إعداد: ميار هانى
باحثة فى الشأن الدولى
سلطت إقالة رئيس الوزراء البريطانى “ريشى سوناك” لوزيرة الداخلية ” بريفرمان” على خلفية تأجيج التوترات جراء وصفها للتظاهرات لمؤيدة للفلسطينيين بـ”مسيرات كراهية داعمة للإرهاب”، الضوء على إلقاء التصعيد الإسرائيلى فى غزة بظلاله على أوروبا، والتى كشفت عن انقسام أوروبى بوجود تباين فى المواقف حول الحرب فى غزة، وامتداد التوترات لتطال الداخل الأوروبى، وفيما يلى نتناول الانقسامات الأوروبية حول موقفها من التطورات الحالية، ومؤشرات التوتر داخل القارة، وذلك على النحو التالى:
انـقـسـامـات أوروبـيـة
أولًا: على صعيد الاتـحاد الأوروبى
أكد جميع قادة الاتحاد الأوروبى الـ 27، فى أواخر شهر أكتوبر المُنصرم، حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها، مُدينين هجمات حركة حماس، كما أعربوا عن “قلقهم البالغ إزاء تدهور الوضع الإنسانى فى غزة”، مشددين على أهمية وصول المساعدات، بما فى ذلك توفير ممرات الإنسانية، إلا أن ذلك الموقف المُوحد من قِبل الاتحاد الأوروبى، سريعًا ما بدت هشاشته فى الأسبوع نفسه، مع انقسام أوروبا خلال جلسة بالجمعية العامة للأمم المتحدة حول قرار وقف إطلاق النار فى غزة؛ وذلك من خلال تصويت كل من فرنسا وإسبانيا وأيرلندا لصالح القرار، وامتناع ألمانيا وإيطاليا عن التصويت، وتصويت النمسا والمجر والتشيك ضد مشروع القرار.
كما يكمن، داخل قيادة الاتحاد الأوروبى، تباين ملحوظ حول الموقف من التصعيد الإسرائيلى فى غزة بين رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين”، الداعمة بقوة لإسرائيل، وبين الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبى للشؤون الخارجية “جوزيب بوريل”، المعروف بموقفه المنتقد لإسرائيل حتى قبل الأحداث الأخيرة، لدرجة وصفه من قبل صحيفة “بوليتيكو” بأنه “شخص غير مرغوب فيه” بتل أبيب.
وفى أعقاب إعلان إسرائيل حالة الحرب ردًا على شن كتائب القسام “الذراع العسكرى لحركة حماس” عملية طوفان الأقصى، أبدت “أورسولا فون دير لاين” موقفًا داعمًا لإسرائيل، وقيامها بزيارة غير مقررة إليها، وهو الأمر الذى عارضه “بوريل” بتأكيده أن “السياسة الخارجية يقررها قادة أعضاء الاتحاد الأوروبى الـ 27″، فضلًا عن انتقاده موقفها فى عدم حث إسرائيل على اتباع القانون الدولى فى حربها على غزة خلال الزيارة، وبالتالى يختلف موقفه عن موقف رئيسة المفوضية فى إبدائه تعاطفًا فى دعم حقوق الفلسطينيين، والذى تجلى أيضًا فى إصراره على استمرار تدفق المساعدات عقب تعالى الأصوات الداعيه للتعليق الفورى لها. وبالتالى، يوجد تباين فى المواقف على مستوى دول الاتحاد الأوروبى وتصريحات قادة الاتحاد اتجاه التطورات الحالية فى القطاع، وهو ما ينعكس على عدم قدرة الاتحاد الأوروبى فى تبنى دورًا فعالًا فى هذا الملف.
ثانيًا: على صعيد حكومات الدول الأوروبية
يظهر التخبط الأوروبى بشكل واضح بالنظر إلى مواقف الدول الأوروبية منفردة، وعلى سبيل المثال: نجد أن الموقف الفرنسى موقف متطور مع دخول الحرب شهرها الثانى، وذلك من رفض وقف إطلاق النار فى القطاع بحجة أنه سيمثل فرصة لحركة حماس بإعادة تجميع صفوفها والهجوم مرة أخرى، إلى الدعوة لضرورة التوصل لوقف إطلاق النار لحماية المدنيين خلال افتتاح مؤتمر حول الأزمة الإنسانية فى الأراضى الفلسطينية، إذ يمكن تفسير موقف الرئيس الفرنسى “إيمانويل ماكرون” بالحيرة بين التزامه بدعم إسرائيل وأيضًا التزامه بمواثيق حقوق الإنسان والقانون الدولى.
واتسم الموقف الألمانى، وعدد من الدول الأوروبية، منذ بدء العدوان الإسرائيلى على غزة بالدعم القوى لإسرائيل سياسيًا وعسكريًا، والذى يرجع لأسباب تاريخية واضحة، فقد أكد المستشار الألمانى “أولاف تشولتس” على نهج المستشارة السابقة “أنجيلا ميركل” بأن حماية إسرائيل هى جزء من “قانون الدولة”. وعلى الرغم من ذلك، تتعالى الأصوات المعارضة داخل الحكومة بضرورة مراعاة الجانب الإنسانى ووقف قتل الفلسطينيين.
كما نجد أن الموقف الأسبانى والبلجيكى، إلى جانب بعض الدول، أكثر تعاطفًا مع الحقوق الفلسطينية، وهو الأمر الذى تجلى مع تزايد انتقادهم الموجه للنهج الإسرائيلى الذى أدى إلى كارثة إنسانية، حيث أشار رئيس الوزراء البلجيكى “ألكسندر دى كرو” أن “قصف مخيم كامل للاجئين بنية القضاء على إرهابى واحد، لا أعتقد أنه يمكنك القول إن هذا متناسب”، وطالبت وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية والأمين العام لحزب يونيداد بوديموس “إيونى بيلارا” والحكومة الإسبانية، بتقديم “بنيامين نتنياهو” إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب فى غزة.
ملامـح التوتـر داخـل أوروبـا
أولًا: إقـالة وزيـرة الـداخلية البريطانية
فى خطوة سلطت الضوء على تصدير الأزمة لأوروبا واتساع الهوة بين المطالب الشعبية وقرارات الحكومات السياسية، تم إقالة وزيرة الداخلية البريطانية “سويلا برافرمان” من قبل رئيس الوزراء “ريشى سوناك” فى إطار تعديل وزارى ولكنه مرتبط بالحرب فى غزة، على خلفية اتهامها قوات الشرطة فى لندن باتباع “معايير مزدوجة” فى طريقة إدارة التظاهرات، وذلك فى مقال افتتاحى بصحيفة “التايمز” تدين فيه مسيرة متضامنة مع الفلسطينيين وصفتها بـ”مسيرات كراهية داعمة للإرهاب”، وعلق “داونينغ ستريت” إن سوناك لم يوافق عليه.
ثانيًا: مـظاهرات حـاشدة فى أنحاء أوروبا
تشهد شوارع العواصم الأوروبية مسيرات متزايدة، خاصةً مع تفاقم الأزمة الإنسانية جراء التصعيد الإسرائيلى الخطير بالقطاع، مطالبين بوقف فورى لإطلاق النار، وتُجدر الإشارة إلى أن مع بدء اندلاع الاحتجاجات المتضامنة مع فلسطين، اتسم نهج بعض الحكومات الأوروبية فى التعامل معها بالتضييق على تنظيمها وفرض قيود إلى حد تنفيذ الاعتقالات، ويُفسر هذا الموقف فى التعامل مع المتظاهرين لبعض الاعتبارات، على رأسها، نسبة المكون اليهودى والمكون العربى فى التعداد السكانى لهذه الدول.
وعلى سبيل المثال، فرضت فرنسا، موطن أكبر جالية إسلامية ويهودية فى أوروبا، حظرًا على الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، مع السماح لأخرى مؤيدة لإسرائيل، واستخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه لتفريق المسيرات، وذلك بحجة احتمالية أن تؤدى هذه الاضطرابات بالإخلال بالنظام العام، كما منعت الشرطة الألمانية المسيرات الداعمة لفلسطين فى العاصمة برلين، وذلك بدعوى معاداة السامية ومعاداة إسرائيل.
وتُجدر الإشارة إلى أن قد أدت سياسات التضييق والتصريحات الحكومية المنتقدة للمسيرات الداعمة للفلسطينيين، إلى جانب عدة عوامل أخرى، على رأسها ارتفاع أعداد الضحايا والمصابين فى قطاع غزة جراء القصف الإسرائيلى العنيف، إلى حالة من العناد أسهمت فى خروج مسيرات متزايدة فى شوارع العواصم الأوروبية، ما نتج عنه تقليل حدة التصريحات الحكومية فى هذا الشأن، فضلًا عن وجود تغير فى تعامل الحكومات مع هذا الملف.
إلى جانب تنظيم تظاهرات أمام مقرات شركات تصنيع الأسلحة لمحاولة عرقلة شحنات أسلحة مُتجهة إلى إسرائيل، من قِبل نشطاء ونقابات عمال فى المملكة المتحدة وغيرها من الدول، لدور تلك المصانع فى ما يجرى بقطاع غزة. ففى بريطانيا، قام المحتجون بإغلاق المداخل المؤدية إلى موقع شركة “بى أيه إى” البريطانية المصنعة للأسلحة فى كينت، وذلك لتوفير المصنع مكونات وقطع تبديل للطائرات الإسرائيلية المقاتلة المشاركة فى قصف غزة.
كما تم تشديد الإجراءات الأمنية فى عدد من المناطق المختلفة على عدد من المنشآت المعبرة عن فئات معينة داخل المجتمع، لهواجس تتعلق باحتمالية اندلاع أعمال عنف من قِبل الداعمين لفلسطين أو الداعمين لإسرائيل؛ ففى بريطانيا، تم تطبيق إجراءات أمنية من خلال تسيير دوريات شرطة إضافية فى العاصمة لندن، فضلًا عن تمركزها حول أدوار العبادة والمدارس الدينية بشكل خاص. وفى فرنسا، طبقت الشرطة الإجراءات ذاتها على أكبر جمعية يهودية فى باريس. وفى هولندا، تم إغلاق المدارس اليهودية لأسباب متعلقة بالسلامة.
ثالثًا: انقسام اليسار الأوروبى
امتدت تداعيات الحرب فى غزة إلى التوازنات الحزبية الأوروبية، وذلك فى الوقت الذى تسعى فيه بعضها إلى رد مُوحد فيما يتعلق بالحرب. ففى بريطانيا، قد أثار تصريح زعيم حزب العمال “كير ستارمر” عن عدم عزمة للدعوة لوقف إطلاق النار التوترات داخل حزبه، وذلك بانقسامهم بين مؤيديين ومعارضين، بالإضافة إلى تقدم 10 قيادات وعشرات من أعضاء المجالس البلدية لتقديم استقالات جماعية احتجاجًا على موقف زعيم الحزب، وبالتالى يواجه حزب العمال، المُتقدم فى استطلاعات الرأى على حزب المحافظين، انقسامات حادة على خلفية موقفه من التصعيد الإسرائيلى فى غزة، وهو ما قد يهدّد تماسكه المطلوب للفوز بالانتخابات العامة المقبلة. وفى فرنسا، رفض الحزب اليسارى “فرنسا الأبية” وصف عملية طوفان الأقصى “بالإرهابية”، ما أدى لردود فعل عنيفة باستخدام ما اعتبره كثيرون “لغة معادية للسامية”.
وقد أدانت أحزاب يسارية فى إسبانيا انتهاك إسرائيل للقانون الدولى وارتكاب إبادة جماعية وجرائم حرب فى غزة، بل حتى طرح فكرة استدعاء السفير الإسرائيلى من قبل الإئتلاف الحاكم، ومن الجدير بالذكر أن تداعيات الحرب على غزة لا تؤدى إلى انقسام اليسار فى كل مكان. ففى ألمانيا، أدان حزب اليسار، المنتمى إلى نفس المجموعة التى تنتمى إليها حزب “فرنسا الآبية” فى البرلمان الأوروبى، بشكل لا لبس فيه هجوم طوفان الأقصى على إسرائيل.
رابعًا: هشاشة الموقف الأوروبى
اتسمت سياسة الاتحاد الأوروبى تقليديًا، تجاه الصراع (الإسرائيلى – الفلسطينى)، بمحاولة تبنى نهجًا متوازنًا، وذلك مع الإجماع – على مدى عقود – حول طرح حل الدولتين على أساس حدود عام 1967، وهى الصيغة التى تضمن أمن إسرائيل، وتقرير المصير الفلسطينى. ومع مرور الوقت، قد تآكل هذا الإجماع مع ميل العديد من الدول الأعضاء نحو إسرائيل بشكل متزايد، والاقتناع ضمنيًا بفكرة “بنيامين نتنياهو” بإمكانية تجنب القضية الفلسطينية، والتى قوبلت بالتأييد من قبل “دونالد ترامب” من خلال “اتفاقيات إبراهيم”، ثم الرئيس “جو بايدن” من خلال محاولة التطبيع (الإسرائيلى – السعودى).
ومع هجمات حماس فى 7 من أكتوبر، كشفت عن حقيقتين، الأولى عدم إمكانية تجاهل القضية الفلسطينية، والأخرى هى مدى انقسام أوروبا، فبعد اتخاذ الاتحاد الأوروبى موقفًا مُوحدًأ حول التطورات الحالية فى غزة، انقسم بعدها حول مسألة استمرار المساعدات الأوروبية لقطاع غزة من عدمه، ومع تدهور الوضع الإنسانى، انقسم مجددًا فى الجمعية العامة حول قرار وقف إطلاق النار.
وبالتالى يتسم الموقف الأوروبى تجاه التصعيد فى غزة بالتخبط الشديد، وعدم القدرة على ظهور “أوروبا جيوسياسية موحدة”، على خلاف موقفها من أوكرانيا الذى اتسم بوجود نهج أوروبى إستراتيجى واضح قادر على تحديد أهداف مشتركة ضد روسيا، وبالتالى تراجع صورتها “كوسيط نزيه”، خاصةً فى الجنوب العالمى، وتقويض قدرتها على تحقيق أى أهداف.
وختامًا:
كشفت الحرب فى غزة عن خطوط الصدع بين الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى بشكل عام، إلى جانب انقسامات حادة بالداخل بشكل خاص، وغياب “أوروبا جيوسياسية موحدة”، على خلاف سياستها تجاة الحرب (الروسية – الأوكرانية) وتبنيها نهجًا إستراتيجيًا واضحًا قادرًا على تحديد أهداف مشتركة ضد روسيا. ومع استمرار التصعيد الإسرائيلى العنيف فى غزة، وتراجع القبول العالمى للمبرّرات الإسرائيلية، ستواجه الحكومات الأوروبية ضغوطات داخلية متزايدة لتعديل موقفها من الصراع الدائر وعكس المزيد من القلق بشأن الفلسطينيين، مما يرجح أن يترتب عليه تحوّل بعض الأصوات الداعمة للمناداة بوقف إطلاق النار، وبالتالى تعميق الانقسامات بين الدول الأوروبية حول موقفها من الحرب فى غزة.