تأثير التقسيمات الاستعمارية علي الأوضاع السياسية والأمنية في الدول الأفريقية

إعداد: أسماء حسن

باحث مساعد في وحدة الشؤون الأفريقية

أسهمت التقسيمات الاستعمارية في أفريقيا في تعقيد المشهد الأمني والسياسي بعد استقلال الدول الأفريقية؛ حيث رسمت القوى الاستعمارية الحدود بشكلٍ تعسُّفيٍّ دون مراعاة للهويات الإثْنيَّة والعِرْقيَّة المتباينة، هذه الحدود المصطنعة خلقت كيانات سياسية غير متجانسة؛ الأمر الذي أدَّى إلى تفاقم الصراعات الداخلية بعد تفكُّك الأنظمة الاستعمارية، وإضعاف مفهوم الدولة الوطنية وتشكيل دولٍ هشَّة تعتمد على أنظمة حُكْم مركزية تعاني من شرعيةٍ ضعيفةٍ؛ حيث تبنَّت بعض النُّخَب الحاكمة سياسات إقصائية تُعزِّزُ هيمنة جماعة إثْنيَّة أو طائفيَّة مُعيَّنة على حساب الآخرين، هذه السياسات عمَّقت من الاستقطاب السياسي، وساهمت في نشوء حركات انفصالية ونزاعات إثْنيَّة داخلية، إضافةً إلى النزاعات الحدودية بين الدول الأفريقية؛ حيث إن العديد من الجماعات العرقية قُسِّمَتْ بين عِدَّة دول؛ ما أدَّى إلى انتشار الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية في العديد من المناطق الأفريقية.

الحدود الاستعمارية والجماعات العِرْقِيَّة في أفريقيا

قام الاستعمار بترسيم الحدود بين الدول الأفريقية دون مراعاة للتجمُّعات العِرْقيَّة والقَبَلِيَّة؛ حيث تم تجاهل التركيبة العِرْقيَّة والإثْنيَّة المُعقَّدة للسكان المحليين؛ ما أدَّى إلى تشكيل كيانات سياسية غير متجانسة، وترتب على ذلك ظهور دولٍ قوميةٍ تضُمُّ مجموعات إثْنيَّة متباينة؛ ما أدَّى إلى زعزعة مفهوم الهوية الوطنية وتعزيز النزاعات العِرْقيَّة داخل الدولة، وفي العديد من الدول الأفريقية تمَّ تقسيم الجماعات العِرْقيَّة بين دول مختلفة؛ نتيجة ترسيم الحدود بشكلٍ عشوائيٍّ؛ ما أسهم في تصاعد النزاعات الحدودية والتوتُّرات الإثْنِيَّة، هذا التوزيع غير الطبيعي للجماعات أثار مطالبات بالانفصال وتمرّد الجماعات العِرْقيَّة عبْر الحدود؛ ما أدى إلى ظهور حركاتٍ انفصاليةٍ وصراعات مسلحة في العديد من الدول الأفريقية، مثل أزمة إقليم بيافرا في نيجيريا واشتباكات التوتسي والهوتو في رواندا وبوروندي، ويرى المؤرخ النيجيري “تويين فالولا” أستاذ التاريخ في “جامعة تكساس”، بأن الاستعمار هو أصل كل الحركات الانفصالية في أفريقيا؛ حيث ساهمت هذه الحدود المصطنعة في تعزيز الاستقطاب السياسي بين النُّخَب الحاكمة؛ حيث سعت بعض الأنظمة إلى استغلال التباينات العِرْقيَّة، من خلال تبنِّي سياسات التحييد؛ ما أدَّى إلى تهميش بعض الجماعات واستبعادها من عمليات صُنْع القرار السياسي هذه السياسات الإقصائية ولّدت شعورًا بالاضطهاد لدى الجماعات المهمشة؛ ما زاد من احتمال اندلاع النزاعات المسلحة، ومن أبرز الجماعات التي تشتَّت في دول شمال أفريقيا عند ترسيم الحدود؛ جماعات “الطوارق” التي تقع في (جنوب الجزائر وأزواد شمال مالي وشمال النيجر وجنوب غرب ليبيا وشمال بوركينا فاسو)، وقد استخدمت القوى الاستعمارية سياسات، مثل «فرق تسد»؛ حيث عزَّزت التوترات بين الجماعات العِرْقيَّة؛ لضمان السيطرة على المستعمرات؛ ما أثَّر سلبًا على بناء مؤسسات الدولة الحديثة بعد الاستقلال، ونتيجةً لهذه السياسات أصبحت الحدود الاستعمارية سببًا رئيسيًّا في إضعاف السيادة الوطنية وتراجُع استقرار العديد من الدول الأفريقية.[1]

الحركات الانفصالية في الدول الأفريقية

تُعدُّ الحركات الانفصالية في أفريقيا واحدةً من أخطر التحديات التي تواجه السيادة الوطنية واستقرار الدول في القارة، وتنْبُع هذه الحركات في الغالب من الانقسامات الإثْنيَّة أو العِرْقيَّة التي تفاقمت نتيجة لتقسيمات استعمارية عشوائية؛ حيث وجدت العديد من الجماعات نفسها جزءًا من دول لم تعكس هويتها أو مصالحها، وفي ظل ضعْف الدولة المركزية بعد الاستقلال، ظهرت حركات انفصالية تطالب بالاستقلال الذاتي أو إقامة دولٍ خاصَّة بها، هذه الحركات غالبًا ما تتمتع بدعم شعبي قوي بين الجماعات الإثْنيَّة، التي تشعر بأنها مُهمَّشةٌ أو مضطهدةٌ من قِبَلِ الحكومات، التي عادةً ما تتبنَّى سياسات مركزية، تُعزِّزُ من سيطرة النُّخْبة الحاكمة من هذه الحركات الانفصالية:[2]

أ‌- الحركة الشعبية لتحرير السودان: في بداية الحرب الأهلية بالسودان، عام ١٩٥٥، ظهرت حركة مسلحة بجنوب السودان، قامت ببعض الأعمال العدائية للمطالبة بالحكم الذاتي لإقليم جنوب السودان، وبعد العديد من الاتفاقات والانتفاضات، انضمَّ جون قرنق للحركة بعد أن تم تكليفه بالقضاء عليها، وفي عام ١٩٨٣، أسّس معهم الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهي حركة سياسية عسكرية تعتبر نفسها حركة تحرُّرٍ وطنيٍّ؛ تهدف إلى مكافحة هيْمنة الشمال على الجنوب والسعي لتحقيق حقوق الجنوبيِّين في السودان، واتخذت القتال وسيلة للتعبير عن مطالبها، وتبنَّت رؤية “تأسيس سودان موحَّد ديمقراطي وعلماني”، واستمر الصراع المسلح بين الحركة والحكومة السودانية حتى نجح جنوب السودان في الانفصال رسميًّا عن الشمال، في يناير ٢٠١١، وتعتبر هذه الحركة من أبرز الحركات الانفصالية في تاريخ السودان؛ حيث تعكس الصراع العميق بين هويات متعددة ومصالح سياسية واقتصادية متباينة.[3]

ب‌- الطوارق في مالي: هم جماعة أمازيغية تسكن الصحراء الكُبْرى، وعند ترسيم الحدود الاستعمارية بين الدول الأفريقية أصبحت في عدة دول مختلفة من شمال أفريقيا، مثل مالي والنيجر والجزائر وبوركينا فاسو وليبيا، وتختلف علاقة الطوارق بالدول التي يسكنون بها؛ حيث إنهم في ليبيا يعيشون في حالةٍ من الاستقرار والهدوء، على العكس في مالي والنيجر؛ إذ إنهم يعانون من التهميش السياسي والاقتصادي؛ ما ساهم في تعزيز تمرُّدهم ورغبتهم الانفصالية وخاصَّةً في مالي؛ حيث كان هناك عِدَّة انتفاضات من قِبَلِ الطوارق للمطالبة بحقوقهم والحصول على اعترافٍ حكوميٍّ بوضعهم الخاص، وقاموا بتصعيد عملياتهم المسلحة في الشمال، وتبنُّوا إستراتيجيات تهدف إلى تعزيز المطالب الانفصالية وفرْض الضغط السياسي على الحكومة المركزية، ومن ثمَّ دخل الطوارق مع الجيش المالي في اتفاقية السلام؛ لإنهاء الصراع الدائر بينهما، ولكن سُرْعان ما انتهت تلك الاتفاقية، وعاد الطوارق إلى العمل المسلح بعد تراجع الثقة في قدرة الحكومة على تلبية مطالبها المتعلقة بالحكم الذاتي، وأعلنت قدرتها على مواجهة القوات الروسية، وتعهَّدت بالاستمرار في القتال وتوسيع جبهاتها، وما زالت حلقة الصراع متصلة حتى الآن، وتزداد الأوضاع الأمنية سوءًا في مالي؛ بسبب سلسلة القتال غير المتناهية.[4]

ت‌- إقليم بيافرا في نيجيريا: ظهرت الانقسامات والتوترات العِرْقيَّة في نيجيريا بعد حصولها مباشرة علي الاستقلال من الاستعمار البريطاني ١٩٦٠، ويقع إقليم بيافرا في جنوب شرق نيجيريا، وقد أعلنت استقلالها كجمهورية بيافرا في 1967، وجاءت تلك الخطوة نتيجةً للتوترات العِرْقيَّة والسياسية والاقتصادية التي كانت متصاعدةً منذ فترة الاستعمار البريطاني، والتي تفاقمت بعد الاستقلال النيجيري، شعب الايبو هو من قاد الحركات في نيجيريا، وهم المجموعة العِرْقيَّة الرئيسية في المنطقة، الذين شعروا بالتهميش والاضطهاد السياسي من قِبَلِ الحكومة المركزية النيجيرية، التي كانت تحت سيطرة الجماعات العِرْقيَّة في شمال وغرب نيجيريا، وقد أدى الاستقلال إلى اندلاع الحرب الأهلية النيجيرية (1967-1970)، أو ما يعرف بحرب بيافرا، التي كانت مزيجًا من النزاعات العِرْقيَّة والاقتصادية والسياسية، استخدمت الحكومة النيجيرية قوة الدولة للقضاء على الانفصال، وتمَّ فرْض حصار اقتصادي وعسكري على المنطقة؛ ما أدى إلى أزمة إنسانية كبيرة؛ حيث مات مئات الآلاف من السكان؛ جرَّاء المجاعة، وفي النهاية سقطت جمهورية بيافرا، في يناير 1970، بعد استسلام القوات الانفصالية، وأُعيد دمْج المنطقة في نيجيريا، لكن ما زالت قضية بيافرا والانفصال، تُشكِّلُ جزءًا من النقاشات السياسية في نيجيريا حتى اليوم، خاصَّةً مع استمرار التوتُّرات حول التنمية الاقتصادية والتمثيل السياسي.[5]

ونجحت بعض الجماعات المسلحة المتمردة في تحقيق أهدافها بالانفصال، والبعض الآخر ما زال في صراعه الدائر مع الدولة؛ الأمر الذي أدَّى بدوره إلى إضعاف البِنْيَة السياسية والأمنية للدولة وما يعقبه من استشراء الجماعات الإرهابية وتفشِّي الأمراض والأوبئة، وهناك العديد من أمثلة الدول التي أعلنت استقلالها، وحصلت على الاعتراف الدولي، مثل إريتريا، التي أعلنت استقلالها في ١٩٩٣ عن إثيوبيا، وشرعت في الدخول للمجتمع الدولي كدولةٍ مستقلةٍ، على الرغم من رفْض إثيوبيا لذلك ومحاولاتها في ضمِّها مرةً أُخرى، وهناك أرض الصومال التي أعلنت استقلالها عن الصومال، ولكنها ما زالت تسعى للحصول على الاعتراف الدولي.[6]

الاستعمار وانتشار الجماعات الإرهابية في أفريقيا

أسهمت الممارسات الاستعمارية في تفاقُم الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مهَّدت الطريق لتفاقُم تلك الظاهرة، ترجع المعضلة الرئيسية إلى ترسيم الحدود الاستعمارية التي لم تراعِ القبائل والجماعات العِرْقيَّة التي تسببت في شعورهم بالاضطهاد والتهميش السياسي والمجتمعي؛ ما أدَّى إلى انضمام أفراد بعض تلك الجماعات إلى الجماعات الإرهابية، كوسيلةٍ للتعبير عن مطالبهم وغضبهم تجاه السلطات الحاكمة؛ ما عزَّز من تواجُد الجماعات المتطرفة داخل الدول الأفريقية، كما أن الفوضى السياسية والأمنية التي تحدث نتيجة الصراعات المستمرة بين الجماعات العِرْقيَّة والحكومة تعمل على استشراء الجماعات الإرهابية في الدول وتهديد المؤسسات السياسية والعسكرية بها، ومن ناحيةٍ أُخرى: استغلت الجماعات الإرهابية المشكلات المجتمعية الناتجة عن التبعية الاقتصادية التي فرضها الاستعمار علي الدول الأفريقية، مثل الفقر وعدم المساواة، من خلال الهيمنة على الموارد الطبيعية؛ ما أدى إلى سهولة تجنيد الشباب والأطفال في الجماعات المتطرفة، وبثّ اليأس والغُبْن في نفوسهم، فالاستعمار كان سببًا في زعزعة الاستقرار الاجتماعي والسياسي؛ ما أدَّى إلى توفير بيئةٍ حاضنةٍ لنشوء وانتشار الجماعات الإرهابية في أفريقيا.

ختامًا:

يمكن القول: إن التقسيمات الاستعمارية التي فرضتها القوى الغربية في القارة الأفريقية خلال القرنيْن “التاسع عشر، والعشرين”، تركت أثرًا عميقًا ومُسْتَدَامًا على المشهد السياسي والأمني في العديد من الدول الأفريقية، فهذه التقسيمات لم تراعِ التكوينات العِرْقيَّة والَقَبَلِيَّة المحلي؛ ما أدَّى إلى نشوء دول ذات حدود مصطنعة، تتعايش فيها جماعات ذات هويات متناحرة؛ الأمر الذي زاد من احتمالات نشوب النزاعات الداخلية، وأضعف الاستقرار السياسي، وقد ساهمت هذه الحدود الاستعمارية في تعزيز نَمَطٍ من الحكومات المركزية، التي اعتمدت غالبًا على الهيمنة السياسية والإقصاء؛ الأمر الذي أدَّى إلى تفاقم الصراعات على السلطة، وأسفرت عن تفشِّي الانقلابات العسكرية وتنامِي التهديدات الأمنية، بما في ذلك الإرهاب والجريمة المنظمة، وبناءً على ذلك، فإن التحديات السياسية والأمنية في أفريقيا اليوم ليست منفصلةً عن موروثات الاستعمار، وتستدعي تعزيز التعاون الإقليمي والدولي؛ لضمان الاستقرار السياسي والأمني بالقارة الأفريقية في المستقبل.

المصادر:

[1] حركات انفصالية في أفريقيا .. أطلال إرث استعماري قديم، DW،  ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٤، https://shorturl.at/yy6nI ،  ١٥ اكتوبر ٢٠٢٤.

عمي دهيبة و سعودى يسمينة، الحركات الانفصالية في أفريقيا المعاصرة – انفصال الإقليم الشرقي لنيجيريا (1967- 1970) نموذجا، مجلة البحوث التاريخية، العدد ٢، ديسمبر ٢٠٢٣، https://www.asjp.cerist.dz/en/article/179703 ،  ١٥ اكتوبر ٢٠٢٤.

[2] إيلي هيدموس، من تيغراي إلى دارفور.. النزعات الانفصالية تهدد دولاً أفريقية، الشرق، ٦ يوليو ٢٠٢١، https://shorturl.at/pdZV2 ،  ١٥ اكتوبر٢٠٢٤.

[3] الحركة الشعبية لتحرير السودان.. بدأت “حركة تحرر” وانتهت إلى فصائل متنازعة، الجزيرة. نت، ١٨ اغسطس ٢٠٢٤، https://shorturl.at/4fTD8 ،  ١٥ اكتوبر ٢٠٢٤.

[4] المهدي الزايداوى، حركة تحرير أزواد.. ماذا نعرف عن “الطوارق” في الصحراء الكبرى؟، الجزيرة. نت، ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٢، https://shorturl.at/xnhVe ،  ١٥ اكتوبر ٢٠٢٤.

طوارق مالي.. شعب يسكن في صحراء مساحتها أكبر من فرنسا، الجزيرة نت، ٨ يونيو ٢٠٢٤، https://shorturl.at/CDS61 ، ١٥ اكتوبر ٢٠٢٤.

[5] نيجيريا.. من “حرب بيافرا” إلى أكبر اقتصاد في أفريقيا، الجزيرة نت، ٢٤ اغسطس ٢٠٢٤، https://shorturl.at/EGdkm ، ١٧ اكتوبر ٢٠٢٤.

حرب بيافرا .. خمسون عاما ولايزال الجرح نازفا، فرانس ٢٤، ٥ سبتمبر ٢٠١٧، https://feji.us/vhny72 ،  ١٧ اكتوبر ٢٠٢٤.

[6] قصة الصراع بين إثيوبيا وإريتريا الذي انتهى في جدة، العربية، 16 سبتمبر ٢٠١٨، https://shorturl.at/nrme4 ،  ١٧ اكتوبر ٢٠٢٤.

“أرض الصومال” ـ حلم الاستقلال يصطدم بعقبة الاعتراف الدولي، D.W،  ٢٠ مايو ٢٠٢٤، https://shorturl.at/EThaK ،  ١٧ اكتوبر ٢٠٢٤.