يبدو أن غانا مقبلةٌ على مرحلةٍ تاريخيةٍ مهمةٍ؛ بفوز جون ماهاما، مرشح حزب المعارضة في الانتخابات الرئاسية، في ظِلِّ أزماتٍ اقتصاديةٍ طاحنةٍ تعصف بالبلد الغرب أفريقي؛ بسبب ارتفاع تكاليف الديون الحكومية؛ لتؤكد أكرا أنها استثناءٌ ديمقراطيٌّ في منطقة غرب أفريقيا؛ حيث تختلف عن غيرها من بلدان غرب أفريقيا؛ من حيث الانتقال السِّلْمي للسُّلْطة، في منطقةٍ عصفت بها رياح الانقلابات العسكرية والتحدِّيات الدستورية وحركات التمرُّد، وتُعدُّ هذه الانتخابات هي التاسعة في البلاد، مُنْذُ إعادة العمل بنظام التعدُّدية الحزبية في أوائل التسعينات، وتمكَّنت من تحقيق التغيير بشكلٍ متكررٍ، وبشكلٍ هادِئٍ وسِلْمِيِّ، وتنظيم انتخابات تنافسية وشفَّافة؛ ما يُعزِّزُ من سُمْعتها في إضفاء الطابع المؤسسي على التحوُّلات الرئاسية القائمة على القواعد الحُرَّة النزيهة.
نظام الحكم والنظام الانتخابي في غانا
تُمثِّلُ غانا واحدةً من دول غرب أفريقيا التي شهدت تداولًا للسلطة وحدوث التحوُّلات الانتخابية؛ بانتقال السُّلطة من الحزب الحاكم للحزب المعارض، منذ تبنِّيها التعدُّدية الحزبية في التسعينيات من القرن المنصرم، مع التزام الغانيِّين باحترام نتائج الانتخابات وتقاسُم السلطة، في ظِلِّ مستوى منخفض من العُنْف الانتخابي، وتتبنَّى غانا نظام الحُكْم الرئاسي، وتُجرى الانتخابات الرئاسية كُلّ أربع سنوات لانتخاب الرئيس الذي يكون رئيس الدولة والقائد العام للقوات المسلحة من خلال نظام الأغلبية.
وفي السياق ذاته، لكي يفوز بالانتخابات الرئاسية في الجولة الأولى، يجب أن يحصل المرشح على أكثر من نصف الأصوات المُدْلَى بها، إذا لم يتم تجاوز هذه النِّسْبة ستُجرى جولةٌ ثانيةٌ بين المرشحيْن، اللذيْن حصلا على أكبر عددٍ من الأصوات من الآن وحتى نهاية ديسمبر.
وبالنسبة للانتخابات التشريعية في غانا؛ فيتمُّ إجراؤُها بنظام الدائرة الواحدة ذات العضو الواحد؛ حيث يكون الفائز هو المرشح الذي يحصل على أكبر عددٍ من الأصوات في كل دائرة انتخابية، حتى لو كان هذا العدد أقلّ من 50%، وفي يوم الانتخابات يتوجه كُلُّ ناخبٍ إلى مركز الاقتراع المُخصَّص له ومعه بطاقته الانتخابية؛ حيث يتمُّ التحقُّق من بصماته إلكترونيًّا، ويتمُّ إعطاؤه ورقتيْ الاقتراع، وبعد ذلك يتمُّ وضْع علامةٍ على إصبع كُلِّ ناخبٍ أو ناخبةٍ بحِبْرٍ غير قابلٍ للمحْو؛ لمنعهم من التصويت مرَّةً ثانية[1].
الانتخابات الرئاسية والتشريعية في غانا 2024م
بدأت غانا، السبت 7 ديسمبر، إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وسط آمال أن تُسْهِمَ هذه الانتخابات في انتعاشٍ اقتصاديٍّ بعد أسوأ أزمة مالية خلال عقود، والتي أدَّت إلى تخلُّفٍ كبيرٍ عن سداد الديون، واختارت هيئة الانتخابات شعار “صوتك مستقبلك”؛ بهدف تشجيع الناخبين المسجلين على القوائم على التوجُّه إلى صناديق الاقتراع، في الجولة الأولى من الانتخابات العامة، وفي ظِلِّ هذه الظروف، نجد أن تصويت الشباب هو نقطة الفصْل والحسْم في بلدٍ؛ حيث 56% من السكان تحت سِنِّ 25 عامًا، وحيث يبلغ متوسط العمر 21 عامًا.
أبرز المرشحين للانتخابات الرئاسية في غانا
يتنافس 12 مرشحًا على تولِّي سُدَّة الحكم في غانا، ولعل من أبرزهم الآتي
جون دراماني ماهاما
جون ماهاما هو المنافس الرئاسي لحزب المؤتمر الوطني الديمقراطي الذي يبلغ من العمر 66 عامًا، وقد كان رئيس غانا في الفترة من عام ٢٠١٢م إلى عام ٢٠١٧م، وخسر الانتخابات أمام أكوفو أدو في عاميْ ٢٠١٦م :٢٠٢٠م، وقد عزَّز أوراق اعتماده الديمقراطية، من خلال قبوله الهزيمة بفارقٍ بسيطٍ في انتخابات عام ٢٠١٦م، أمام الرئيس الحالي، وتسهيل الانتقال السَّلِس للسلطة، ويتركز برنامجه الانتخابي على إعادة البلاد إلى ما كانت عليه قبْل “أكوفو أدو”.
محمدو باوميا
محمدو بوميا مرشح الحزب الوطني التقدُّمي الجديد الحاكم التي يتزعمه نانا أكوفو أدو، الذي يبلغ من العمر 61 عامًا، وهو أوَّل مسلمٍ يقود حزبًا كبيرًا في غانا منذ عام 1992م، وأول مرشح من خارج المجموعة العِرْقِيَّة الناطقة باللغة الأكانية المهيمنة يقود الحزب، وقد شغل بوميا عددًا من المناصب الحكومية المهمة، ومنها نائب رئيس الجمهورية منذ عام 2017م، ومحافظ البنك المركزي السابق، ويركز برنامجه الانتخابي على الدعوة إلى رقْمَنَةِ الأنشطة لإخراج غانا من المأزق، لكن حكومته أثبتت عجزها في مواجهة الرُّكود الذي استمرَّ لمدة خمس سنوات.
نانا كوامي بيدياكو
يُعتبر نانا بيدياكو وجهًا مألوفًا للغانيِّين؛ لأنه اشتهر باستغلال أعماله في الخُرْدَةِ المعدنية والنوادي الليلية، كما كان له خلافٌ مع السلطات في عام 2022م، بعد أن أحضر نمريْن من الإمارات، وقام ببناء حديقة حيوانات في أكرا لاستيعابها، وعلى الرغم من مقارنة بيدياكو نفسه بفولوديمير زيلينسكي رئيس أوكرانيا، وقد أثارت طريقة إعلان ترشُّحه في الانتخابات الرئاسية حالةً من الجدل؛ لأنه بدأ حملته الانتخابية بصورته مرتديًا قناعًا على اللوحات الإعلانية في جميع أنحاء غانا، واضعًا شعار” القيادة للجيل القادم”، ولم يعلن عن هويته إلا بعد أسابيع من التوقُّعات والتساؤُلات مِن قِبَلِ المواطنين ووسائل الإعلام، وقد فُسِّر ذلك بأن التخفِّي خلف قناع له قوته في التاريخ الأفريقي في تخويف العدو وإرباكه.
آلان كيريماتن
آلان كيريماتن عمل وزيرًا للتجارة واستقال من منصبه للترشُّح في الانتخابات الرئاسية، وكان عضوًا في الحزب الحاكم، وقد أعلن ترشُّحه للرئاسة بشكلٍ مستقلٍ، وأعلن أنه يهدف إلى كسْر احتكار سيطرة حزبيْن على السُّلْطة، وأن غانا تتبع سياسة ” الفائز يأخذ كل شيء” وقد أسّس ما يسمى بحركة التغيير؛ ليعلن ترشُّحه من خلالها، وتُواجه حملته عددًا من المضايقات والاعتقالات لأعضاء الحملة[2].
السياق الراهن لإجراء الانتخابات
يتمُّ إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في غانا، في ظل وضْعٍ اقتصاديٍّ وسياسيٍّ واجتماعيٍّ مُعقَّد للغاية؛ وعليه سيتمُّ إجمال هذه الظروف في الآتي:
أزمات اقتصادية طاحنة
تعاني أكرا منذ سنوات عديدة من أزمات اقتصادية حادَّة؛ بسبب زيادة نسبة الديون الحكومية؛ فقد ارتفع إجمالي ديون غانا إلى 55 مليار دولار في عام 2022م؛ الأمر الذي أجبرها على التقدُّم بطلبٍ للحصول على قرْضٍ من صندوق النقد الدولي بقيمة 3 مليار دولار؛ للتخفيف من حِدَّة الأزمة الاقتصادية الناجمة، خاصَّةً بعدما أصبح أكثر من 850 ألف غاني تحت خط الفقر؛ بسبب التضخُّم وارتفاع الأسعار، وقد كان لهذه الأزمة العديد من التداعيات؛ منها تظاهر المئات في العاصمة أكرا، مطالبين محافظ بنك غانا ونائبيه بالاستقالة؛ بسبب خسارة ما يعادل نحو 5.2 مليار دولار؛ ما أدَّى إلى انخفاض قيمة العُمْلة والتضخُّم.
سياق إقليمي مضطرب
تُعدُّ غانا واحدةً من الجهات الفاعلة القليلة المتبقية التي لا تزال مستقرةً وقادرةً، فهي تتواجد في منطقةٍ تتسم بوتيرةٍ متزايدةٍ من عدم الاستقرار السياسي والتهديدات الأمنية، وإضعاف التحالفات الإقليمية، والابتعاد عن الشركاء الغربيِّين؛ فقد عانت منطقة غرب أفريقيا من الانقلابات العسكرية المتكررة، وعدم الاستقرار السياسي، وتحديات الحوْكمة العميقة في السنوات الأخيرة، فمنذ عام 2020م، شهدت دولٌ مثل “مالي وغينيا وبوركينا فاسو والنيجر” انقلابات عسكرية؛ ما كشف عن هشاشة الديمقراطيات في المنطقة، كما يتزايد خطر انتشار انعدام الأمن في منطقة الساحل، التي تشترك غانا معها في الحدود، وتشهد انتشار الجماعات المسلحة؛ لذلك فهي مُعرَّضة لامتداد العُنْف عبْر حدودها الشمالية من بوركينا فاسو.
انتشار عمليات تعدين الذهب غير الحكومية
أصبح التنقيب عن الذهب بطُرُقٍ غير شرعيةٍ تهديدًا خطيرًا للبيئة والاقتصاد وصحة المواطنين في غانا، من خلال إزالة الغابات، وتدمير الأراضي الزراعية، وتلوُّث التربة والمياه، بواسطة استخدام المواد الكيميائية السَّامة، كما أن أكثر من 40 ألف هكتار من مساحة زراعة الكاكاو، إحدى أهم السلع التصديرية في غانا والدعامة الأساسية للاقتصاد، قد وقعت بالفعل ضحية لأنشطة التعدين غير القانونية، وهذه الظاهرة ليست جديدةً، ولكنها تحْظَى باهتمامٍ شعبيٍّ وسياسيٍّ متزايدٍ؛ نظرًا لزيادة الوعْي بآثارها العميقة وطول الأَمَدِ.
وقد شهدت الأشهر الأخيرة احتجاجات متكررة ضد هذه الأنشطة غير القانونية، فعلى سبيل المثال، أعلن حزب العمل المنظم، وهو ائتلاف غاني يتكون من النقابات والجمعيات، عن إضرابٍ واسع النِّطَاق في أكتوبر، والذي تمَّ تلافيه في اللحظة الأخيرة بعد أن تفاوض الرئيس “أكوفو أدو” مع الائتلاف، وقدَّم خطة عمل ملموسة من أربع نقاط ضد عمليات الذهب غير القانونية.
انتشار ظاهرة شراء الأصوات
حملت الانتخابات المحلية الغانية التي تمَّ إجراؤها في غانا في عام 2023م، العديد من المؤشرات المهمة، فيما يتعلق بإجراء الانتخابات في عام 2024م؛ حيث شهدت تنافسًا كبيرًا بين الحزبيْن المهيمنيْن في غانا، وكانت هذه الانتخابات بمثابة اختبارٍ حاسمٍ قبْل الانتخابات العامة في عام 2024م، وقد قدَّم الحزب الوطني التقدُّمي وحزب المؤتمر الوطني الديمقراطي أموالًا وحوافز أُخرى؛ لإقناع الناس بالتصويت لمرشحيهم المفضلين، وانتشرت ظاهرة شراء الأصوات، كما كشفت نتائج الانتخابات تراجُع شعبية الحزب الحاكم؛ بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية[3].
نتائج الانتخابات في غانا
تشير النتائج الأولية غير الرسمية إلى تقدُّم زعيم المعارضة ورئيس حزب المؤتمر الوطني الديمقراطي، جون دراماني ماهاما، بنسبةٍ وصلت إلى أكثر من 56% من أصوات الناخبين؛ ما يضمن له العودة إلى القصر الرئاسي بعد ثمانية سنوات من العمل المعارض، وكان ماهاما قد حكم غانا لولايةٍ رئاسيةٍ واحدةٍ امتدت من 2012م حتى 2016م، حين خسر الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس الحالي نانا أكوفو أدو، الذي استمرَّ في الحُكْم ولايتيْن متتاليتيْن، مدة كل واحدةٍ منهما 4 سنوات.
وقد أقرَّ مرشح الحزب الحاكم بهزيمته في الانتخابات الرئاسية، وتعهَّد الرئيس الفائز خلال حملته الانتخابية، بإعادة ضبْط أوضاع البلاد على مختلف الأصعدة، وحاول استمالة الشباب الغانيِّين، الذين وجدوا في التصويت سبيلًا للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، وبلغ عدد المشاركين في الانتخابات الرئاسية ما يقارب نحو 18.7 مليون من أصل 34 مليون نسمةٍ.
المتوقع من الرئيس المنتخب جون ماهاما
يتوقّع من الرئيس المنتخب “جون ماهاما” الإسراع في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمالية المُعلنة؛ من أجل تحقيق الاستقرار ولتحقيق الانتعاش الاقتصادي على المدى الطويل والحفاظ على القدرة التنافسية الإقليمية لغانا، بالإضافة إلى توفير فُرَصٍ أفضل للشباب؛ للحصول على تدريبٍ مهنيٍّ جيِّدٍ يُلَبِّي احتياجات سوق العمل، ويفتح أمامهم آفاقًا وظيفية، فضلًا عن الإسراع في تحسين أوضاع المواطنين في المناطق الريفية، وخاصَّةً في الشمال المُهمَّش سياسيًّا واقتصاديًّا، من خلال تحسين فُرَص الحصول على الخدمات وفُرَص الدَّخْل، والتعامُل مع قضية “غالامسي” بشكلٍ أكثر حسْمًا في المستقبل؛ من أجل الحفاظ على سُبُلِ العيش والأساس الاقتصادي للبلاد للأجيال القادمة.
وفي السياق ذاته، سيتعين على الرئيس المنتخب أن يعالج عددًا من القضايا المُلِحَّة، بما في ذلك أزمة تكاليف المعيشة، والبطالة المُتَفَشِّية، وارتفاع الأسعار، وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق الحكومي في القطاعات الاجتماعية، مثل الصحة والتعليم وتعزيز البنية الأساسية لدعْم النمو وخلْق فُرَص العمل، والتعامُل مع عملية الترخيص لمشاريع النفط والغاز الجديدة؛ حيث انخفض الإنتاج، الذي بدأ في عام 2010، في السنوات الخمس التي سبقت عام 2024م، فضلًا عن إجراء إصلاحات شاملة في قطاع الكاكاو.
ختامًا:
تُمثِّلُ الانتخابات الرئاسية الغانية لعام 2024م، نهايةً للنظام الذي أخفق في التعامُل مع الصعوبات الاقتصادية التي زادت من معاناة المواطنين؛ لذلك فالإصلاح هو التحدِّي الوجودي للرئيس القادم، فسيتعين على جون ماهاما، أن يعالج عددًا من القضايا المُلِحَّة منها تكاليف المعيشة، والبطالة وارتفاع الأسعار، وانقطاع التيار الكهربائي المتكرر، بالإضافة إلى خلْق فُرَص العمل، والتعامُل مع عملية الترخيص لمشاريع النفط والغاز الجديدة، وبناءً على ذلك، فإن تنفيذ التدابير الملموسة والفعَّالة في الوقت المناسب سيكون بمثابة خطوةٍ أوَّلِيَّةٍ؛ لاستعادة ثقة المواطنين في حكومتهم المنتخبة ديمقراطيًّا وممثليهم، وبالتالي ضمان استمرار الشباب تحديدًا، في الشعور بالالتزام بالديمقراطية في غانا على المدى الطويل.
