المقالات
بعد الخلافات الأخيرة بين الجزائر ومالي: هل وصلت العلاقات بينهما إلى نقطة اللاعودة؟
- أبريل 15, 2025
- Posted by: hossam ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الدراسات الأفريقية

إعداد: أسماء حسن محمد
باحث مساعد في وحدة الشؤون الأفريقية
شهدت العلاقاتُ “الجزائرية – المالية” توتُّرًا دبلوماسيًّا مفاجئًا في أعقاب حادثة إسقاط الجيش الجزائري لطائرةٍ مُسيَّرة، أثبتتْ التحقيقاتُ أنها تابعةٌ للقوات المالية، على مقْرَبةٍ من الحدود الجنوبية للجزائر، نهاية الشهر الماضي، لم يكن هذا الحادثُ مُجرَّدَ إشكالٍ أمنيٍّ، بل شكَّلَ بدايةً لتصعيدٍ سياسيٍّ ودبلوماسيٍّ أوسع؛ إذ إنه كشف عن تغيُّرٍ في ميزان العلاقات بين الجزائر ودول الساحل، لا سيما مع التحوُّلات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة، وقد بدا أن هذا التوتُّر يعكس تحوُّلًا في أولويات الفاعلين الإقليميِّين، وتراجُعًا في القنوات التقليدية للحوار، التي لطالما ميَّزت العلاقة بين البلديْن، كما تُظهر هذه التطوُّرات تعقيدات المشهد السياسي في منطقة الساحل، مع تداخُل المصالح الإقليمية والدولية؛ ما يجعل التوصُّل إلى حلولٍ دبلوماسيةٍ أمرًا بالغ الأهمية للحفاظ على الاستقرار الأمني والإقليمي للمنطقة.
حادثة الطائرة المُسيَّرة
تُعدُّ حادثة إسقاط الطائرة المُسيَّرة، في 31 مارس 2025، نقطة التحوُّل المفصلية التي فجّرت التوتُّر بين الجزائر ومالي؛ حيث أصدرت وزارة الدفاع الجزائرية بيانًا، ذكرت فيه، أنه تمَّ رصْد “هدف جوي غير معرّف” يخترق المجال الجوي الجزائري في منطقة تين زواتين الحدودية، وعلى إثْرِهِ تمَّ التعامُل معه “وفْق قواعد الاشتباك”، وأسقط بصاروخ “أرض – جو” من نوعٍ متطورٍ، وقد وصف البيان الحادث، بأنه انتهاكٌ صارخٌ للسيادة الوطنية، مُحذِّرًا من أن الجزائر “لن تتهاون مع أيْ خرْقٍ لأمْنِها الإقليمي أيًّا كان مصدرُهُ”.
تبيَّن من التحقيقات الأولية، أن الطائرة تتبع القوات المالية، وكانت تقوم بمهمةٍ استطلاعيةٍ، ضمن ما قالت “باماكو”: إنه عملية عسكرية ضِدَّ الجماعات الإرهابية في الشريط الحدودي مع الجزائر، وادَّعت السلطات المالية، أن المُسيَّرة لم تتجاوز المجال الجوي الجزائري، وأنَّ إسقاطها يُمثِّلُ تصعيدًا غير مبررٍ وعملًا عدائيًّا ضِدَّ دولةٍ ذات سيادة”.
فقد كشفت تلك الحادثة عن هشاشة البِنْيَة الأمنية المشتركة، وغياب الثقة بين الجاريْن؛ إذ إن تبايُن الروايتيْن فتح الباب لتأويلات متعددة، منها ما يُرجِّح أن غياب آليات التنسيق الأمني الحدودي بين الجزائر ومالي، منذ انقلاب باماكو عام 2021؛ قد أدَّى إلى هذا التصادُم غير المقصود؛ فالجزائر التي تراقب تحرُّكات الطيران العسكري قُرْب حدودها بدِقَّةٍ عاليةٍ، تعتبرُ أيَّ نشاطٍ غير منسقٍ تهديدًا مباشرًا، خاصَّةً في منطقة جنوبية حسَّاسة تعاني من اختراقاتٍ متكررةٍ من قِبَلِ الجماعات الجهادية والمهربين.[1]
الردود المالية والجزائرية على الحادثة
جاءت الرُّدود الرسمية من الطرفيْن مباشرة بعد حادثة إسقاط الطائرة المُسيَّرة، مُحمَّلَةً بلغةٍ حادَّةٍ تكشف عُمْقَ التوتُّر وتآكُل الثقة بين الجزائر ومالي، فقد سارعت الحكومة المالية إلى إصدار بيان، أدانت فيه ما وصفته بـ”الاعتداء السافر” من قِبَلِ الجيش الجزائري، معتبرةً أن إسقاط الطائرة يُمثِّلُ عملًا عدائيًّا لا يمكن تفسيره سوى في إطار نيةٍ مُبيَّتَةٍ لتقويض جهود مالي في حفظ أمنها الداخلي”، وأعلنت “باماكو” في اليوم ذاته، سحْب سفيرها من الجزائر للتشاور، كخطوةٍ تعكس حجم الغضب السياسي والاستياء من غياب التنسيق الحدودي.
ومن ثمَّ؛ جاء ردُّ دول الساحل مناصرًا للموقف المالي؛ إذ أعقبته تحرُّكاتٌ مماثلةٌ من النيجر وبوركينا فاسو (وهما حليفان أساسيان لمالي ضمن تحالُف الساحل الثلاثي)، اللتان أعلنتا استدعاء سفرائهما من الجزائر؛ تعبيرًا عن “تضامُن كامل مع باماكو”، وقد فُسِّرت هذه الخطوةُ في الجزائر، على أنَّها ردٌّ منسقٌ يستهدف الضغط الدبلوماسي، وربما إعادة ترتيب التكتُّلات الإقليمية في وجْه النفوذ الجزائري التقليدي.
أما الجزائر بدورها لم تلتزم الصمت؛ إذ استدعت سفيري مالي والنيجر، وأغلقت مجالها الجوي أمام الطيران المدني والعسكري للدول الثلاث، في خطوةٍ وصفها مراقبون، بأنها إجراءٌ ردعيٌّ له أبعاد إستراتيجية، كما أصدرت وزارة الخارجية الجزائرية بيانًا شديد اللهجة، أكَّدت فيه، أن بلادها “لن تسمح بتحويل حدودها إلى ساحة استفزازات أو تمرير أجندات خارجية”، مشيرة ضمنًا إلى النفوذ الروسي المتنامي في دول الساحل، وإلى احتمالية استخدام الطيران المُسيَّر في أغراضٍ تتجاوز مُجرَّد الاستطلاع العسكري.
هذا التراشُق السياسي والدبلوماسي عمَّقَ حالة الجمود بين الطرفيْن، وأسْهَمَ في تعطيل القنوات الثنائية التي كانت قائمةً في ملفاتٍ حسَّاسة، مثل التعاون الأمني الحدودي، ومراقبة الجماعات المسلحة العابرة للحدود، وحتى المشاريع الاقتصادية المشتركة في المنطقة الحدودية، وبينما كان من الممكن احتواء الحادث في إطاره الفني والعسكري عبْر آلية مشتركة للتحقيق، إلَّا أن التفاعُل الرسمي والإعلامي أظهر أن العلاقات الثنائية كانت في حالة هشاشة مسبقة، وأن الحادث لم يكن سبب الأزمة بقدْر ما كان كاشفًا لها.[2]
تدويل الأزمة ومحاولات كسب الشرعية
في خِضَمِّ التصعيد المتسارع بين الجزائر ومالي، لجأ الطرفان إلى تدويل الأزمة كأداةٍ للضغط السياسي وكسْب الشرعية على السَّاحة الدولية، فقد بادرت الجزائر بتقديم مذكرة إلى مجلس الأمن الدولي، استندت فيها إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تتيح للدول الدفاع عن نفسها في حال وقوع تهديد مباشر لأمنها، مشددةً على أن تحليق الطائرة المُسيَّرة فوق أراضيها يُشكِّلُ انتهاكًا لسيادتها، وتجاوزًا للأعراف الدولية في العلاقات بين الدول المتجاورة، وقد سعت الجزائر إلى تصوير الحادث، على أنه جزءٌ من نَمَطٍ أوسع من التحرُّكات غير المسؤولة من قِبَلِ بعض دول الساحل، التي قد تُستغلُّ من قِبَلِ أطرافٍ خارجيةٍ؛ لزعزعة استقرار الحدود الجزائرية.
في المقابل، تقدَّمت مالي أيضًا بشكوى إلى مجلس الأمن، متهمةً الجزائر بـ”الاستخدام غير المتناسب للقوة” ضدَّ طائرةٍ غير هجوميةٍ، وزعمت أن الحادثة تُمثِّلُ خرْقًا للقانون الدولي ولمبادئ حُسْن الجوار، كما أشارت “باماكو”، إلى أن الطَّلْعة الجوية كانت ضمن عملياتٍ روتينيةٍ لمحاربة الجماعات الإرهابية في الشريط الحدودي؛ ما يعني أن الجزائر عرقلت – بشكلٍ غير مباشرٍ – جهود مكافحة الإرهاب في المنطقة.
هذا التنازُع على الشرعية الدولية لم يكن معزولًا عن سياقٍ أوسع، يتمثلُّ في محاولة كُلِّ طرفٍ تَأْطِيرَ الأزمة لصالحه، سواء من خلال تقديم نفسه كضحيةٍ أو كمدافعٍ عن الأمن الإقليمي، كما اتضح أن كُلًّا من الجزائر ومالي يحاولان كسْب دعْم تكتُّلات إقليمية ودولية؛ فالجزائر لجأت إلى الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية، في حين لجأت مالي إلى مجموعة دول الساحل ومنظمة التعاون الإسلامي، وسعت أيضًا إلى استثمار علاقاتها مع موسكو وبكين؛ لتأمين دعْمٍ سياسيٍّ أو حتى حمايةٍ دبلوماسيةٍ في المنابر الأممية، في هذا السياق، من الواضح أن تدويل الأزمة لا يستهدف فقط حلَّ النزاع، بل أصبح جزءًا من معركة أوسع لإعادة ترسيم النفوذ في المنطقة، ومحاولة كُلِّ طرفٍ فرْض روايته، بوصفها الإطار المعياري الذي يجب أن يُبْنَى عليه أيّ تدخُّل أو وساطة مُقْبِلَة.[3]
الانعكاسات الجيوسياسية للأزمة
تأتي الأزمةُ في ظلِّ تحوُّلاتٍ إستراتيجية تشهدها منطقة الساحل، خاصَّةً بعد الانقلابات العسكرية المتتالية في “مالي والنيجر وبوركينا فاسو”، والتي نتج عنها أنظمة جديدة مُعادية للغرب، وفرنسا بشكلٍ خاصٍّ من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى، توجد علاقاتها أكثر مع موسكو، وشرعت هذه الأنظمة في بناء تحالُفٍ ثلاثيٍّ جديدٍ، يسعى إلى فرْض واقعٍ ميدانيٍّ جديدٍ بمعْزِلٍ عن التأثيرات الغربية، عبْر طرْد القوات الأجنبية وإعادة تشكيل القوات المسلحة؛ بمساعدة مدربين ومستشارين رُوس.
أما عن الجزائر التي تتبنَّى سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانخراط في المحاور، تعتبر أن هذا التكتُّل قد يؤدي إلى عسْكرة الحدود وتهديد التوازنات الجيوسياسية، خاصَّةً في ظلِّ وجود مرتزقة مجموعة فاغنر، التي ترى الجزائر أنها تُسْهِمُ في زعزعة الاستقرار بدلاً من ضمانه، كما أنها تخشى من أن تصبح حدودها الجنوبية مَسْرَحًا لتصفية حسابات دولية بين قوى عظمى تستخدم الفاعلين المحليِّين كأدوات تنفيذ، ويُعقِّدُ الوضع أكثر الانكماش الاقتصادي الذي تعانيه الجزائر، والذي يدفعها إلى التركيز على ملفات داخلية حسَّاسة يصعب التفاوض بشأنها، في ظلِّ مناخٍ إقليميٍّ متوترٍ.
من جهةٍ أخرى، تخشى الجزائر من أن تؤدي التوتُّرات إلى عرْقلة مشاريع التعاون الإقليمي في مجالات الأمن والطاقة، إلى جانب البنية التحتية العابرة للحدود؛ بما في ذلك الطريق العابر للصحراء ومشروعات خطوط الغاز المستقبلية.[4]
سيناريوهات محتملة
-
أ- سيناريوهات التصعيد واشتعال الأزمة
تتعدَّدُ احتمالات التصعيد، ولكن السيناريو الأخطر يتمثَّلُ في انزلاق الأوضاع نحْو مواجهاتٍ مُسلَّحةٍ محدودةٍ عبر الحدود، خاصَّةً إذا تكرَّرت عمليات الاستطلاع الجوي أو تمَّ رصْد تحرُّكات عسكرية استفزازية، كما قد يتوسع الخلاف ليشمل ملفات الهجرة والتهريب وتمويل الجماعات المتطرفة؛ ما يُعقِّدُ الوضْع الأمني برُمَّتِهِ، وفي أسوأ السيناريوهات، قد تنهار العلاقات الدبلوماسية تمامًا، وتغيب قنوات التنسيق؛ ما يمنح الجماعات الإرهابية فُرْصةً للتحرُّك بحريةٍ أكبر في المناطق الحدودية، قد يستدرج هذا الوضع أطرافًا أجنبيةً نحْو التدخُّل المباشر أو غير المباشر؛ ما يفتح الباب أمام صراعٍ إقليميٍّ متعدد الأبعاد، خاصَّةً إذا شعرت الجزائر أن مصالحها مهددةً من قِبَلِ شركاء مالي الجُدُد.[5]
-
ب- فُرَص التهدئة واستخدام الأدوات الدبلوماسية
رغم قتامة المشهد لا تزال هناك فُرَصٌ حقيقيةٌ للتهدئة إذا ما أُديرت بشكلٍ جيدٍ، مِثْل قبول وساطة طرفٍ ثالثٍ، مثل الاتحاد الأفريقي أو دول محايدة، كما أن عقْد قمة وزارية طارئة بين الجزائر ودول الساحل الثلاث؛ يمكن أن يفتح الباب لإعادة تفعيل اتفاقيات الأمن الحدودي والمراقبة الجوية المشتركة، كما أن إشراك منظمات المجتمع المدني والنُّخَب الأكاديمية في مساراتٍ غير رسميةٍ للحوار؛ قد يُوفِّرُ بيئةً مناسبةً لإعادة بناء الثقة، كما يمكن اقتراح آلية إقليمية مستقلة للتدخُّل السريع تحت مظلَّة الاتحاد الأفريقي أو الأمم المتحدة، كخطوةٍ استباقيةٍ للحفاظ على الاستقرار وتفادِي التدويل غير المرغوب فيه للأزمة.
ختامًا:
تُظهِرُ الأزمةُ “الجزائرية – المالية” عُمْق التحوُّلات السياسية في منطقة الساحل، وتعكس تآكُل المنظومة التقليدية للعلاقات الإقليمية أمام صعود تكتُّلاتٍ جديدةٍ قائمةٍ على المصالح العسكرية والتحالُفات غير التقليدية؛ لذا فإن قدرة الطرفيْن على تفادِي التصعيد مرهونةٌ بإرادتها السياسية، وقدرة الأطراف الإقليمية والدولية على لعب دور الوسيط دون الانحياز لأيِّ طرفٍ، وتكْمُنُ في أن الجزائر تُعدُّ لاعبًا محوريًّا في أمْن واستقرار شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، بحُكْم موقعها الجغرافي الإستراتيجي وقدراتها العسكرية والدبلوماسية، كما أن مالي تُمثِّلُ بوَّابة التأثير في عُمْق أفريقيا جنوب الصحراء.
من هنا؛ فإن هذه الأزمة تتجاوز بُعْدَها الثنائي؛ لتأخذَ أبعادًا إقليميةً ودوليةً.
المصادر:
[1] وزارة الدفاع الجزائرية، “بيان رسمي حول حادثة تين زواتين”، الجزائر: الموقع الرسمي، 31 مارس 2025.
[2] وزارة الخارجية المالية، “تصريح حول حادثة الطائرة”، باماكو: وكالة الأنباء المالية، 1 أبريل 2025.
سكينة إبراهيم، الجزائر ومالي.. تفاصيل أزمة خلافات متراكمة فجرتها طائرة مسيرة، العربية، ١١ إبريل ٢٠٢٥، https://shorturl.at/b6eqQ .
[3] الجزائر ومالي تنقلان خلافاتهما إلى مجلس الأمن بسبب أزمة «إسقاط درون»، الشرق الأوسط، ١٠ إبريل ٢٠٢٥، https://shorturl.at/nZnTM .
[4] نورة مجدوب، توتر متصاعد على حدود الساحل: أزمة الجزائر ودول المجموعة، صراع نفوذ وأمن إقليمي،BBC عربي، ٩ إبريل ٢٠٢٥، https://www.bbc.com/arabic/articles/cp311yplz4yo .
[5] الجزائر: هل تؤثر الخلافات بين الجزائر ومالي على الاستقرار في منطقة الساحل؟، الحرة، ١١ إبريل ٢٠٢٥، https://shorturl.at/LPRGj .