هناك علاقةٌ وثيقةٌ بين تدهور الأوضاع السياسية وانتشار الأمراض والأوبئة بالدول، ففي الوقت الذي تضْعُف فيه الحكومات وتتفكَّكُ المؤسسات، تبْرُزُ الأوبئة كتهديدٍ لا يمكن تجاهله؛ ما يعكس هشاشة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وعلى مرِّ العصور، أظهرت الأزمات الصحية الكُبْرى، كيف يمكن أن تؤدي النزاعات والحروب والاضطرابات السياسية إلى تفاقُم انتشار الأمراض المعدية؟! حيث تضعف البنية التحتية الصحية وتنهار نُظُم الرعاية الاجتماعية؛ ما يترك المجتمعات فريسةً سهلةً للأوبئة، في هذا السياق، يصبح الفشل في إدارة الأزمات الصحية دليلًا على ضعْف السلطة السياسية؛ ما يؤدي إلى انعدام الثقة في الحكومات وارتفاع مستويات الاستياء الشعبي.
في هذه المقالة، سيتمُّ استعراض كيف تُسهم الأزمات السياسية في انتشار الأوبئة، وكيف تؤدي الأوبئة بدورها إلى تعميق الانقسامات السياسية؟! ما يخلق حلقةً مُفْرَغَةً من التدهور المتبادل.
تأثير الحروب على المنظومة الصحية للدولة
يُعدُّ عدم الاستقرار السياسي – خاصَّةً في حالة الحروب وانتشار الفوضى السياسية – عاملًا محوريًّا في إضعاف المنظومة الصحية داخليًّا؛ فالأزمات السياسية تؤدي إلى تفكُّك مؤسسات الدولة وعدم قدرتها على تنفيذ السياسات الصحية أو تقديم الخدمات الأساسية، إلى جانب تراجُع جودة الخدمات الصحية وانعدام الكفاءة في توزيع المُخصَّصات الصحية، وفي ظل هذه الأجواء المتأزمة، تصبح الأنظمة الصحية أكثر هشاشةً أمام التحديات الكُبْرى، مثل تفشِّي الأمراض والأوبئة المُعْدِية، ونتيجةً لذلك، يُعاني المجتمع من ضَعْف البِنْية التحتية الصحية وغياب العدالة في الوصول إلى الرعاية الصحية، إضافةً إلى ما تُخلِّفُه الحروب من ارتفاع أعداد القتلى وانتشار الجُثث في الشوارع، والتي تصل إلى حدِّ التعفُّن؛ ما جعلها العامل الأكبر في تفشِّي الوباء بين المواطنين.[1]
ملامح تأثير الحروب على انتشار الأمراض والأوبئة
لا تتوقف آثار الحروب عند الحدود المادية فقط، ولكنها تمتدُّ لتصل أبعادًا إنسانيةً؛ حيث إن قضية انتشار الأمراض والأوبئة تُعدُّ أحد التداعيات الإستراتيجية للحروب؛ بسبب انهيار النظام الصحي، وزيادة النُّزُوح الداخلي والخارجي؛ ما يؤدي إلى تفاقُم الأزمات الإنسانية، ومن أهم ملامح تأثير الحروب من الناحية الصحية:
أ- انهيار البنية التحتية الصحية
تؤدي الحروب إلى تدمير البنية التحتية للدولة بشكلٍ عامٍ؛ بسبب استخدام القنابل والمتفجرات والأسلحة الثقيلة، وفي الكثير من الأحيان، يتم استهداف المستشفيات والوحدات الصحية والمراكز الطبية بشكلٍ متعمدٍ؛ بحيث تعجز الدولة عن توفير الخدمات الأساسية وتقديم الرعاية الصحية لمواطنيها، إلى جانب عدم وصول الإمدادات الطبية؛ بسبب حالة الحصار التي تُفرض على بعض الدول خلال الحرب؛ ما يُسبِّبُ انهيارًا للنظام الصحي وتفشِّي الأمراض بين المواطنين.[2]
ب- النُّزوح السكاني والهجرة القسرية
تعتبر القارة الأفريقية واحدةً من أعلى قارات العالم؛ من حيث ارتفاع أعداد النازحين واللاجئين في العالم، وتعتبر النزاعات المسلحة والحروب الأهلية من أهم العوامل التي أدَّت إلى ارتفاع مُعدَّلات النُّزوح الجماعي للسكان في أفريقيا؛ ما يُحفِّزُ على انتشار الأوبئة والأمراض، عبْر الحدود، وفي الدول المجاورة لمناطق النزاعات، خاصَّةً في المُخيَّمَات المُكتظَّة بالنازحين، والتي تفتقر بالأساس لبِنيةٍ تحتيَّةٍ صحية؛ ما يجعلها بيئةً خصبةً لتفشِّي الأمراض المُعْدية، إضافةً إلى افتقار العديد من الدول الأفريقية لإستراتيجيات واضحة؛ لمواجهة الأمراض المنتشرة في حالات النُّزوح.[3]
ت- الضعْف المناعي نتيجة نقْص الغذاء وتلوُّث الماء
كما تمَّت الإشارة من قبْل، أن الحروب تتسبب في تدمير البنية التحتية للدولة؛ بما في ذلك الأراضي الزراعية والبنية التحتية للإنتاج الزراعي، إضافةً إلى محطَّات معالجة المياه وأنظمة الصرف الصحي؛ لذلك تُعدُّ من تداعيات الحروب، النَّقْص الحادّ في المواد الغذائية، الذي يصل في كثيرٍ من الأحيان إلى حدِّ المجاعات؛ ما يؤدي إلى سوء التغذية وضعف الجهاز المناعي لدى الأفراد؛ فيجعلهم أكثرَ عُرْضةً للأمراض المُعْدِية، إلى جانب عدم القدرة على الوصول لمياهٍ نظيفةٍ، والاعتماد على مصادر ملوثة للمياه؛ ما يؤدي إلى تعزيز انتشار أوبئة، مثل الكوليرا والتهاب الكبد والتيفود وغيرهم.[4]
معاناة الدول الأفريقية من تفشِّي الأمراض بسبب الحروب
تعاني العديدُ من الدول الأفريقية من توسُّع انتشار الأوبئة والأمراض المعدية؛ بسبب الحروب والصراعات المسلحة المستمرة، التي أدَّت إلى انهيار الأنظمة الصحية وعدم القدرة على تفشِّي أمراضٍ، مثل الكوليرا والملاريا وجدري القرود، ومن هذه الدول:
جمهورية الكونغو الديمقراطية
تُعاني جمهورية الكونغو الديمقراطية من أزمةٍ إنسانيةٍ حادَّةٍ؛ بسبب عدم الاستقرار السياسي والفوضى السياسية التي تعُمُّ البلاد؛ حيث يشتدُّ القتال بين ميليشيا “إم 23″ وحلفائها من جهةٍ، والجيش الكونغولي مدعومًا بقوات منظمة دول جنوب أفريقيا ومتمردي ما يُعرف بـ”قوات تحرير رواندا” من جهةٍ أُخرى؛ الأمر الذي تسبَّب في نُزُوح الملايين وتركْهم في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى المساعدة؛ ما جعلها تعاني في الآونة الأخيرة من تفاقُم انتشار مرض جدري القردة وارتفاع أعداد الوفيات والمصابين بالوباء، خاصَّةً في مواقع النازحين ذات الكثافة السكانية العالية بالشمال، ويُسبِّبُ هذا المرضُ طفْحًا جلديًّا وبعض الآلام والآفات الأُخرى، التي تؤدي إلى الوفاة في حالة ترْكه بدون علاج، وتُعدُّ مُعدَّلات الوفيات بمرض جدري القردة في الكونغو الديمقراطية أعلى بكثير مما هو عليه في إقليم غرب أفريقيا؛ حيث سجَّلت ٤٧٩ حالة وفاة وآلاف الإصابات، مُنْذُ بداية العام، وتزداد خطورة الفيروس؛ بسبب سرعة انتشاره؛ حيث امتدَّ ليشمل ٢٣ مقاطعةً، إضافةً إلى تحوُّراته الخطيرة المستمرة؛ لذلك يجب على الدول المجاورة في الإقليم، الانتباه لخطورة انتشار هذا الفيروس، وإطلاق الأنشطة التوعوية للأفراد بشأن هذا المرض، إضافةً إلى تدريب وتهيئة الكوادر الطبية، وتعزيز قدرتهم لمكافحة انتشار الوباء، واتخاذ التدابير الوقائية من العدوى، فضلًا عن دوْر الدولة في تعزيز البنية التحتية الصحية وتدعيم قدرتها على تقديم الرعاية والخدمات الصحية، إلى جانب انتشار أمراضٍ أُخرى، مثل الإيبولا؛ الذي يُعدُّ من الأوبئة الفتَّاكة التي تضرب الدولة بشكلٍ متكررٍ، رغم الجهود المبذولة للقضاء عليه، والملاريا؛ وهو أكثر الأمراض المنتشرة بالدولة؛ بسبب سوء الأوضاع المعيشية، والحصْبة الذي أدَّى إلى وفاة آلاف الأطفال؛ بسبب ضعْف حملات التطعيم؛ بسبب الحروب والنُّزوح وعدم القدرة على الوصول للخدمات الصحية، فيروس نقْص المناعة البشرية “الإيدز”، تُعدُّ من أخطر التحديات الصحية التي تواجه الكونغو الديمقراطية؛ بسبب انتشار الفقر، وزيادة العُنف الجنسي ضد النساء والفتيات، ولمواجهة انتشار تلك الأوبئة، شَرَعَتْ في التعاون مع المنظمات الدولية، مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة؛ لتحسين البِنْيَة التحتيَّة الصحيَّة، وتنفيذ حملات تطعيم؛ للحدِّ من انتشار الأمراض، بالإضافة إلى تطوير البِنْيَة التحتيَّة للمياه والصرف الصحي.[5]
السودان
تتسم الأوضاع السياسية في السودان، بعدم الاستقرار والتقلُّبات الحادَّة؛ نتيجة الانقسامات الداخلية وهشاشة الانتقالات السياسية، إضافةً إلى التدخُّلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدولة، فقد نشبت الحرب في السودان بين القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح برهان، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، ووصل الصراع بين الأطراف إلى مرحلةٍ مُعقَّدة، وتتأزَّمُ الأوضاع السياسية بشكلٍ أكبر؛ ما أدَّى إلى نُزوح ملايين الأشخاص وتدمير البِنْيَة التحتيَّة الصحيَّة، إضافةً إلى عجْز الدولة على توفير الرعاية الصحية، أو وضْع سياسات صحية تواجه الأمراض المتفشية في البلاد، مثل أمراض الكوليرا، الذي انتشر؛ بسبب تلوُّث المياه، وسوء الصرف الصحي، وعدم القدرة على الوصول لمصادر مياهٍ نظيفةٍ، وتزداد خطورة انتشار الكوليرا في المناطق التي تضرَّرت من الأمطار الغزيرة والفيضانات، الملاريا؛ وهي واحدةٌ من أكثر الأمراض انتشارًا في السودان، ولكن مع ضعْف النظام الصحي لا تستطيع الحكومة توفير الأدوية أو العلاجات الوقائية، وغيرها من الأمراض، مثل الإيدز والحصبة والأمراض التنفسية والمعوية، التي تفاقمت؛ بسبب ظروف الحرب، وتعمل السودان على تعزيز النظام الصحي وتطوير البِنْيَة التحتيَّة الصحية، وزيادة تدريب العاملين في مجال الرعاية الصحية؛ لتعزيز قدرات الطاقم الطبي وتطوير أنظمة الإنذار المُبَكِّر، والاستجابة بالتعاون مع المنظمات الدولية، إضافةً إلى إطلاق حملات تطعيم واسعة النِّطَاق ضد الأمراض المنتشرة.[6]
ختامًا:
تُسْهِمُ الصراعات المسلحة في القارة الأفريقية بشكلٍ مباشرٍ في تفاقُم الأزمات الصحية، من خلال إضعاف مؤسسات الدولة وتدمير الأنظمة الصحية؛ فالاستهداف المتعمد للبُنَى التحتيَّة الصحيَّة في دولٍ، مثل السودان والكونغو الديمقراطية؛ يؤدي إلى انعدام الاستجابة الطبية الفعّالة وانتشار الأمراض بسرعة، بما في ذلك الأوبئة، مثل الكوليرا والإيبولا والملاريا، إضافةً إلى أن نُزُوح السكان قسْريًّا داخل القارة إلى مُخيَّماتٍ غيْر مُهيَّأَةً، وما يصاحبُهُ من سوء التغذية وانعدام المياه النظيفة، يُشكِّلُ بيئةً خصْبَةً لتفشِّي الأوبئة؛ لذلك تتطلب معالجة هذه القضايا تنسيقًا دوليًّا، تحت مظلة المنظمات الدولية والإقليمية، مثل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي؛ لتعزيز نُظم الرعاية الصحية، وخلْق إطارٍ سياسيٍّ مُسْتدامٍ، يُعزِّزُ السلام والتنمية في أفريقيا.
المصادر:
[1] محمد عبد الرحمن، أوبئة انتشرت بسبب الحروب.. أبرزها طاعون سقوط بغداد، البوم السابع، ٢٢ مايو ٢٠٢٠، https://tinyurl.com/4r82mk2d ، ٢٥ سبتمبر ٢٠٢٤.
[3] فاروق حسين أبو ضيف، ظاهرة اللجوء والنزوح في دول الساحل الأفريقي والصحراء، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، ١٣ يوليو ٢٠٢١، https://www.idsc.gov.eg/Article/details/5962 ، ٢٥ سبتمبر ٢٠٢٤.
[5] جبرين عيسي، تفاقم الأزمة الإنسانية شرقي الكونغو الديمقراطية مع نزوح الملايين، الجزيرة. نت، ٢ إبريل ٢٠٢٤، https://shorturl.at/hpJFc ، ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٤.
مرض فيروس الإيبولا – جمهورية الكونغو الديمقراطية، منظمة الصحة العالمية، ٢٥ اغسطس ٢٠٢٤، https://shorturl.at/HnAZ3 ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٤.
خمسة أسئلة حول تفشي جدري القردة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أطباء بلا حدود، ٣١ يوليو ٢٠٢٤، https://shorturl.at/UCrU9 ، ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٤.
جدري القردة – جمهورية الكونغو الديمقراطية، منظمة الصحة العالمية، ٢٣ نوفمبر ٢٠٢٣،https://shorturl.at/1pJ9J ، ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٤.
تحذير أميركي.. الكوليرا في السودان وصلت مرحلة الخطر، الحرة ٢٥ سبتمبر ٢٠٢٤، https://shorturl.at/vCPT8 ، ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٤.
السودان: استمرار الصراع يفاقم من انتشار الأمراض ويحد من القدرة على مساعدة المحتاجين، الأمم المتحدة، ٨ ديسمبر ٢٠٢٣، https://news.un.org/ar/story/2023/12/1126792 ، ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٤.
