خلال الأسابيع الماضية، تُكثِّفُ جماعة الحوثي عملياتها العسكرية في مأرب، كمحاولةٍ جديدة لفرض سيطرتها على هذه المحافظة الاستراتيجية بعد سنواتٍ عديدةٍ من المحاولات الفاشلة؛ حيث تسعى الجماعة إلى تغيير المعادلة الميدانية لصالحها، مستغلةً حالة الجمود السياسي والتوتُّرات الاقتصادية التي تعصف بمختلف أطراف الصراع، فمع تفاقُم الأزمة المالية في مناطق سيطرتها، يبدو أن الحوثيين وجدوا في التصعيد العسكري وسيلةً لتحويل الأنظار عن الداخل وإعادة رسْم خطوط التوازنات العسكرية بما يخدم أجندتهم السياسية.
وإلى جانب مأرب، يوسّع الحوثيون نطاق المواجهات لتشمل جبهات عدة؛ حيث اشتعلت المعارك مُجدَّدًا في “الجوف وتعز والبيضاء”؛ الأمر الذي يثير تساؤلاتٍ، حول دوافع الجماعة وراء فتْح أكثر من جبهة في توقيتٍ حسَّاس، فبينما كان يُفترض أن تمضي جهود التهدئة نحو بلورة حلٍّ سياسيٍّ، جاء هذا التصعيد ليخلط الأوراق ويدفع بالملف اليمني نحْو مزيدٍ من التعقيد، خاصَّةً أن هذه الهجمات تأتي في ظل تزايد الضغوط الإقليمية والدولية على الجماعة للانخراط في مسار ٍسياسيٍّ أكثر جدية.
وبالحديث عن مأرب، تسعى جماعة الحوثي باستهداف هذه المحافظة منذ سنوات عديدة؛ من أجل السيطرة عليه؛ لكونها تُمثِّلُ عُقْدةً استراتيجية، تجمع بين الأهمية العسكرية والاقتصادية والسياسية؛ حيث تضمُّ أكبر المنشآت النفطية في البلاد، وتُشكِّلُ الشُّرْيان الرئيسي للطاقة، كما تُعدُّ آخر معاقل الحكومة المعترف بها دوليًّا في الشمال؛ ما يجعل السيطرة عليها هدفًا جوهريًّا للحوثيين، إضافةً إلى ذلك، تحتضن مأرب أكثر من مليونيْ نازحٍ؛ ما يمنحها بُعْدًا إنسانيًّا يزيد من حساسية المعركة حولها؛ إذ إن أيَّ تقدُّمٍ حوثيٍّ في هذه الجبهة قد يؤدي إلى كارثةٍ إنسانيةٍ واسعة النطاق.
تستغل الجماعة حالة الانشغال الدولي بملفات إقليمية أخرى، وتُوظِّفُ التصعيد العسكري كأداةٍ لتحسين شروطها التفاوضية قبْل أيِّ استئناف محتمل للمفاوضات؛ حيث تدرك أن أيَّ اختراق ميداني في مأرب سيمنحها ورقة ضغط قوية في أيِّ مسارٍ سياسيٍّ قادمٍ، في المقابل، تجد القوات الحكومية نفسها أمام اختبارٍ حقيقيٍّ لمدى قدرتها على الصمود ومنْع الحوثيِّين من تحقيق مكاسب استراتيجية تُغيِّرُ موازين القوى، وهو ما يضع مأرب في قلْب معركة حاسمة تتجاوز حدود الجغرافيا لتحدد مسار الصراع اليمني بأكمله.
السياق الراهن في مأرب
في الأسابيع الأخيرة، زادت جماعة الحوثي بشكلٍ كبيرٍ من وجودها العسكري حول مدينة مأرب وسط اليمن، ونشرت تعزيزات تشمل المدفعية الثقيلة والدبابات والعربات المدرعة، كما أقاموا، وفْقًا لوزارة الدفاع اليمنية، مواقع عسكرية جديدة وحفروا خنادق؛ ما يشير إلى الاستعداد لهجوم محتمل واسع النطاق.
وشنَّ الحوثيون بعض الهجمات أيضًا، من أبرزها الهجمات في جبهات متعددة في مأرب، يوم 16 فبراير الماضي؛ حيث أفادت وزارة الدفاع اليمنية بإحباط محاولات تسلُّلٍ للحوثيِّين في جبهتيْ رغوان ومدغل؛ ما أسفر عن سقوط قتلى وجرحى في صفوف الجماعة، بالإضافة إلى مقتل جندي وإصابة أربعة آخرين من القوات الحكومية، كما أعلنت القوات الحكومية في اليوم نفسه، استهداف عناصر حوثية أثناء محاولتها زرْع ألغام وعبوات ناسفة شمال غرب مأرب، وفي جنوب مأرب، تصدَّت القوات الحكومية لمحاولة تسلُّلٍ في قطاعيْ الفليحة والبلق.
وفي 20 فبراير، أعلنت وزارة الدفاع اليمنية، أن اشتباكات اندلعت مع الحوثيين، واستمرت لساعات عقب محاولة الحوثيين تنفيذ عملية هجومية في جنوب مأرب، وبحسب مصدر عسكري، حاولت قوات الحوثيين التسلُّل إلى مواقع عسكرية، بالتزامن مع قصْفٍ مُكثَّفٍ استخدمت فيه المدفعية وقذائف الهاون والـ RPG، إلى جانب الأسلحة الرشَّاشة من عدة مواقع.[1]
ولم يقتصر تصعيد الحوثيِّين على مأرب وحدها، فقد أعلنت الدفاع اليمنية، في 18 فبراير، إحباط محاولة تسلُّل نفَّذتها جماعة الحوثيين في جبهة قناو، شرق بئر المرازيق بمحافظة الجوف، ويوم 23 فبراير، أعلنت الدفاع اليمنية عن تطورات ميدانية في الجبهات مع الحوثيين في محافظات مأرب والجوف وتعز.[3]
وأشارت في بيانٍ إلى التصدي لهجمات للحوثيين، استخدموا خلالها الطائرات المسيرة والمدفعية في جبهات متفرقة بمحافظة مأرب، وقال البيان: إن عناصر من الحوثيين قتلوا، وأما في الجبهات الشرقية لمحافظة الجوف، فقد شهدت (قطاعات العلم والجدافر وشهلاء) اشتباكات مماثلة.
وطبقًا للبيان، استهدفت القوات الحكومية في تعز معدَّات تستخدم في استحداث تحصينات في جبهتيْ الكدحة والضباب، وتمكَّنت من تحييدها، إضافةً إلى الرَّدِّ على مصادر نيران معادية في المطار القديم بالجبهة الغربية للمحافظة.
الجهوزية العسكرية والاحتشاد القبلي لمواجهة التصعيد الحوثي
على الرغم من الهجمات المتكررة والمستمرة حتى لحظة كتابة هذا التقرير، لم يتمكن الحوثيون – حتى الآن – من تحقيق اختراقٍ كبيرٍ في مأرب؛ حيث تواجه قواتهم مقاومة قوية من الجيش اليمني والقبائل المحلية؛ إذ تواصل قبائل مأرب، مثل قبائل مراد وبني عبد وتعدان، لعب دورٍ محوري في الدفاع عن أراضيها ضدَّ التهديدات الحوثية، ففي 28 يناير الماضي، عقدت هذه القبائل اجتماعًا مُوسَّعًا، أكَّدت فيه، رفضها القاطع لأيِّ مفاوضات مع الحوثيين، مُعلنةً تمسُّكها بتحرير أراضيها من قبضة الجماعة.[4]
وخلال الأسابيع الأخيرة، نفَّذت القوات الحكومية عمليات استباقية، استهدفت خطوط إمداد الحوثيين في صرواح والجوبة؛ ما أدَّى إلى إضعاف قدرتهم على تنفيذ هجمات واسعة النطاق، كما لعب الطيران الحربي دورًا حاسمًا في استهداف التعزيزات الحوثية القادمة من صنعاء وعمران.
ومع ذلك، فإن الحوثيين يراهنون على استراتيجية الاستنزاف الطويل؛ حيث يعتمدون على تكتيك “الموجات البشرية” في الهجمات، وهي إستراتيجية عسكرية تتسم جماعة الحوثي بها في حروبها مع الحكومة الشرعية، وتعتمد على إرسال أعدادٍ كبيرةٍ من المقاتلين في هجمات متكررة ومكثفة على مواقع الحكومة؛ بهدف استنزاف دفاعاتها وإجبارها على التراجُع تحت الضغط البشري المستمر، ويقوم هذا التكتيك على مبدأ التضحية بعددٍ كبيرٍ من المقاتلين لتحقيق اختراق في خطوط الطرف المقابل، حتى لو كان ذلك على حساب خسائر بشرية ضخمة.
دوافع الحوثيين للتصعيد
يمكن تفسير التصعيد الحوثي في مأرب، في إطار استراتيجية أوسع، تعكس مزيجًا من الأهداف العسكرية والاقتصادية والسياسية؛ فمنذ سنوات، ظلت مأرب خط الدفاع الأهم للحكومة المعترف بها دوليًّا، وعقبة رئيسية أمام استكمال الحوثيين لسيطرتهم على شمال اليمن. هذه الأهمية جعلت المدينة مركزًا للتصعيد المتكرر؛ حيث تعتبر السيطرة عليها بالنسبة للحوثيين نقطة تحوُّل يمكن أن تعيد رسم خارطة النفوذ داخل البلاد.
وعليه يمكن عرْض دوافع الحوثي من التصعيد الراهن في مأرب في النقاط التالية:
1- تغيير موازين القوة:تُمثِّلُ مأرب آخر معاقل الحكومة في الشمال؛ ما يجعلها خط الدفاع الأخير الذي يحُول دون إحكام الحوثيين سيطرتهم الكاملة على هذه الجغرافيا، وتعني السيطرة عليها تغيير موازين القوة وإرسال رسالة واضحة، بأن الحوثيين باتوا الفاعل الوحيد في الشمال بلا منازع، كما أن المحافظة تُشكِّلُ عُقْدةً جغرافيةً مهمةً؛ إذ تقع على تقاطع طرق تربط الشمال بالجنوب؛ ما يعزز أهميتها في أي ترتيبات عسكرية أو سياسية قادمة.
2- تـأمين الموارد الإقتصادية: تمتلك مأرب ثروةً نفطيةً وغازيةً ضخمةً؛ ما يجعلها مصدرًا رئيسيًّا للطاقة، ليس فقط للمناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة، ولكن أيضًا للمناطق الخاضعة للحوثيين، الذين يعتمدون جزئيًّا على الغاز القادم من مأرب لتغطية احتياجات الأسواق المحلية، وفي ظل العقوبات الاقتصادية وشُحِّ الموارد، يسعى الحوثيون إلى السيطرة على هذه الحقول؛ لضمان مصدرٍ دائمٍ لتمويل عملياتهم العسكرية وإدارة سلطتهم في صنعاء والمناطق الأخرى.
3- توجيه الأنظار بعيدًا عن الأزمات الداخلية: يأتي هذا التصعيد في وقتٍ يواجه فيه الحوثيون تحديات داخلية متزايدة، أبرزها أزمة الرواتب التي عمَّقت حالة الغضب الشعبي في مناطق سيطرتهم. فمنذ توقُّف رواتب الموظفين عام 2016، اعتمد الحوثيون على الجبايات والإيرادات الضريبية، إلَّا أن تصاعُد الأزمة الاقتصادية جعل هذا النَّهْج غير كافٍ؛ ما دفع الجماعة إلى استحداث آليات جديدة لمصادرة الأموال، وسط استياء متزايد؛ وعليه، فإن فتْح جبهة جديدة في مأرب يُسْهِمُ في تحويل الأنظار عن التحديات الداخلية وإعادة توحيد الجبهة الداخلية تحت راية “المعركة الوطنية ضد العدوان”.
4- تعزيز الموقف التفاوضي وفرْض معادلات جديدة: يدرك الحوثيون أن أيَّ تسوية سياسية مستقبلية ستتأثر بموازين القوى على الأرض؛ لذلك يسعون إلى تحقيق مكاسب عسكرية تُعزِّزُ موقفهم في أيِّ مفاوضات قادمة؛ حيث قد تمنحهم السيطرة على مأرب القدرة على فرْض شروطهم، سواء فيما يتعلق بتوزيع الثروات أو شكْل السلطة المستقبلية، كما أن التصعيد يهدف إلى اختبار مدى التزام التحالف العربي والولايات المتحدة بدعم الحكومة اليمنية، في ظل تغيُّر الأولويات الإقليمية والدولية.
5- استعراض القوة في مواجهة الضغوط الخارجية: إلى جانب الأهداف الميدانية، يبعث الحوثيون من خلال هذا التصعيد برسائل سياسية وعسكرية إلى مختلف الأطراف، سواء في الداخل أو الخارج، فعلى المستوى الداخلي، تريد الجماعة التأكيد على أنها ما زالت في موقع الهجوم، رغم التحديات الاقتصادية والعسكرية.
أمَّا خارجيًّا، فالتصعيد في مأرب يأتي في وقتٍ تسعى فيه بعض الأطراف الدولية إلى إعادة إحياء مسار التسوية السياسية، وهو ما قد يفسر محاولة الحوثيين فرْض أمرٍ واقعٍ جديدٍ، يُعزِّزُ موقعهم التفاوضي، ويدفع المجتمع الدولي إلى التعامل معهم من موقع القوة.
بناءً على هذه العوامل، فإن التصعيد في مأرب لا يمكن فهمه بمعزلٍ عن المشهد اليمني العام، فهو ليس مجرد هجوم عسكري، بل خطوة محسوبة تهدف إلى تعزيز موقع الحوثيين عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، في لحظةٍ مفصليةٍ من الصراع اليمني.
السيناريوهات المحتملة
السيناريو الأول: معركة استنزاف طويلة
إذا استمرت المعارك بالوتيرة الحالية دون حسْمٍ واضحٍ لأيِّ طرفٍ، فمن المرجح أن تتحوَّلَ مأرب إلى ساحة استنزاف طويل الأمد؛ حيث يخوض الحوثي مواجهات كرٍّ وفرٍّ دون تحقيق مكاسب استراتيجية حاسمة، وفي هذا السيناريو، سيعتمد الحوثيون على استمرار الضغط العسكري واستنزاف القوات الحكومية والقبائل في مأرب، فيما ستسعى الأخيرة إلى الدفاع عن مواقعها وعرقلة أيِّ تقدُّمٍ. يتشابه هذا السيناريو مع ما حدث في السنوات الماضية، عندما حاول الحوثيون مرارًا، السيطرة على المدينة لكنهم اصطدموا بدفاعات صلبة؛ ما أدَّى إلى استنزاف قدراتهم دون تحقيق اختراق حقيقي.
السيناريو الثاني: اختراق حوثي جزئي
في حال تمكُّن الحوثيون من تحقيق تقدُّمٍ ميدانيٍّ في بعض الجبهات، فقد يؤدي ذلك إلى تطويقٍ جزئيٍّ لمأرب؛ ما سيزيد الضغط على القوات الحكومية، وقد يسمح هذا السيناريو للجماعة باستخدام هذا التقدُّم كورقة ضغط في أيِّ مفاوضات مستقبلية، دون الحاجة إلى السيطرة الكاملة على المدينة، كما أن السيطرة على بعض المناطق الحيوية، مثل طرق الإمداد أو المرتفعات الاستراتيجية، قد يمنح الحوثيين أفضليةً ميدانيةً دون الحاجة لخوض معركة شاملة للسيطرة على مأرب بالكامل.
السيناريو الثالث: سقوط مأرب بيد الحوثيين
يعد هذا السيناريو الأكثر خطورة؛ حيث إن نجاح الحوثيين في اختراق دفاعات المدينة والسيطرة عليها بالكامل سيُشكِّلُ تحوُّلًا استراتيجيًّا كبيرًا في المشهد اليمني؛ فسقوط مأرب لن يعني فقط خسارة الحكومة لآخر معاقلها الاستراتيجية في شمال اليمن، بل سيؤدي أيضًا إلى تعزيز موقف الحوثيين في أيِّ مفاوضات سياسية مستقبلية، كما سيترتب على هذا السيناريو تداعيات إنسانية كبيرة، مع نزوح عشرات الآلاف من السكان، فضلًا عن التأثير على موارد الطاقة في البلاد؛ حيث تمثل مأرب أحد أهم مراكز إنتاج النفط والغاز.
أكثر السيناريوهات ترجيحًا
يبدو أن سيناريو معركة الاستنزاف الطويلة هو الأكثر ترجيحًا في المرحلة الحالية؛ حيث لا تزال القوات الحكومية والقبائل الموالية لها تفرض مقاومة شديدة؛ ما يقلل فرص الحوثيين في تحقيق اختراق سريع، كما أن الجماعة نفسها قد لا تكون مستعدةً لخوْض معركة شاملة ومكلفة للسيطرة على المدينة دفعة واحدة، خاصَّةً في ظل الضغوط الدولية المتزايدة عليها، ومع ذلك، فإن استمرار الهجمات الحوثية، دون حدوث تغييرات جوهرية في موازين القوى، قد يقود في نهاية المطاف إلى أحد السيناريوهين الثاني أو الثالث، وهو ما يجعل معركة مأرب مفتوحة على تطوُّرات غير متوقعة.
في مجمل القول:
يُعَدُّ التصعيد الحالي في مأرب اختبارًا حاسمًا لميزان القوى في اليمن؛ حيث إن أيَّ تحوُّلٍ استراتيجيٍّ في هذه الجبهة سيمتدُّ تأثيره إلى المشهد السياسي والعسكري الأوسع في البلاد؛ فبالنسبة للحوثيين، تمثل مأرب مفتاحًا لمكاسب سياسية واقتصادية كبرى، سواء من خلال السيطرة الفِعْلية على المدينة أو عبْر استخدامها كورقة ضغط في المفاوضات، وفي المقابل، فإن قدرة القوات الحكومية والقبائل على الصمود ترتبط بعدة عوامل، أبرزها مستوى الدعم العسكري من التحالف العربي، ومدى تماسُك الجبهة الداخلية، فضلًا عن طبيعة التفاعلات الإقليمية والدولية مع هذا التصعيد، وبذلك، ستحدد نتائج المعركة ليس فقط مستقبل مأرب، بل أيضًا شكْل المعادلة اليمنية في المرحلة المقبلة.
المصادر:
[1] الحوثيون يصعّدون هجماتهم في مأرب والجوف، صحيفة الشرق الأوسط، 20 فبراير، متاح على الرابط: https://shorturl.at/LanAK
