لطالما مثلت العلاقة بين سوريا وإسرائيل نموذجًا فريدًا للعداء المستمر في الشرق الأوسط. فمنذ عام 1948، لم تعرف الدولتان سوى حالة الحرب والتوتر، مما يجعل أي حديث عن اتفاق سلام بينهما يواجه جدارًا سميكًا من التعقيدات التاريخية والجغرافية والقانونية.
فكرة السلام بحد ذاتها تبدو شبه مستحيلة في ظل التحديات القائمة، والتي تتجاوز مجرد التفاوض حول خطوط ترسيم الحدود، لتشمل قضايا جوهرية تتعلق بالسيادة والسياسة الدولية، وصولًا إلى مطالب غريبة تتجاهل الأعراف القانونية والدبلوماسية.
الجولان: قلب النزاع النابض والسيادة المتنازع عليها
يُعد الجولان حجر الزاوية في أي محاولة للسلام بين سوريا وإسرائيل، ونقطة الخلاف الأكثر حساسية وإشكالية. هذه الهضبة الإستراتيجية، التي احتلتها إسرائيل عام 1967 وضمتها عام 1981 في خطوة لم يعترف بها المجتمع الدولي، تُمثل لسوريا جزءًا لا يتجزأ من سيادتها وكرامتها الوطنية. من المنظور السوري، أي اتفاق سلام لا يتضمن العودة الكاملة للجولان إلى السيادة السورية هو اتفاق منقوص وغير مقبول.
من الناحية القانونية الدولية، يُصنف الجولان كأرض محتلة بموجب قرار مجلس الأمن رقم 242 (1967) ورقم 338 (1973)، اللذين يؤكدان على مبدأ “عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب”. قرار الضم الإسرائيلي للجولان عام 1981، والذي تم تفعيله عبر تشريع الكنيست الإسرائيلي، هو انتهاك صارخ للقانون الدولي، ويعتبر باطلًا ولاغيًا من قبل الغالبية العظمى من دول العالم والأمم المتحدة.
بالنسبة لإسرائيل، الجولان ذو أهمية أمنية واستراتيجية بالغة. يوفر لها موقعًا دفاعيًا طبيعيًا ضد أي هجمات قادمة من الشرق، ويحتوي على مصادر مائية حيوية. هذا التضارب الجوهري في المصالح والرؤى حول الجولان يُشكل عقبة كؤودًا أمام أي تقدم في مسار السلام. فالسيادة السورية على الجولان ليست مجرد مطلب تفاوضي، بل هي مبدأ أساسي غير قابل للمساومة في الوعي السوري، وهو ما يجعل حل هذه المعضلة يبدو مستحيلًا في الوقت الراهن.
المطلب الإسرائيلي الغريب: حرية الحركة العسكرية في الداخل السوري
تُضاف إلى تعقيدات الجولان، مطالب إسرائيلية تبدو غريبة وتتجاوز الأعراف الدبلوماسية والقانونية، لعل أبرزها هو مطلب حرية الحركة العسكرية في الداخل السوري. هذا المطلب، إن صح، يُعد خرقًا فاضحًا لمبدأ السيادة الوطنية للدولة، وهو ركيزة أساسية من ركائز القانون الدولي. إن السماح لقوات أجنبية بحرية الحركة العسكرية على أراضي دولة أخرى دون موافقة صريحة وفي غير سياق عمليات حفظ سلام دولية محددة، يُعد احتلالًا أو انتهاكًا صارخًا للسيادة.
من منظور قانوني، أي اتفاق سلام يجب أن يُبنى على احترام سيادة الدول وحرمة أراضيها. إن اشتراط حرية الحركة العسكرية لقوات دولة على أراضي دولة أخرى كشرط للسلام يُعد سابقة خطيرة، ويفتح الباب أمام تدخلات عسكرية غير مبررة، مما يُقوض استقرار المنطقة برمتها.
هذا المطلب يُفسر على أنه محاولة إسرائيلية لفرض هيمنتها العسكرية والأمنية على سوريا، حتى بعد توقيع اتفاق سلام، مما يُلقي بظلال كثيفة من الشك على مدى جدية إسرائيل في التوصل إلى سلام حقيقي مبني على الاحترام المتبادل والمساواة.
علاوة على ذلك، يُمكن أن يُنظر إلى هذا المطلب على أنه محاولة لتقويض قدرة سوريا على الدفاع عن نفسها، أو حتى لربما التدخل في شؤونها الداخلية بحجة الأمن. ففي سياق العلاقات الدولية، السيادة الوطنية تعني أن الدولة تملك الحق الحصري في ممارسة السلطة على أراضيها وشعبها دون تدخل خارجي.
إن التنازل عن هذا الحق، حتى في سياق اتفاق سلام، يُعد تنازلًا عن جوهر الدولة ووجودها المستقل.
الجزاءات الأمريكية الضاغطة على سوريا: عامل معقد للمفاوضات
تُمثل الجزاءات الأمريكية الضاغطة على سوريا عقبة إضافية في طريق أي مفاوضات سلام محتملة. ففي ظل العقوبات الاقتصادية والسياسية المفروضة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على الحكومة السورية، يصبح من الصعب جدًا على دمشق الدخول في مفاوضات جدية، لاسيما وأن هذه العقوبات تستهدف بشكل مباشر الاقتصاد السوري والنظام السياسي.
تُشير الجزاءات الأمريكية، مثل قانون قيصر، إلى أن واشنطن تُمارس ضغطًا كبيرًا على النظام السوري، بهدف تغيير سلوكه أو حتى الإطاحة به. هذا الضغط يُقلل من قدرة سوريا على المناورة في أي مفاوضات، ويُجبرها على التعامل من موقف ضعف. فمن جهة، تحتاج سوريا إلى رفع هذه العقوبات لتحقيق أي انتعاش اقتصادي أو استقرار داخلي، ومن جهة أخرى، فإن أي محاولة للتفاوض مع إسرائيل قد تُنظر إليها على أنها تنازل عن مبادئ أو تحول في السياسة الخارجية، مما قد يُعرضها لمزيد من الضغوط.
إن تأثير هذه الجزاءات لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل يمتد ليشمل الجانب السياسي والدبلوماسي.
ففي ظل هذه العقوبات، تُصبح سوريا معزولة إلى حد كبير على الساحة الدولية، مما يُضعف من موقفها التفاوضي ويُقلل من قدرتها على حشد الدعم لاسيما في مواجهة إسرائيل.
إن أي اتفاق سلام يتطلب بيئة إقليمية ودولية مواتية، وهو ما تفتقده سوريا في ظل هذه الجزاءات.
التشريع الإسرائيلي الخارق للشرعية الدولية: ضم الجولان
لا يُمكن الحديث عن تحديات السلام دون الإشارة إلى التشريع الكنيست الإسرائيلي الخارق لقرارات الشرعية الدولية بضم الجولان. كما ذكرنا سابقًا، هذا التشريع الصادر عام 1981 يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة. إن تجاهل إسرائيل للقرارات الدولية التي تُؤكد على عدم شرعية ضم الأراضي بالقوة، يُقوض أسس أي عملية سلام مستقبلية.
فأساس أي سلام عادل وشامل هو احترام القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية. عندما ترفض إسرائيل الامتثال لهذه القرارات، فإنها تُرسل رسالة واضحة بأنها لا تلتزم بالمبادئ التي يقوم عليها النظام الدولي، مما يجعل الثقة بها في أي مفاوضات أمرًا بالغ الصعوبة. إن تشريع الضم يُغلق فعليًا الباب أمام أي حل تفاوضي لقضية الجولان، ويُضعف من مصداقية أي اتفاق سلام يتم التوصل إليه.
بالإضافة إلى ذلك، يُمكن أن يُنظر إلى هذا التشريع على أنه محاولة لفرض أمر واقع على سوريا والمجتمع الدولي. فإسرائيل، من خلال هذا الضم، تُحاول أن تُثبت ملكيتها للجولان، متجاهلة الحقوق السورية الأصيلة والتاريخية في هذه الأرض. هذا النهج الأحادي الجانب في التعامل مع النزاعات يُعيق أي تقدم حقيقي نحو السلام، ويُزيد من التوتر في المنطقة.
سوريا وإسرائيل: حرب متواصلة منذ عام 1948
يُجب ألا ننسى أن سوريا وإسرائيل متحاربتان منذ عام 1948. هذه الحقيقة التاريخية تُشكل الخلفية الأساسية لأي محاولة للسلام. فليست العلاقة بينهما مجرد خلاف حدودي، بل هي صراع وجودي وعقائدي عميق الجذور. أربع حروب كبرى (1948، 1967، 1973) وعقود من التوتر والمناوشات، قد خلقت جدارًا من عدم الثقة والعداء يصعب اختراقه.
هذا التاريخ الطويل من الصراع يُلقي بظلاله على أي مبادرة سلام. فكل طرف يرى الآخر كتهديد وجودي، وكل تنازل يُنظر إليه على أنه ضعف. إن بناء الثقة بين دولتين خاضتا حروبًا متتالية، وخاصة في ظل بقاء الأراضي المحتلة، يُعد تحديًا هائلًا.
فالتجارب الماضية قد عززت الشكوك المتبادلة، مما يجعل من الصعب على أي طرف أن يثق في نوايا الطرف الآخر.
الذاكرة الجماعية للشعبين، السوري والإسرائيلي، مشبعة بصور الصراع والضحايا والخسائر.
إن تجاوز هذا الإرث التاريخي يتطلب إرادة سياسية حقيقية وشجاعة غير عادية من كلا الجانبين، وهو ما يبدو غائبًا في الوقت الراهن.
لا جدوى لأي تفاهمات خارج إطار اتفاقية سلام شاملة في ظل هذه التحديات المعقدة، تُصبح أي تفاهمات أو ترتيبات خارج إطار اتفاقية سلام شاملة لا جدوى لها. فالتجزئة في حل النزاعات الكبرى قد تُعطي نتائج مؤقتة، لكنها لا تُعالج جوهر المشكلة.
إن السلام الحقيقي يتطلب تسوية شاملة لجميع القضايا العالقة، بما في ذلك الحدود، والسيادة، والمياه، والأمن، وحتى التعويضات إن وجدت.
أي محاولة للتوصل إلى “سلام جزئي” أو “ترتيبات أمنية” أو “تفاهمات غير رسمية” ستكون مجرد مسكنات لا تُعالج المرض. فما لم يتم معالجة قضية الجولان بشكل نهائي وفقًا للقانون الدولي، وما لم يتم احترام السيادة السورية بشكل كامل، فإن أي ترتيبات أخرى لن تُفضي إلى سلام مستدام.
إن اتفاق السلام هو وثيقة قانونية ملزمة تُحدد حقوق وواجبات كل طرف، وتُقدم إطارًا للتعاون المستقبلي. إن غياب مثل هذه الوثيقة يعني أن العلاقة بين الدولتين ستظل محكومة بحالة “اللاحرب واللاسلم”، وهي حالة تُبقي المنطقة على حافة التوتر والصراع.
فالسلام لا يُمكن أن يتحقق عبر التنازلات من طرف واحد، أو عبر فرض الإملاءات من طرف آخر. إنه يتطلب حوارًا بناءً مبنيًا على الاحترام المتبادل، والاعتراف بالحقوق، والالتزام بالقانون الدولي.
إن غياب هذه الأسس يجعل أي محاولة للسلام مجرد أوهام، بعيدة المنال في ظل الظروف الراهنة.
خاتمة: سلام بعيد المنال في ظل واقع مرير
إن التحديات التي تواجه أي اتفاق سلام بين سوريا وإسرائيل هي تحديات جوهرية ومعقدة، تتجاوز مجرد التفاوض حول خطوط تعيين الحدود.
فالجولان، بوضعه القانوني المتنازع عليه وأهميته الاستراتيجية، يُشكل عقبة لا يمكن تجاوزها دون حل جذري. يضاف إلى ذلك، المطالب الإسرائيلية الغريبة التي تمس السيادة السورية، والجزاءات الأمريكية التي تُقيد حرية الحركة السياسية لسوريا، والتشريع الإسرائيلي الذي يُخالف القانون الدولي، كلها عوامل تُعقد المشهد وتُباعد بين فرص السلام.
إن التاريخ الطويل من الصراع بين الدولتين يُعمق من فجوة عدم الثقة، ويُرسخ العداء المتبادل. ففي ظل هذه الظروف، تبدو فكرة السلام الشامل والدائم بين سوريا وإسرائيل أشبه بالحلم البعيد المنال. فالسلام لا يُمكن أن يُبنى على الإملاءات أو التنازلات أحادية الجانب، بل يتطلب إرادة سياسية حقيقية من كلا الطرفين، ورغبة في الالتزام بالقانون الدولي، ونهجًا واقعيًا يُدرك أن السلام الحقيقي يتطلب الاعتراف بحقوق الآخرين واحترام سيادتهم.
فهل من سبيل لتجاوز هذه الأوهام وبناء جسور الثقة في منطقة اعتادت على الصراعات؟
