المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشؤون الدولية > تجارةُ الهندِ الخارجية: أداةُ تَموضعٍ إستراتيجي في نظام عالمي متغير
تجارةُ الهندِ الخارجية: أداةُ تَموضعٍ إستراتيجي في نظام عالمي متغير
- مايو 11, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات وحدة الشؤون الدولية وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: مصطفى مقلد
مقدمة:
في ظلِّ التحولاتِ المتسارعةِ في النظام التجاري العالمي، لم تَعدْ التجارةُ أداةً اقتصاديةً فحسب، بل أصبحتْ وسيلةً فاعلةً في إدارة النفوذ الجيوسياسي، وبناء التحالفات، وموازنة التحديات الاستراتيجية. وتبرز الهند، كقوة صاعدة، في مقدمة الدول التي أعادت صياغة سياستها التجارية لتخدم أجندة أوسع تتجاوز النمو الاقتصادي إلى التموقع الدولي.
اختلالُ العلاقاتِ مع الصين
منذ تولّي حكومة ناريندرا مودي السلطة عام 2014، شرعت الهند في إعادة تشكيل سياستها التجارية على نحوٍ أكثر استقلاليةً، مدفوعةً برؤيةٍ تستهدفُ تعزيزَ مكانتها الاقتصادية والجيوسياسية. جاء هذا التوجّهُ في ظل تصاعد التوترات مع الصين، وسعي نيودلهي لتقليل الاعتماد على السوق الصينية، خصوصًا في القطاعات الحيوية كالتكنولوجيا والتصنيع، عبر إعادة هيكلة سلاسل التوريد العالمية وتحقيق الاكتفاء الذاتي.
لكن رغم هذا التوجه، لا تزالُ الصينُ الشريكَ التجاريَ الأكبرَ للهند، وتبقى صناعات هندية رئيسية – مثل الأدوية والطاقة المتجددة – معتمدةً بشكلٍ كبيرٍ على الموردين الصينيين. فعلى سبيل المثال، تستورد الهند ما يقرب من 70% من احتياجاتها من المكونات الدوائية، معظمها من الصين[1].
الاختلال في الميزان التجاري بين البلدين بات واضحًا؛ حيث تجاوزت الصادرات الصينية إلى الهند 100 مليار دولار، مقابل صادراتٍ هنديةٍ إلى الصين بالكاد تجاوزت 15 مليارًا.[2] وقد حمّلت نيودلهي هذا العجز للممارساتِ التجاريةِ الصينيةِ، لا سيَّما استخدام الحواجز غير الجمركية، مما دفعها إلى تكثيف تحقيقات مكافحة الإغراق، حيث أطلقت أكثر من 30 تحقيقًا ضد الصين خلال عام 2024 وحده[3].
وفي أعقابِ اشتباكاتِ وادي جالوان عام 2020، فرضتْ الهند قيودًا على الاستثمارات الصينية وحظرت العديد من التطبيقات الصينية الشهيرة، مثل “تيك توك” و”وي تشات”، كجزءٍ من إجراءاتِ الحدِّ من النفوذ الرقمي والاقتصادي لبكين. إلا أن هذه القيود لم تُفضِ إلى فك الارتباط الكامل، نظرًا لعمق التشابك الاقتصادي بين البلدين.[4]
هذا الواقعُ أقرّت به وزارة المالية الهندية في دراستها الاقتصادية لعام 2023–2024، التي أشارت إلى أن الهند لا يمكنها – في الوقت الراهن – أن تحلَ محلَ الصين كمصنّعٍ عالمي، مؤكدةً أن الاندماجَ الجزئيَ مع سلاسلِ التوريدِ الصينيةِ قد يكون أمرًا لا مفر منه، سواء من خلال الاستيراد أو عبر استثمارات صينية مشتركة. ويجدُ هذا التوجّهُ دعمًا من مجتمع الأعمال في الهند، حيث تمارس الشركات ضغوطًا لتخفيف القيود المفروضة على الاستثمارات والتأشيرات الصينية، في محاولة لتسهيل إقامة مشاريع مشتركة والوصول إلى التقنيات والمكونات التي يصعبُ توفيرُها محليًا. [5]
قراءةٌ أدقُ للعلاقات مع الصين:
تتعاملُ الهند مع اعتمادها الاقتصادي الجزئي على الصين ضمن إطارٍ أوسعٍ من السعي إلى الاستقلال الاستراتيجي، وهو ما يدفعها إلى تبنّي نهجٍ مركّبٍ يجمعُ بين التحوّط، التنويع، والتحكم السيادي. فالهند لا تسعى إلى قطيعةٍ اقتصاديةٍ كاملةٍ مع الصين، وهو خيارٌ غيرُ واقعيٍ في المدى القريب، لكنها في المقابل لا تسمحُ بتغلغلٍ صينيٍ في القطاعات ذات الحساسية الاستراتيجية. وهذا التوازنُ يمثّلُ جوهرَ رؤيتهِا للعلاقة الاقتصادية مع بكين في ضوء أهدافها الجيوسياسية المستقلة.
أولًا، تنتهجُ الهند ما يمكنُ وصفهُ بـ”التحوّط الاستراتيجي”، فهي تستمرُ في استيرادِ مكوّناتٍ ضروريةٍ للصناعات الهندية—خاصة في قطاعي الأدوية والإلكترونيات—لكنها تفرض قيودًا صارمة على الاستثمارات الصينية في قطاعات مثل التكنولوجيا، البنية التحتية الرقمية، والطاقة. على سبيل المثال، قد تحدد الهند حصة الشركات الصينية في المشاريع المشتركة في قطاع الإلكترونيات بنسبة 10%، بشرط نقل التكنولوجيا، مع إعطاء الأولوية لتطوير التصنيع المحلي.[6]
ثانيًا، تعملُ الهند بجِدٍ على تنويع سلاسل التوريد الصناعية، وذلك من خلال توثيق شراكاتها مع الاتحاد الأوروبي واليابان، في مجالات متقدمة مثل الإلكترونيات وأشباه الموصلات.[7]
ثالثًا، تنظرُ الهند إلى العلاقةِ الاقتصاديةِ مع الصين بوصفها تبادلًا اقتصاديًا محسوبًا، لا شراكةً استراتيجيةً. فهي لا تسمحُ بدخول الاستثمارات الصينية في القطاعات السيادية، وتفرضُ قيودًا على ملكية الشركات الصينية في أيِ مشروعٍ مشتركٍ، كما حظرت تطبيقات ومنصات رقمية تابعة لبكين خشية استخدامها في جمع البيانات أو التأثير على الرأي العام.[8]
وفي الوقت الذي تواصل فيه الهند إدارة اعتمادها المحسوب على الصين – سواء عبر تقييد الاستثمارات في القطاعات الحساسة أو فرض رسوم إغراق – فإنها تكرّسُ جهودًا متوازيةً لبناءِ تحالفاتٍ تجاريةٍ نوعيةٍ. فالاتفاق التجاري مع بريطانيا، والمفاوضات المتقدمة مع الاتحاد الأوروبي، ليست سوى أدوات في صندوق أدوات أكبر يهدف إلى إعادة رسم خريطة التبعية الاقتصادية، وهذا التحولُ من التركيزِ على العلاقةِ الثنائيةِ مع بكين إلى شبكة شراكات متعددة الأطراف، يعكس فهم نيودلهي أن القوة الاقتصادية في عالم متشابك لا تُبنى عبر قطع الروابط، بل عبر نسج خيوط أكثر تنوعًا وقوة.
ملامحُ التحول نحو دور عالمي مستقل
تُظهر الهند تحولًا واضحًا في إستراتيجيتها التجارية من موقعٍ دفاعيٍ إلى نهْجٍ أكثرَ هجوميةً واستقلالًا، يعكس سعيها لإعادة تموضَعها كقوةٍ اقتصاديةٍ عالميةٍ مستقلةٍ، فانسحاب الهند من اتفاقات متعددة الأطراف مثل “RCEP”[9] يعكس نزعة استقلالية إستراتيجية ورفضها لترتيبات قد تضر بصناعاتها، ويؤكد سعيها لوضع قواعد أكثر توافقًا مع مصالحها الوطنية.
كما تميل الهند لعقْد اتفاقاتٍ ثنائيةٍ مرنةٍ مع شركاء مثل الولايات المتحدة وأوروبا، ما يمنحها حريةً أكبر في التفاوضِ وتحقيقِ مكاسبَ محددةٍ دون التزاماتٍ جماعيةٍ واسعةٍ، وتوظّف الهند التجارةَ لخدمة أهدافها الصناعية عبر برامج مثل “صنع في الهند” و”الهند الرقمية”، وتُصمم اتفاقاتها لدعم التصنيع والتكنولوجيا، لا لتحرير الأسواق فقط، ورغم انفتاحها على الاقتصاد العالمي، تحافظ الهند على قيود في قطاعات حساسة كالصحة والزراعة، وتُطالبُ بمعاملةٍ تفضيليةٍ ضمن منظومة التجارة العالمية باعتبارها دولة نامية.
تُرجمَ هذا التوجّهُ الاستراتيجيُ للهند إلى عدد من الاتفاقات التجارية البارزة التي تعكس توجهها نحو تنويع الشراكات وتوسيع النفوذ التجاري
1- الاتفاقُ التجاريُ مع بريطانيا:
تمثّلُ اتفاقيةُ التجارة الحرة بين الهند والمملكة المتحدة التي أُعلن التوصل إلى اتفاق مبدئي بشأنها في 6 مايو الجاري بعد 14 جولة تفاوض، محطة رئيسية في مسار السياسة التجارية الهندية، إذ تهدفُ إلى تعزيزِ صادرات الهند في قطاعاتٍ حيويةٍ مثل النسيج، الأدوية، والخدمات التقنية، إضافةً إلى تعويضِ خسائرَ ناجمةٍ عن تصاعد الحمائية الأميركية وفتْحِ مجالاتِ تعاونٍ جديدةٍ مع شريكٍ تقليديٍ مهمٍ في أوروبا. وتكتسب الاتفاقية بُعدًا جيوسياسيًا مهمًا، خاصة في ظل بيئة عالمية تتسم بتزايد الحمائية الاقتصادية، وتسارع الدول نحو عقد شراكات تجارية ثنائية مع أطراف ذات توجهات متقاربة.[10]
2- اتفاقيةُ التجارة الحرة بين الهند والاتحاد الأوروبي: رهان إستراتيجي متبادل
تُعد مفاوضاتُ اتفاقيةِ التجارة الحرة الشاملة بين الهند والاتحاد الأوروبي من أبرز ملفات السياسة التجارية الهندية في المرحلة الراهنة، وتشكل محورًا مهمًا في استراتيجية نيودلهي الرامية إلى تنويع شراكاتها الاقتصادية وتعزيز نفوذها في الأسواق الغربية خاصة أن الاتحاد الأوروبي أحد أبرز الشركاء التجاريين للهند.[11]
أعادت الأوضاعُ الجيوسياسيةُ المتغيرةُ والحاجة المتزايدة لدى الجانبين لتنويع الشراكات الزخم إلى هذه المفاوضات بين الطرفين بعد خلافاتٍ بشأن التعريفات الجمركية، وحماية الملكية الفكرية، وآليات النفاذ إلى الأسواق، وتنطلق الهند في سعيها نحو هذا الاتفاق من اعتبارات اقتصادية وجيوسياسية متعددة. فهي تسعى إلى فتْحِ أسواقٍ جديدةٍ لصادراتها الصناعية، خاصة في قطاعات الأدوية، التكنولوجيا، والمنسوجات.[12] من جانبه، يهدف الاتحاد الأوروبي إلى تنويع شراكاته التجارية، خاصة في ظل الاستقطاب المتزايد في النظام الدولي.
مع ذلك، سيكونُ التوصلُ إلى اتفاقٍ أمرًا معقدًا، إذ يتطلبُ تنازلاتٍ كبيرةً من كلا الجانبين في مجالاتٍ تتراوح من السيارات والكحول إلى الأدوية والمنسوجات، ويطالب الاتحاد الأوروبي الهند بخفض الرسوم الجمركية بنسبة تزيد عن 100% على السيارات والنبيذ والويسكي.[13]
3- الهند وتقاربٌ محسوبٌ مع واشنطن
خلال زيارة مودي البيت الأبيض في فبراير الماضي، أعلنت الهند والولايات المتحدة عن اعتزامها إبرامَ اتفاقٍ تجاريٍ بحلول الخريف، إذ تسعى الهند إلى حماية نفسها من استراتيجية الرسوم الجمركية المتقطعة التي تنتهجها واشنطن.[14] ولإنجاز الاتفاق، عرضت نيودلهي تقليص الرسوم إلى الصفر على 60% من بنود التعريفة الجمركية في المرحلة الأولى من الاتفاق الجاري التفاوض عليه، كما منحت الهند نفاذاً تفضيلياً لنحو 90% من السلع الأميركية، بما في ذلك تخفيضات الرسوم.[15]
القلقُ المشتركُ بين الولايات المتحدة والهند من صعود الصين، خاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، شكّل أساسًا لتقارب الطرفين خلال الحرب التجارية. وقد رأت واشنطن في الهند شريكًا طبيعيًا في مواجهة النفوذ الصيني، بينما استغلت نيودلهي الفرصة لتطرح نفسها كبديل جزئي للصين في سلاسل الإمداد العالمية، خصوصًا في ظل توجه الشركات الغربية نحو تنويع مصادر التوريد. مع ذلك، لم تنخرط الهند بشكل كلي في المعسكر الأميركي.
وتواجه هذه الشراكات قيودًا، فحفاظ الهند على علاقات متوازنة مع أطراف مثل روسيا وإيران، واعتمادها على الصين تجاريًا، يحد من قدرة الهند على الانخراط الكامل في محاور غربية، بالتالي ستواجه الاتفاقية مع بريطانيا تحديات تتعلق بنقل التكنولوجيا والإنتاج المشترك، بسبب متطلبات صارمة تتصل بالاستخدام النهائي للتقنيات الحساسة. كما أن البيئة الإقليمية غير المستقرة، ولا سيما استمرار التوتر مع باكستان، قد تُضعف من جاذبية الهند كوجهة استثمارية طويلة الأجل.
العلاقاتُ مع روسيا:
تُعدُ العلاقاتُ التجاريةُ بين الهند وروسيا نموذجًا فريدًا لا يُقاسُ بمؤشراتِ التجارة التقليدية، بل يُفهمُ في سياقٍ استراتيجيٍ أوسع يغلب عليه الطابع العسكري وتحكمه اعتبارات سياسية تتعلق بالاستقلال الاستراتيجي للهند. ورغم ما يبدو من توسع في التبادل التجاري مؤخرًا، خصوصًا في قطاع الطاقة، فإن جوهر العلاقة ما زال يرتكز على التنسيق الدفاعي والرمزية السياسية.
يُشكّلُ التعاونُ العسكريُ العمودَ الفقريَ لهذه العلاقة. فروسيا تزوّد الهند بأكثر من 60% من منظومتها التسليحية، بما في ذلك الطائرات المقاتلة، الغواصات، وأنظمة الدفاع الصاروخي.[16] كما يمتد التعاون إلى التصنيع المشترك، مثل مشروع صواريخ “براهموس”، وتقديم خدمات الصيانة وقطع الغيار، ما يجعل الارتباط الدفاعي بين البلدين عميقًا واستراتيجيًا، ولا يمكن استبداله بسرعة أو سهولة.[17]
وتبقى مجالات التبادل السلعي والخدماتي الأخرى محدودة نسبيًا، فعلى الرغم من الطفرة في واردات النفط الروسي إلى الهند بعد 2022، فإن العلاقاتِ التجاريةَ لا تشملُ بعد شراكاتٍ كبيرةً في القطاعات الصناعية أو التكنولوجية أو الخدمات الرقمية، ولا توجد استثمارات روسية واسعة في السوق الهندية، ولا اندماج كبير للشركات الهندية في الاقتصاد الروسي.
وتكتسب هذه العلاقة بعدًا رمزيًا شديدَ الأهمية للهند، إذ تُجسّد تمسّكَ نيودلهي بما تسميه “الاستقلال الاستراتيجي” في سياستها الخارجية. ورغم الضغوط الغربية المتزايدة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، رفضت الهند الانضمام إلى العقوبات ضد روسيا، وواصلتْ تعزيزَ شراكتها التجارية والدفاعية معها، في إشارة واضحة إلى رغبتها في البقاء خارج معادلة الاستقطاب بين الشرق والغرب.
تجارةُ الخدماتِ: جوهر ُالقوة الاقتصادية الهندية
تُعد تجارةُ الخدماتِ أحدَ أعمدةِ الاقتصادِ الهندي الأكثر تأثيرًا عالميًا، وأداة استراتيجية غير صدامية لبناء النفوذ الدولي وتعظيم العائدات. ففي عالم يزداد اعتمادًا على المعرفة والرقمنة، لا تكتفي الهند بدور مصدّر السلع، بل تحولت إلى مركزٍ عالميٍ لتقديم خدماتٍ رقميةٍ، تعليميةٍ، استشارية، وصحية. هذا التوجّهُ يعززُ من مكانة الهند كقوةٍ اقتصاديةٍ صاعدةٍ تتوسعُ بهدوءٍ وكفاءةٍ، دون الحاجة إلى السيطرة على سلاسل الإمداد أو فرض النفوذ بالقوة الصلبة.
يشكّلُ قطاعُ الخدمات أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي للهند، ويضعها ضمن أكبر عشر دول عالميًا في تصدير الخدمات. ففي عام 2023، بلغت صادرات الخدمات الهندية نحو 340 مليار دولار، ما يعادل قرابة ثلث صادراتها الكلية، مما يعكس ثقل هذا القطاع في منظومة التجارة الخارجية الهندية.[18]
وتشمل مكونات تجارة الخدمات الهندية:
-
تكنولوجيا المعلومات
-
الخدمات المالية والاستشارية
-
التعليم والتدريب الرقمي
-
السياحة العلاجية والخدمات الصحية
-
التصميم والهندسة والاستشارات التقنية