتجه فيه الأنظار الدولية نحو محاسبتهم على تهديداتهم وتورطهم في سياسات إيران الإقليمية.
المصادر:
[1] الحوثيون يعلنون اقتصار هجماتهم البحرية على السفن المرتبطة بإسرائيل، صحيفة الشرق الأوسط، 20 يناير، متاح على الرابط: https://shorturl.at/vSkbw
