في ظلِ التحولاتِ الكبرى التي يشهدها الاقتصادُ العالميُ، تقفُ الصينُ أمام تحديات غير مسبوقة تؤثرُ على استراتيجياتها الاقتصادية والسياسية على المستويين الداخلي والخارجي، ومع احتماليةِ تصعيدِ الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، تزدادُ الضغوطُ على بكين لإعادة تقييم خياراتها وتبنّيِ استراتيجياتٍ قادرةٍ على التكيف مع بيئةٍ دوليةٍ تتسمُ بالحمائية بشكل متزايد والتوترات الجيوسياسية.
عودة ترامب:
تُضيفُ عودة “دونالد ترامب” إلى رئاسة الولايات المتحدة مزيداً من التعقيدِ بالنسبة إلى الصين، فقد شهدتْ فترةُ ولايةِ ترامب الأولى حربًا تجاريةً تاريخيةً، وعودته تعني تجديدَ الرسومِ الجمركية وزيادةَ الحمائية، فقد حرصَ ترمب بعد فوزه في الانتخابات على تسمية فريق حكومي مناهض للصين، بعد أن هدد خلال حملته الانتخابية بفرْضِ رسومٍ جمركيةٍ تصل إلى 60% على الواردات الصينية، ما قد يُوجهُ ضربةً لاقتصادِ الصين[1]، ومن شأن هذا أن يعقّدَ جهودَ بكين الرامية إلى تحقيقِ الاستقرارِ في اقتصادٍ يعاني ركودَ سوق العقارات منذ فترة وارتفاع البطالة بين الشباب وتراجع إنفاق المستهلكين.
من غير الواضح، إن كان ترامب سيمضي في تنفيذِ تعهداتهِ على كافة الواردات من الصين، أو أنه مثلما توقّعَ بعضُ الخبراء، لن يطالَ إلا مجموعةً رمزيةً من المنتجات أم ستصبحُ زيادةُ الرسوم وسيلةً ثابتةً لتوليد إيرادات تعويضاً عن خفْضِ الضرائب الذي وعد به[2]، أم إنه سيستخدمُ التهديد بفرْضِ رسومٍ كورقة تفاوض للوصول إلى اتفاقات مع بكين تخفضُ العجزَ التجاريَ وتعطي أمريكا أفضلية تجارية واستثمارية، مثل اتفاق 2020 الذي أنهى الحرب التجارية الأولى. [3]
ويقول بعض المقربين من ترامب إنه بمجردِ أداء اليمين الدستورية، فمن المرجّحِ أن يبدأ في الوفاء بتعهداته بفرضِ الرسومِ الجمركية، مع التركيز على “عدم التزام” الصين بصورةٍ كاملةٍ بالاتفاق الموقّعِ بين واشنطن وبكين عام 2020، والذي كان يتطلبُ من الصين زيادةَ مشترياتها من السلع والخدمات الأمريكية بمقدار 200 مليار دولار على مدار عامين، ووفقاً للاتفاق، يحقُ للولايات المتحدة رفْعُ الرسوم الجمركية على الصين بسبب عدم الامتثال.[4]
تأثيرُ الرسوم الجمركية:
كانت الصادراتُ الصينية قد انخفضت إلى الولايات المتحدة منذ تطبيق رسوم ترامب الجمركية عام 2018 والتي بلغت 25% على بضائع صينية بقيمة 370 مليار دولار، وكذلك حيازات الصين من سنداتِ الخزانة الأمريكية، لكن هذه المؤشرات غيرُ كافيةٍ للحكمِ على حجم الترابط بين الاقتصادين، فالالتفات للبيانات الصادرة عن الصين تكشفُ عن ارتفاعٍ حادٍ في الصادرات الصينية إلى البلدان التي تصدرُ حاليا مزيداً من البضائع إلى الولايات المتحدة، ووجدت دراسات أجراها Bank of International Settlements لأثر رسوم ترامب الجمركية، أن الأثرَ الأكثر أهمية كان إطالةَ وتعقيدَ سلاسل الإمداد، وليس تقليصَ التجارة العالمية الإجمالية أو تقليلَ اعتمادِ الولايات المتحدة الأساسي على المُدخلاتِ القادمةِ من مصادر صينيةٍ، لأنها باتت تتجهُ إلى ماليزيا وتايلاند وفيتنام والمكسيك بهدف التجميع النهائي ثم توريدها للولايات المتحدة، وهكذا باتَ الاعتمادُ الأساسيُ على الصين أقل وضوحاً، لكن ليس أقل أهمية.[5]
ورغمَ خسارة الصين حوالي 1.5% من نمو الناتج المحلي الإجمالي بين 2018 و2020، فإنه في عام 2023، بلغَ إجماليُ صادرات الصين حوالي 3.6 تريليون دولار، بزيادة بنسبة 40% مقارنة بالفترة بين عامي 2018 و2023، وهذا يعكسُ اعتمادَ الصين على الصادرات كأداةٍ رئيسيةٍ لتحفيز النمو الاقتصادي، خصوصًا في القطاعات المتطورة مثل السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة، مع الأخذ في الاعتبار أن صادراتِ السيارات الكهربائية، على سبيل المثال، زادت بنسبة 58% في 2023 مقارنةً بالعام السابق، ما يُعززُ مكانةَ الصين في الأسواق الأوروبية، رغم الرسوم الجمركية المرتفعة المفروضة، وفق تقارير.
وفي وقتٍ سابقٍ، قالَ رئيس المجلس الصيني لتعزيز التجارة الدولية التابع لوزارة التجارة الصينية “رن هونغ”: ما زلنا على استعدادٍ لتعميقِ التعاونِ مع الولايات المتحدة في التجارة والاستثمار، باعتبارها أكبر سوقٍ لصادراتنا، لكنه أشار أيضا إلى أن الدولَ الناشئةَ والناميةَ تمثل 56.7 في المئة من حجم تجارة الصين، متجاوزةً الشركاء التقليديين مثل الولايات المتحدة وأوروبا.[6]
الواقعُ الاقتصاديُ الصيني:
لقد اعتمدَ النموُ الاقتصادي في الصين لفترةٍ طويلةٍ على العقارات، لكن انهيار هذا النموذج دفعَ للتوجّه إلى تعظيم الصادرات عالية الجودة خاصةً السيارات الكهربائية وألواح الطاقة الشمسية، وهو ما زاد التوتراتِ التجاريةَ مع الغرب، وتُعدُ الصادرات الصينية مدفوعةً بأجندة “شي” التي تركز على التصنيع، واحدة من النقاط المضيئة في الاقتصاد الصيني في الوقت الحالي، وهذا يعني أنه إذا نفذ ترامب تعهداتهُ في شأن الرسوم الجمركية، فإن تأثيرها في الاقتصاد الصيني من المرجّح أن يكون أكبر مما كان عليه خلال فترة ولايته الأولى.
وتفاضلُ الصين حاليا بين أولويات “الإصلاح الهيكلي، والابتكار التكنولوجي، والانفتاح الاقتصادي”، وتعدد الأولويات يوضح التعقيدات التي تحيطُ باقتصاد البلاد وعدم اليقين الجيوسياسي الذي يشكلُ مسارَ الصين بجانب التحدي المتمثل في بناء نموذج للنمو المستدام.
إن الإصلاحَ الهيكليَ باعتباره شرطاً مسبقاً للنمو المستدام يعني تعزيز حماية حقوق الشركات، وتبنّي سياساتٍ نقديةً مرنةً، والحدٌِ من الإنفاق الباهظ، تعزيز شبكة الأمان الاجتماعي عبر رفع دخول الأسر، لتعزيز الاستهلاك المحلي، بهدفِ إعادة التوازن الاقتصادي، وكذلك تطل التكنولوجيا مثل -الذكاء الاصطناعي، والطاقة الخضراء- باعتبارها ستقودُ مرحلةَ النمو التالية في الصين، لكن “الانفتاح الاقتصادي” ورد على ألسنة المسئولين بشكل أكثر تكرارا مؤخرا، وهو توجهٌ يهدفُ لتعميق اندماجها في أنظمة التجارة الدولية، ووضع الصين كقائدة في سلاسل التوريد العالمية عالية القيمة. [7]
خيارات بكين:
يتفقُ الخبراءُ على أن بكين ستحتاج إلى التعامل على مستويين في حال تصاعد المواجهة مع الولايات المتحدة، حيث التخفيفُ من المخاطر قصيرةِ الأجلِ مع تنويع علاقاتها التجارية، وفي “ليما” عاصمة البيرو وخلال قمة أبيك، تعهد الرئيس الصيني بمواصلةِ سياساتِ التحرير الاقتصادي التي من شأنِها “فتح أبواب الصين على نطاق أوسع أمام العالم”[8]، لكن خيارات بكين للرد على رسومِ ترامب أو التأقلمِ معها ليست عديدةً، ومع ذلك، سيكون خفض قيمة اليوان أمام الدولار رداً مألوفاً على الرسوم الجمركية، إذ إن يوان أرخص يعني سلعا صينيةً أرخص للمشترين في الخارج، مما يخففُ من الأضرار التي قد تلحقُ بقدرة الصين التنافسية جراء رسوم ترامب، وقد لجأت بكين إلى ذلك في عامي 2018 و2019 عندما فرضَ ترامب رسوماً خلال ولايته الأولى، خاصةً مع ارتفاع حجم الصادرات الإجمالية للصين بنحو 12 في المئة خلال الأشهر التسعة الأولى من هذا العام مقارنة بالعام الماضي.
ويرى مراقبون أن ذلك سيحمل أخطارَ إثارة غضبِ إدارة ترامب ما يعني فرضَ رسوم جمركية أعلى”، ومن ناحية أخرى، تحدث البعض عن وجود عقبةٍ أيديولوجية غير اعتيادية أمام أي تراجع حادٍ في قيمة العملة، ففي يناير الماضي، استعرض الرئيس الصيني رؤيته لـ”تطوير مالي عالي الجودة”، واعتبر أن الحفاظَ على عملةٍ قويةٍ يعدُ ضرورةً لجعل الصين قوة مالية عالمية.[9]
ومن بين الاستجابات قد يختارُ صناعُ السياسات الصينيون تمديدَ الإعفاءات الضريبية والمزايا الأخرى للمصدرين، وخفض أسعار الفائدة، كما يمكنهم محاولة دفع الولايات المتحدة لإعادةِ النظر من خلال اتخاذ إجراءات انتقامية، مثل رفع الرسوم على المنتجات الأمريكية، وحجبِ إمدادات المعادن الأساسية، وبيعِ سندات الخزانة الأميركية، وفقاً لما ذكرته “غولدمان ساكس”.[10]
لكن مثل هذه السياسات تتطلبُ مخصصاتٍ ماليةً كبيرةً، مما قد يزيدُ من العجز المالي ويضعُ ضغوطًا على الميزانية العامة، ويزيد من التعارض مع الالتزامات الدولية، حيث قد ترى بعضُ الدول أن هذه المزايا تعتبرُ “دعمًا حكوميًا غير عادل” للصناعات الصينية، ما قد يؤدي إلى فرضِ مزيدٍ من الرسوم الجمركية، بالتالي تحملُ تحدياتٍ قد تؤدي إلى نتائج عكسية على الاقتصاد الصيني والعلاقات الدولية.
مسار آخرٌ، هو أن تقدمَ الصين شروطًا أكثر ملاءمة للمستثمرين الأجانب، كما فعلت مع شركة “تسلا”، لجذْبِ رأس المال اللازم للنمو المحلي، ففي نوفمبر، أكد رئيس الوزراء الصيني “لي تشيانغ” على هذا المسعى، بقوله: أن الصين ستسعى إلى تحقيق الانفتاح الاقتصادي لتقديم فرص للأجانب للوصول إلى السوق الصينية.[11]
بجانب أن يُزيدَ المصنعون الصينيون استثماراتهم في قواعد الإنتاج الخارجية لتجنّبِ الرسوم الأميركية، لكن خبراء حذروا من أن سعي المصدرين الصينيين إلى زيادة مبيعاتهم لدولٍ أخرى بغيةَ التعويض عن خسائرهم في السوق الأميركية قد يثيرُ ردودَ فعلٍ عنيفة من تلك الدول أيضاً، مما يزيد توابع وتداعيات الحرب التجارية واشتعالها على جبهات متعددة بالنسبة إلى بكين.[12]
كما ستعمل الصين على استقطاب حلفاء أميركا لمقاومةِ سياسةِ ترامب الحمائية، من خلال تطوير علاقاتٍ أوثق مع شركاء تجاريين آخرين، مثل دولِ جنوب شرقي آسيا وتحسين شروط التجارة مع الاتحاد الأوروبي، عبر خفضِ الرسوم الجمركية بصورةٍ استباقيةٍ في عديدٍ من القطاعات من أجل تعزيز الاستثمارات الأجنبية والتجارة.
لكن ستكون هناك صعوبةٌ في ذلك، إذ صار الاتحاد الأوروبي أكثرَ تشدداً في مواقفه تجاه الصين في السنوات الأخيرة، في ظل غضبٍ أوروبيٍ بسبب دعم بكين للحرب الروسية في أوكرانيا، وهو ما تعدهُ أوروبا تهديداً أمنياً وجودياً يعقّدُ الأمور، بجانب نشوب خلافات حول الدعم الحكومي للصادرات الصيني.
لكن ذلك يظلُ خيارا، وخاصة إذا توترت العلاقاتُ بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ولإغراء قادة أوروبا، قد تقدم الصين بعض الإغراءات، مثل إنهاء التحقيقات التجاريةِ التي أطلقتْ العام الماضي ضد وارداتِ منتجات الألبان واللحوم الأوروبية، وفرضِ الرسومِ الموقتة على “البراندي” الأوروبي، وتشملُ الخطواتُ الأخرى إمكانيةَ تسهيل الوصول إلى أسواق المشتريات الصينية وتعهدات بزيادة الاستثمار في الدول الأوروبية.
كان الاتحاد الأوروبي قد قرر أكتوبر الماضي، زيادةَ الرسومِ الجمركية على السيارات الكهربائية المصنعة في الصين إلى ما يصل إلى 45.3%، لمواجهة ما يقول إنه دعمٌ غير عادل يشملُ تمويلا تفضيليا ومنحاً بالإضافة إلى أراضٍ وبطاريات ومواد خام بأسعار أقل من أسعار السوق، وهي الخطوةُ التي أثارت ردودَ فعل انتقامية من بكين.[13]
وبعدها، أعلنت الصين والاتحادُ الأوروبي خلال محادثاتهما وجود تفاهمات للتوصل لتعهدات الأسعار، وهي آليةٌ للتحكم في أسعار وحجم الصادرات بهدف تفادي الرسوم الجمركية، ومع ذلك، يرى الاتحاد الأوروبي أن المفاوضاتِ مع الصين للتوصل إلى بديلٍ لفرضِ رسومٍ جمركيةٍ على السيارات الكهربائية لا تُحرز تقدماً يُذكر، ولا يتوقع حالياً أي احتمال لإبرام اتفاق سريع في هذا الصدد، وفق بلومبرج.[14]
ختامًا:
تواجهُ الصينُ خياراتٍ متعددةً للتعامل مع الضغوط الاقتصادية والسياسية الناتجة عن السياسات الحمائية المتزايدة في الولايات المتحدة وأوروبا، وتحتاج بكين إلى تحقيقِ توازنٍ بين استراتيجيات قصيرة الأجل مثل تخفيض العملة ودعم الصادرات، واستراتيجيات طويلةِ الأجل مثل تعزيز الابتكار التكنولوجي وتحسينِ العلاقات مع الشركاء التجاريين في جنوبِ شرق آسيا والاتحادِ الأوروبي، فالخطوات التي ستتخذها الصين ستحددُ مدى قدرتها على الحفاظ على مكانتِها كقوةٍ اقتصاديةٍ عالميةٍ، وتجنّبِ أي ركودٍ محتمل في اقتصادها، وهو ما يستدعي استعادةَ المستهلكين المحللين “الثقة” في الأسواقِ باعتبارها الأولوية الأولى، ومع ذلك، فإن أيةَ مفاوضاتٍ مقبلة ستشكلُ ضغطاً أكبر على الصين، لذا ففي حالةِ التفاوض فإنه على الأرجحِ ستقبلُ الصين بشروطٍ أمريكيةٍ في مقابلِ تفادي الأضرار الهائلة للحرب التجارية.
