المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الشرق الأوسط > تجدد النزاع بين تركيا واليونان حول المناطق البحرية: قراءة في السياقات والتداعيات
تجدد النزاع بين تركيا واليونان حول المناطق البحرية: قراءة في السياقات والتداعيات
- يوليو 20, 2025
- Posted by: Maram Akram
- Category: تقارير وملفات وحدة الشرق الأوسط
لا توجد تعليقات

إعداد: أماني السروجي
باحث في برنامج دراسات الدول التركية
أثارتْ الخريطةُ البحريةُ التي رفعتها تركيا إلى لجنة المحيطات التابعة لليونسكو في يونيو 2025 موجةً من التوترات المتجددة بينها وبين اليونان، وذلك في سياق تحرك تركي يُقدَّم باعتباره تنظيمًا أكاديميًا لأنشطةٍ بحريةٍ متعددةٍ، بينما تعتبره أثينا تجاوزًا لسيادتها على مناطق بحريةٍ تقع ضمن ولايتها. ومع أن الجدل القانوني ليس جديدًا في العلاقات الثنائية، فإن اختيارَ توقيت هذه الخطوة، والجهة التي تمَّ التوجّه إليها، فضلًا عن طبيعة الخريطة ذاتها، يشير إلى تحول لافت في آليات إدارة هذا الخلاف.
لذا يسعى هذا التقرير إلى تناول السياقين الإقليمي والدولي المحيطين بتجدد هذا النزاع البحري، بالإضافة إلى تحليل التداعيات القانونية والسياسية المحتملة التي قد تترتب على هذا التطور في المدى القريب والمتوسط.
أولًا: البعد التاريخي والقانوني للنزاع
تاريخيًا، يتسمُ الخلافُ التركي اليوناني حول ترسيم المناطق البحرية بطابعٍ مركّبٍ، إذ يتداخل فيه البُعد القانوني مع اعتباراتٍ جيوسياسيةٍ تتعلق بتوازنات القوة الإقليمية، والموقع الاستراتيجي للجزر، ومصادر الطاقة في شرق المتوسط، ويعود أصل الخلاف إلى تباين الرؤى بشأن قضايا مثل الجرف القاري، والمنطقة الاقتصادية الخالصة، والمياه الإقليمية، إلى جانب وضع الجزر ومدى تأثيرها في الترسيم، لا سيَّما في ظل الكثافة الجغرافية للجزر اليونانية القريبة من السواحل التركية.
وتتفاقم هذه التعقيدات بفعلِ البُعد القبرصي، حيث ترفضُ أنقرة أي ترتيباتٍ بحريةٍ تُبرمها جمهورية قبرص دون إشراك القبارصة الأتراك، وتعتبر ذلك انتقاصًا من مبدأ التمثيل المتساوي للموارد، وفي هذا السياق، تُعد التحركات البحرية، خصوصًا تلك التي تتخذ طابعًا ثنائيًا، مؤشّرًا سياسيًا يكشف عن مواقف الأطراف المختلفة من تقاسم الفضاء البحري، ويجسّد اتجاهات النفوذ والتنظيم والإدارة في شرق المتوسط، حتى وإن جاءت بصيغة فنية أو تقنية.
كما ينبعُ التعقيدُ القانوني في الخلاف من غياب مرجعيةٍ مشتركةٍ مُلزِمةٍ للطرفين، فبينما تستند اليونان إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ترفض تركيا الاعتراف ببعض مبادئها، رغم إعلان التزامها بجوانب من القانون العرفي الدولي، ويمثّل أحد أوجه الخلاف المركزية في مدى أحقية الجزر بامتلاكِ منطقةٍ اقتصاديةٍ خالصة مساوية للبر، وإمكانية اعتماد تركيا على “الخط الوسيط” كأساسٍ للترسيم دون مفاوضاتٍ، إضافةً إلى الجدل حول ما إذا كان تقديمُ خريطة لليونسكو يُعد عملًا تقنيًا أم ذا طابعٍ سياسيٍ، وتشير معظم التقديرات القانونية إلى أن التخطيط البحري لا يُعد بذاته ترسيمًا حدوديًا، لكنه يُستخدم أحيانًا لبناء حالةٍ عرفيةٍ أو دعمٍ قانونيٍ لموقفٍ سياسيٍ لاحقٍ، وهو ما تخشى منه أثينا.
ثانيًا: مضمون الخطة التركية
تُقدَّم الخطة، التي أعدّها فريقٌ من جامعة أنقرة ورفعتها تركيا إلى اللجنة الحكومية الدولية لعلوم المحيطات التابعة لليونسكو، باعتبارها مشروعًا أكاديميًا يهدف إلى تنظيم الأنشطة البحرية ضمن مناطق محددةٍ في بحر إيجه وشرق المتوسط، بما يشملُ مناطقَ متنازعَ عليها مع اليونان، وتغطي الخطةُ مجالاتٍ متعددةً مثل الصيد البحري، والأنشطة المرتبطة بالطاقة المتجددة، وحركة الملاحة، والسياحة البيئية، كما تمثّل الأساسَ المقترح لإنشاءِ مناطقَ حمايةٍ بحريةٍ وفقًا للرؤية التركية.
ثالثًا: السياق الإقليمي والسياسي
لا يمكنُ عزْلُ الخطوة التركية عن عددٍ من المعطيات السياسية الجارية في الإقليم؛ إذ تأتي في سياقٍ إقليميٍ متسارعٍ يُعيد تشكيل التوازنات في شرق المتوسط، ويدفع أنقرة إلى التحرك الاستباقي لتثبيت رؤيتها للمناطق البحرية.
1- تقديم اليونان خطة لترسيم المناطق البحرية للاتحاد الأوروبي
قدّمتْ أثينا في إبريل 2025 خطةً لتخطيط المناطق البحرية للاتحاد الأوروبي، والتي حددت المناطق البحرية لاستخداماتٍ متعددةٍ مثل الصيد والنقل والطاقة المتجددة، والتي تأخرت في تقديمها بسبب قضايا جيوسياسية في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهذه الخطة جزءٌ من جهود اليونان لترسيم مناطقها الاقتصادية الحصرية في البحر، وهو ما أثارَ اعتراضَ تركيا حيث اعتبرت أن الخطة تنتهكُ مناطق صلاحيتها البحرية في بحر إيجة وشرق المتوسط.[1]
2- الإعلان اليونان عن نية إنشاء محميات بحرية
في يونيو 2025، أعلن رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس أن الإجراءاتِ القانونيةَ لإنشاء أول محميتين بحريتين في اليونان ستنطلق بنهاية الشهر، في منطقتي بحر الأيوني وجنوب سيكلادس. ورغم أن المبادرة رُوّج لها باعتبارها جزءًا من التزامات أثينا البيئية لتحقيق هدف “30٪ من الحماية البحرية بحلول عام 2030″، فإنها أتت في توقيتٍ حساسٍ بعد أيامٍ من كشف تركيا عن خريطتها الجديدة لتقسيم المناطق البحرية في شرق المتوسط، كما قال ميتسوتاكيس أن المحميتان ستنشئان في هذه المناطق كخطوةٍ أولى، وتُفسّر أنقرة هذا التحرك باعتباره محاولةً لتكريس واقعٍ قانونيٍ بحُجّة حماية البيئة، دون الدخول في مفاوضاتٍ مباشرةٍ أو صدامات علنية.[2]
3- تحرّك مجلس النواب الليبي نحو المصادقة على اتفاقية 2019 البحرية مع تركيا
في تطورٍ مفصليٍ، أقدمَ مجلس النواب الليبي على مناقشة التصديق الرسمي على الاتفاقية البحرية الموقّعة مع تركيا عام 2019، وذلك بعد قيام اليونان بمنح تراخيص للتنقيب عن النفط والغاز في جنوب جزيرة كريت، والذي اعتبرته ليبيا انتهاكًا صريحًا لسيادتها، وهو ما يمنحُ الاتفاقيةَ دفعةً قانونيةً داخل ليبيا، وتعيد إحياءها سياسيًا في توقيتٍ حساسٍ، خاصة أنها تمنحُ أنقرة شرعيةً إضافيةً في مواجهةِ تحالفاتِ شرق المتوسط التي تعتبر الاتفاق باطلًا، كما تُعزز من موقف تركيا القانوني في المحافل الدولية وتزيد من تعقيد جهود الأطراف المنافسة لتقويضها قانونيًا.
4- تسارع تطور العلاقات المصرية التركية
شهدتْ العلاقات بين أنقرة والقاهرة تقاربًا متزايدًا، تُوج بمباحثاتٍ تقنيةٍ متقدمةٍ حول إمكانيات التعاون في مشاريع الطاقة البحرية، واتخذ هذا التقارب طابعًا عمليًا مع توقيع البلدين اتفاق في مايو 2025، ينصُّ على استقدامِ وحدةٍ عائمةٍ لتخزين وتغويز الغاز (FSRU) من شركة BOTAŞ التركية لصالح شركة إيجاس المصرية، ومن المخطط أن تُنشر هذه الوحدة في ميناء سوميد قرب الإسكندرية بحلول نهاية عام 2026، بما يُسهم في تأمين إمدادات الغاز الطبيعي لكل من مصر وتركيا.[3]
وهي خطوةٌ من شأنها أن تشكّل تحولًا في علاقات الطاقة بين البلدين، لكنها لا تخلو من حساسية، خاصةً في ظل توقيع مصر اتفاقياتٍ سابقةٍ لترسيم الحدود البحرية مع اليونان، ما يجعل من الضروري بالنسبة لتركيا إعلان رؤيتها البحرية بوضوحٍ لحماية مصالحها الاستراتيجية قبل الانخراط في ترتيبات إقليمية أوسع.
5- تصاعد الدور التركي في سوريا
في ظلِ العلاقاتِ الجيدةِ بين أنقرة والحكومة الانتقالية في دمشق بقيادة أحمد الشرع، برزتْ مؤشراتٌ على إمكان التفاهم في ملف التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية السورية، فضلاً عن إمكانية ترسيم الحدود البحرية مع سوريا، والذي من شأنه منحُ تركيا نفوذاً بحرياً إضافياً يُقدّر بحوالي 1500 ميل مربع، وتؤسسُ لمرحلةٍ جديدةٍ من تطبيق مبدأ “الوطن الأزرق”، لذا سعت أنقرة إلى ترسيخ تصورها للحدود البحرية قبل الدخول في اي ترتيبات جديدة.
رابعًا: أبرز التداعيات المحتملة من النزاع
يتجاوزُ تجددُ النزاع البحري بين تركيا واليونان كونه خلافًا قانونيًا أو تقنيًا على حدودٍ بحريةٍ، ليحملَ في طياته جملةً من التداعيات المتشابكة التي قد تطال البنية الإقليمية الأوسع في شرق المتوسط، ويمكن تناول هذه التداعيات على النحو التالي:
تآكل فرص التطبيع الثنائي وتراجع دينامية التهدئة
رغم محاولات التقارب والهدوء النسبي التي شهدتها العلاقات التركية–اليونانية منذ إعلان أثينا في ديسمبر 2023،[4] فإن النزاعَ المتجددَ يهدد بتقويض المسار الدبلوماسي، ويعيد الأجندة الأمنية إلى صدارة العلاقات الثنائية. ويُخشى أن يؤديَ تصاعد التوتر إلى إغلاقِ قنواتِ الحوار السياسي، خاصةً إذا اقترنتْ الخطواتُ التقنيةُ – مثل الخطط البحرية أو إنشاء المحميات – بتصعيدٍ رمزيٍ أو عسكريٍ ميداني، بما يُعقّد فرص التهدئة ويفرض مناخًا من التوجّس الدائم في شرق المتوسط.
تعقيد بيئة الاستثمار الطاقوي وتآكل الثقة في الإطار الإقليمي
تشكّلُ منطقةُ شرق المتوسط إحدى أكثر الساحات الواعدة في مجال الطاقة، غير أن النزاعاتِ السياديةَ غير المحسومة تمثّلُ عامل هشاشةٍ مزمنٍ يُهدد الاستقرار المطلوب لجذْبِ الاستثمارات، ويؤدي تجدد التوتر بين أنقرة وأثينا إلى تعزيز مناخ عدم اليقين لدى الشركات الدولية، ويُثير مخاوف بشأن احتمالية تعطّل مشروعات الاستكشاف، أو تعطيل خطوط الإمداد، أو المساس بحقوق الامتياز في المناطق المتداخلة، وهو ما ينعكسُ سلبًا على فرص النمو الاقتصادي للدول الساحلية وعلى مكانة المنطقة كموردٍ موثوقٍ للأسواق الأوروبية.
تصاعد احتمالات الاشتباك غير المقصود
يؤدي تكثيف الأنشطة البحرية والعسكرية في مناطقَ مُتنازعِ عليها إلى ارتفاعِ احتمالاتِ وقوع احتكاكاتٍ غير مخططةٍ بين القوات البحرية لكلا البلدين، خاصةً في ظل تداخل مسارات الدوريات البحرية، وتشابك مناطق التمرين والمراقبة، وغياب آليات فضّ النزاع البحري الفوري، وقد برز هذا السيناريو في 2020 عندما اصطدمت الفرقاطة اليونانية Limnos بسفينةٍ تركيةٍ كانت ترافقُ سفينةَ أبحاث شرق المتوسط، في واقعةٍ عكست هشاشة الوضع الميداني وإمكانيةَ انزلاقه نحو تصعيد غير محسوب.[5]
وعلى الرغم من وجود قنوات عسكرية للتنسيق أُنشئت في إطار “الناتو” لتقليل مخاطر سوء الفهم، إلا أن غياب الثقة السياسية، واستمرار التحركات ذات الطابع الاستفزازي من الطرفين، يجعل احتمال الانزلاق إلى مواجهة فعلية أمرًا قائمًا. كما أن توظيف الملف البحري في الخطاب القومي الداخلي، سواء في أنقرة أو أثينا، يضيف بُعدًا تعبويًا يزيد من حساسية القضية، لا سيما في فترات الأزمات أو الاستحقاقات الانتخابية، حيث تتحول الخلافات البحرية إلى أداة لإعادة إنتاج التماسك الداخلي، على حساب فرص التهدئة.
التداعيات على حلف شمال الأطلسي
يُمثل النزاع التركي–اليوناني أحد خطوط الصدع المزمنة داخل بنية الناتو، ويضعُ الحلف أمام مُعضلةٍ مزمنةٍ تتعلق بإدارة التنافس بين عضوين مؤسسين. ومع تصاعد النزاع، يجد الحلف نفسه مجددًا أمام أزمةِ تماسكٍ داخليٍ في لحظةٍ حرجةٍ تتطلبُ تفرغَه للتحديات الكبرى، مثل الحرب في أوكرانيا أو احتواء التمدد الروسي. كما أن العجزَ عن احتواء الخلاف الثنائي يُضعفُ صورةَ الحلف كمظلّةٍ ضامنةٍ للاستقرار، ويمنح خصومه فرصةً للتشكيك في فاعليته كفاعلٍ منسّقٍ في الأزمات الإقليمية.
تأثير على قضية قبرص
إعادة إشعال النزاع التركي-اليوناني قد يؤثر سلباً على فرص حل قضية قبرص، والتي تعتبر من أهم القضايا العالقة في المنطقة، استمرار التوتر بين تركيا واليونان يقلل من الحوافز للتوصل إلى تسويةٍ شاملةٍ لقضية قبرص، مما يديمُ الانقسام في الجزيرة.
إعادة رسم خرائط التحالفات البحرية وتأثير ذلك على التوازن الإقليمي