تعكس المساعي الإسرائيلية الأخيرة الهادفة إلى ضمِّ أجزاء من الضفة الغربية تصعيدًا خطيرًا في الصراع “الفلسطيني – الإسرائيلي”، الذي يتزامن مع الحرب المستمرة في قطاع غزة؛ فمن شأن التدابير المرتقبة التي تنوي إسرائيل اتخاذها، أن تساهم في تأجيج التوتُّر وتصعيد الأوضاع الميدانية؛ ما يعوق الجهود المبذولة من قبْل الأطراف الإقليمية والدولية لتحقيق التهدئة وإنهاء التصعيد العسكري في قطاع غزة.
وفي هذا الإطار، توالت تصريحات المسؤولين الإسرائيليِّين الداعية إلى ضمِّ الضفة الغربية وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، وفي تطوُّرٍ لافتٍ، أصدر وزير المالية الإسرائيلي المتطرف، الوزير في وزارة الدفاع، بتسلئيل سموتريتش، سلسلة إجراءات بدأ في دفْعها إلى الأمام؛ بغرض ضم 60 % من الضفة الغربية إلى إسرائيل، تبدأ بفرض السيادة الإسرائيلية على المستوطنات اليهودية، وتكتمل بالسيادة على بقية أنحاء المنطقة؛ ما يعكس تحوُّلًا خطيرًا في السياسات الإسرائيلية تِجَاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما يشير هذا التوجُّه إلى إستراتيجية إسرائيلية لتغيير الواقع على الأرض، مستغلةً الظروف الإقليمية والدولية الراهنة.
وتتحدث هذه الخطة عن تغييرٍ جذريٍّ في الوضع القائم اليوم؛ حيث يسيطر فيه الجيش الإسرائيلي على المناطق المصنفة «ج» في الضفة الغربية، وتقوم فيه إدارة مدنية تابعة للجيش بتولِّي مسؤولية الحُكْم، وتقوم فيه الحكومة الإسرائيلية بإدارة شؤون المستوطنين اليهود كمواطنين إسرائيليِّين بالشراكة معها، ويسيطر المستوطنون على 3.5 % من أراضي الضفة الغربية، لكن حكومة بنيامين نتنياهو ضاعفت ثلاث مرات تقريبًا مساحات الأرض الخاضعة لنفوذهم، بحيث أصبح مجموع هذه الأراضي 10%، وهناك 50 % خاضعة مباشرة للجيش الإسرائيلي، في حين تخضع مساحة 40 % من الضفة للسلطة الفلسطينية، لكن الجيش الإسرائيلي ينتهكها بلا هوادة.[1]
بشكلٍ عامٍ، تحتلُّ مسألة ضمِّ الضفة الغربية مكانةً محوريةً في الخطاب الإسرائيلي منذ سنواتٍ عديدةٍ، لا سيما في ظل التصعيد المستمر في الصراع “الفلسطيني – الإسرائيلي”، وفي الوقت الذي تزداد فيه معاناة الشعب الفلسطيني نتيجة الممارسات الإسرائيلية، يظهر الحديث الإسرائيلي عن ضمِّ الضفة الغربية بشكلٍ متزايدٍ؛ ما يفتح المجال لتوقُّع تداعيات قد تكون بالغة الخطورة على المستوييْن المحلي والإقليمي.
وتشير بوضوحٍ التصريحات الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليِّين خلال الأشهر الأخيرة، لا سيما من قِبَلِ وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش، إلى أن إسرائيل بصدَدِ اتخاذ خطوات إستراتيجية لتوسيع سيادتها على الأراضي الفلسطينية، وفي هذا السياق، تبدو التوقُّعات المتعلقة بتوقيت هذه التحرُّكات وتأثيراتها على الأمن الإقليمي والعالمي، موضوعًا يتطلب تسليط الضوء عليه وتحليله في أبعاد مختلفة.
دلالات التوقيت
يشير توقيت الحديث الإسرائيلي عن ضمِّ الضفة الغربية إلى استفادةٍ واضحةٍ من الظروف السياسية والأمنية القائمة في المنطقة، والتي يمكن عرْضها في النقاط التالية:
الظروف السياسية داخل إسرائيل:
بعد صعود التيار اليميني المتطرف، أصبح المشهد السياسي الإسرائيلي مواتيًا لخطط الضَّمِّ؛ فتصريحات سموتريتش المستمرة، التي يؤكد خلالها بالبدْء في التحضير لضمِّ المستوطنات في الضفة الغربية، تُعكس تنامِي القوة السياسية لهذه الحكومة التي تجدُ في الضَّمِّ أداة لتعزيز هيمنتها على الأراضي المحتلة.
الانشغال الفلسطيني:
تُعدُّ الظروف الفلسطينية الراهنة عاملاً آخر يُعزِّزُ توقيت الضَّمِّ؛ فالانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة يُضعف من قدرة الفلسطينيِّين على الرَّدِّ الفعَّال على تحرُّكات إسرائيلية من هذا النوع، على سبيل المثال، في تصريحات لعددٍ من المسؤولين الإسرائيليِّين، تمَّ الإشارة إلى أنه “لا يُوجد كيانٌ فلسطينيٌّ موحدٌّ أو قيادةٌ قادرةٌ على اتخاذ خطواتٍ منسقةٍ لمواجهة هذا التصعيد”[2]؛ ما يعكس الحسابات الإسرائيلية التي ترى أن التوقيت الحالي قد يكون الأنسب لتنفيذ خطة الضَّمِّ.
التعويل على الإدارة الأمريكية الجديدة:
ما يُعزِّزُ من توقيت هذه الخطوة هو الدعم الأمريكي المتوقع من الإدارة المقبلة بقيادة دونالد ترامب، الذي كان قد أبدى دعمه للخطوات الإسرائيلية في الماضي؛ حيث تؤكد تصريحات نتنياهو في عام 2019، والتي قال فيها: “أنا مستعدٌّ لدفْع خطة الضَّمِّ قُدُمًا بموافقةٍ أمريكيةٍ”، على أن إسرائيل ترى في الدعم الأمريكي فُرْصة ذهبية لتعزيز سيادتها على الأراضي الفلسطينية. [3]كما تمَّ التصريح من قِبَلِ سموتريتش في الكنيست، بأن “الفرصة الحالية في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة مهمة لدولة إسرائيل”؛ ما يعكس اعتقادًا إسرائيليًّا بأن الزمن قد حان لاتخاذ هذه الخطوة.
دوافع إسرائيل لتنفيذ خطة الضَّمِّ
تتعدَّدُ الدوافع الإسرائيلية وراء خطة ضمِّ الضفة الغربية؛ حيث يسعى المسؤولون الإسرائيليون إلى تحقيق عِدَّة أهداف إستراتيجية داخلية وخارجية:
إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية:
تعتبر إسرائيل أن ضمَّ أجزاء من الضفة الغربية هو إستراتيجية ضرورية من أجل الأمن القومي الإسرائيلي؛ وعليه تسعى تل أبيب إلى ترسيخ سيطرتها على مساحة واسعة من الأرض؛ حيث يُعتبر الضَّم بمثابة خطوةٍ نحو جعْل المنطقة “ج” جزءًا لا يتجزأ من إسرائيل، كما ستكون المنطقة “ج” التي تشمل نحو ما يقارب من 60% من مساحة الضفة الغربية، محطَّ أنظار إسرائيل للاستيطان والتهويد.
توسيع النفوذ السياسي على المستوى الداخلي:
يُشكِّلُ تعزيز السيطرة على الأراضي الفلسطينية استجابةً للتيار اليميني المتطرف في إسرائيل، الذي يُطالب بتوسيع المستوطنات وتأكيد السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وتؤكد التصريحات التي أدْلَى بها سموتريتش، والتي وصف فيها عملية الضَّمَّ، بأنها “تحقيق حلم تاريخي”، على الطابع الأيديولوجي لهذه الخطوة، كما أن هذه الخطوات تلقى دعمًا من قِبَلِ القاعدة السياسية المتشددة داخل إسرائيل، التي ترى في الضَّمِّ تحقيقًا لمشروعها الاستيطاني.
تقويض فكرة حلّ الدولتيْن:
من بين الأهداف البارزة لهذه الخطة، هو التخلُّص من فكرة حلِّ الدولتيْن التي تدعو إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967؛ إذ ترى إسرائيل أن الضَّمَّ يُشكِّلُ ضربةً قاسيةً لهذه الفكرة، خصوصًا في ظلِّ عدم وجود دولةٍ فلسطينيةٍ موحدَّةٍ وغياب أُفُقٍ سياسيٍّ لحلِّ الصراع، وفي تصريحات نتنياهو الأخيرة، أكَّد أنه “لن يكون هناك دولة فلسطينية على الأراضي التي سيتمُّ ضمُّها”؛ ما يشير إلى أن هدف إسرائيل من الضَّمِّ هو إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم مصالحها الإستراتيجية.
التداعيات المحتملة
يُوجد عدة تداعيات لا شكَّ من حدوثها؛ إذ أقدمت إسرائيل على مخطط ضمِّ أراضٍ من الضفة الغربية، ومن بين هذه التداعيات:
تفاقُم العنف الفلسطيني:
لا شكَّ أن الضَّمَّ سيؤدي إلى تفجُّر موجاتٍ جديدةٍ من العنف؛ حيث سيجد الفلسطينيون في هذه الخطوة تهديدًا مباشرًا لوجودهم وأرضهم، ومن المتوقع أن تصاعُد المقاومة في الضفة الغربية قد يُفْضِي إلى انتفاضةٍ فلسطينيةٍ جديدةٍ.
العُزْلة الدولية لإسرائيل:
من المرجح أن يواجه الضَّم رفضًا واسعًا على الصعيد الدولي؛ فالدول الأوروبية، على سبيل المثال، أكَّدت مرارًا على أن أيَّ ضمٍّ للأراضي الفلسطينية سيُعتبر انتهاكًا للقانون الدولي، كما أشارت وكالة الأمم المتحدة لغوْث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيِّين (أونروا) إلى أن “الضَّمَّ سيُشكِّلُ تهديدًا للجهود الدولية الرامية لإحلال السلام في المنطقة”.
تعقيد العلاقات الإسرائيلية العربية:
الضَّمُّ يهدد بتعقيد العلاقات بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، على الرغم من اتفاقيات “أبراهام” التي تمَّ توقيعها مع بعض هذه الدول، في الوقت نفسه، تؤكد تصريحات المسؤولين الإسرائيليِّين بشأن نيتهم ضمِّ أجزاء من الضفة الغربية على أن هذه الخطوات قد تؤدي إلى انتكاسة في تلك الاتفاقات، وفي هذا السياق، شدَّدَ وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، في تصريحٍ له خلال شهر يوليو الماضي، على أن “أي خطوة لضمِّ الأراضي الفلسطينية ستكون بمثابة تقويضٍ لفرص السلام وتدمير مسار الحلِّ السياسي”. [4]
في الختام:
تعتبر خطة ضمِّ الضفة الغربية واحدةً من أكثر القضايا تعقيدًا في السياسة الإسرائيلية تِجَاه فلسطين، و في ظلِّ الدعْم الدولي المتفاوت والأوضاع الداخلية الفلسطينية المُعقَّدة، قد تجد إسرائيل في هذه اللحظة فُرْصة لفرْض سيادتها على الأراضي الفلسطينية، لكن هذا التوجُّه يعرضها لمخاطر كبيرة، بدْءًا من العُزْلة الدولية مرورًا بتصعيد الصراع الداخلي الفلسطيني إلى احتمال تفاقُم الوضع الإقليمي.
المصادر:
[1] سموتريتش يكشف خطة لإلغاء «الإدارة المدنية» وضم 60 % من الضفة، صحيفة الشرق الأوسط، 7 ديسمبر، متاح على الرابط: https://shorturl.at/631PK
[2] تصور إسرائيل لليوم التالي لحرب غزة.. هل تملك أدوات بديلة عن حماس؟، 6 ديسمبر، متاح على الرابط: https://shorturl.at/j5JEJ
