تصاعدت حالة التوتر الدبلوماسي في الفترة الأخيرة بين الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا إثر الموقف القانوني والتصعيد القضائي، الذي تبنته بريتوريا برفع دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل، متهمة إياها بارتكاب إبادة جماعية في غزة، هذا التحرك اعتبرته واشنطن إجراءً استفزازيًا يتناقض مع توجهاتها الجيوسياسية، خصوصًا في ظل دعمها غير المشروط لتل أبيب، مما أدى إلى احتكاك دبلوماسي بين الجانبين، ويأتي هذا التوتر في سياق أوسع من الخلافات الجيوستراتيجية، حيث تواصل جنوب أفريقيا اتباع سياسة عدم الانحياز بشكل عملي، عبر الامتناع عن إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، إضافة إلى اتهامات أمريكية لها بتقديم دعم غير مباشر لموسكو، كما أن تعزيز شراكاتها ضمن مجموعة بريكس (BRICS)، وتوطيد علاقتها بالصين، يُنظر إليه في واشنطن كجزء من إعادة تموضع استراتيجي يتعارض مع المصالح الأمريكية في القارة الأفريقية.
الطرد الأمريكي لسفير بريتوريا
في 15 مارس 2025، أعلنت الولايات المتحدة طرد سفير جنوب أفريقيا لديها “إبراهيم رسول”، وجاء هذا القرار في إطار تصعيد دبلوماسي حاد يعكس تدهور العلاقات الثنائية بين واشنطن وبريتوريا، ويشكل سابقة دبلوماسية تعكس تحولاً استراتيجياً في النهج الأمريكي تجاه الدول غير المسايرة لسياساتها الدولية، وقد استند القرار إلى اتهام السفير الجنوب أفريقي بتبنى خطاباً تحريضياً مناهضاً للمصالح الأمريكية، ما اعتبرته الخارجية الأمريكية إخلالاً بالأعراف الدبلوماسية ومساساً بسيادة الدولة المضيفة، وهو ما يعكس استخدام الولايات المتحدة لأدوات الردع الدبلوماسي كوسيلة لإعادة ضبط توازن القوى في القارة الإفريقية.
ويأتي هذا التوتر في سياق إعادة التموضع الجيوسياسي لجنوب إفريقيا، التي عززت علاقاتها مع محور القوى الصاعدة، لا سيما روسيا والصين، من خلال مجموعة بريكس، التي تهدف إلى تقويض الهيمنة الغربية على النظام الاقتصادي العالمي، بالإضافة إلى مواقف بريتوريا المتشددة تجاه إسرائيل، ودعمها للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، بما في ذلك محكمة العدل الدولية، وهو ما يتعارض مع المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها، كما أن موقف جنوب إفريقيا من الحرب في أوكرانيا، ورفضها الاصطفاف مع العقوبات الغربية على موسكو، زاد من تعقيد العلاقات، ما دفع واشنطن إلى انتهاج دبلوماسية عقابية تجاه بريتوريا.
في المقابل، رفضت حكومة جنوب إفريقيا هذا القرار، حيث اعتبرته تدخلاً في سيادتها الدبلوماسية وخرقاً لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، مشيرةً إلى إمكانية اتخاذ تدابير دبلوماسية مضادة، مثل استدعاء سفيرها للتشاور، أو حتى طرد السفير الأمريكي كإجراء انتقامي..[1]
خلفية الأزمة
تعود جذور الأزمة الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا إلى تباين استراتيجي متزايد في التموضع الجيوسياسي لكلا البلدين، حيث تسعى بريتوريا إلى تعزيز استقلالية قرارها السيادي بعيداً عن النفوذ الأمريكي، بينما ترى واشنطن في هذا التوجه تهديداً لمصالحها في القارة الإفريقية. وقد تزايد التوتر بشكل ملحوظ منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، حيث تبنّت جنوب إفريقيا موقفاً محايداً رسمياً، لكنه تماهى فعلياً مع المصالح الروسية، لا سيما من خلال استمرار العلاقات العسكرية والتجارية مع موسكو، ورفضها دعم العقوبات الغربية، كما أن تعميق التعاون بين بريتوريا وبكين ضمن إطار مجموعة “بريكس” أثار حفيظة الولايات المتحدة، التي تنظر إلى هذه الكتلة الاقتصادية كتهديد للهيمنة الغربية على النظام المالي العالمي، خصوصاً مع مساعي المجموعة لتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي في التجارة الدولية.
إضافة إلى ذلك، لعبت السياسات الجنوب إفريقية تجاه إسرائيل دوراً رئيسياً في تأزيم العلاقات مع واشنطن، حيث اتخذت بريتوريا موقفاً حازماً في دعم القضية الفلسطينية، بلغ ذروته برفع دعوى إبادة جماعية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، وهو ما اعتبرته الولايات المتحدة تحدياً مباشراً لحليفتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط، كما أن تصعيد جنوب إفريقيا لخطابها المناهض للسياسات الأمريكية في المنتديات الدولية، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، عزز القناعة داخل واشنطن بأن بريتوريا لم تعد مجرد شريك غير متوافق، بل أصبحت لاعباً نشطاً في التحالفات المناهضة للمصالح الأمريكية، كل هذه العوامل دفعت إدارة واشنطن إلى انتهاج سياسة الاحتواء الدبلوماسي، عبر طرد السفير إبراهيم رسول، في خطوة تهدف إلى إرسال رسالة سياسية واضحة مفادها أن واشنطن لن تتسامح مع الخطابات والمواقف التي تعتبرها معادية لمصالحها الأساسية.[2]
سيناريوهات مستقبلية
1- تصعيد قد يصل إلى حد القطيعة
قد يؤدي طرد السفير الجنوب إفريقي إلى تصعيد دبلوماسي متبادل، حيث يمكن لبريتوريا أن ترد بإجراءات مماثلة أو حتى تقليص التعاون الأمني والتجاري مع واشنطن، الأمر الذي قد يقود في نهاية المطاف إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وهذا السيناريو ربما يكون الأرجح خاصة بعد الخطوة التي أقدمت عليها الولايات المتحدة، وتصاعد حدة التوتر بينهما.
2- تأثر التجارة الثنائية والاستثمار الأجنبي
إن مستوى العلاقات الدبلوماسية سيؤثر بطبيعة الحال على النواحي الأخرى، فمن المحتمل أن تؤثر الأزمة على المصالح الاقتصادية المشتركة، حيث قد تلجأ الولايات المتحدة إلى فرض قيود على الاستثمارات الأمريكية في جنوب إفريقيا، أو حتى تقليل الامتيازات التجارية، مما قد يدفع بريتوريا إلى تعزيز شراكاتها الاقتصادية مع بكين وموسكو لتعويض أي خسائر محتملة.
3- التهدئة وإعادة ضبط العلاقات
رغم التوتر، قد تسعى الأطراف إلى إدارة الأزمة دبلوماسياً عبر قنوات خلفية للحوار، خاصة إذا أدركت واشنطن أن التصعيد قد يدفع بريتوريا أكثر نحو الصين وروسيا، ويشمل ذلك مفاوضات لإعادة ترتيب العلاقات الثنائية، أو اتفاقيات لعدم التصعيد مقابل الحفاظ على التعاون الاقتصادي والأمني، لا سيما مع المساعي الأمريكية الأخيرة للحصول على معادن الكونغو، والذي قد يدفعها إلى البحث عن مواضع أخرى تمكنها من عقد صفقات معدنية جديدة.
في الختام:
يعد قرار الولايات المتحدة الأمريكية بطرد السفير الجنوب إفريقي إبراهيم رسول يمثل نقطة تحول حرجة في العلاقات الثنائية بين البلدين، مما يعكس تصعيدًا دبلوماسيًا قد تكون له تداعيات واسعة النطاق على المستويات السياسية والاقتصادية والجيوسياسية، هذا الإجراء يعبر عن استخدام الولايات المتحدة لأدوات الضغط الدبلوماسي للتعبير عن استيائها من مواقف بريتوريا المستقلة، خاصة فيما يتعلق بالسياسات الداخلية والخارجية التي تتعارض مع المصالح الأمريكية، وفي ظل السيناريوهات المحتملة التي تم ذكرها، يبقى المستقبل غامضًا ما بين مزيد من التصعيد وإعادة ضبط العلاقات عبر قنوات دبلوماسية، مما يستدعي رؤية استراتيجية من كلا الجانبين لتجنب تفكك العلاقات وضمان الاستقرار الإقليمي.
المصادر:
[1] واشنطن تطرد سفير جنوب أفريقيا وتتهمه بـ”كراهية” ترامب وبريتوريا تعتبر القرار “مؤسفا”، فرانس ٢٤، ١٥ مارس ٢٠٢٥، https://rb.gy/lfv8zf .
واشنطن تطرد سفير جنوب أفريقيا وتتهمه بـ”كراهية” ترامب، الجزيرة نت، ١٥ مارس ٢٠٢٥، https://shorturl.at/6bm4l .
[2] واشنطن تطرد سفير جنوب أفريقيا على خلفية «كراهيته» لترمب، الشرق الأوسط، ١٥ مارس ٢٠٢٥، https://shorturl.at/J9OvF.
جنوب إفريقيا تعتبر طرد سفيرها في واشنطن مؤسفًا، قراءات أفريقية، ١٦ مارس ٢٠٢٥، https://shorturl.at/zX3il .
