أعلنتْ السلطاتُ التركيةُ في 19 مارس 2025 اعتقالَ أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول وأحدِ أبرزِ قادةِ المعارضةِ، بتهمٍ تتعلقُ بالفساد ودعمِ منظمةٍ إرهابيةٍ، مما أثار ردود فعل واسعة داخل تركيا وخارجها، حيث اعتبره أنصاره استهدافًا سياسيًا لإقصائه من المشهد السياسي قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة.
يأتي هذا التطور في سياق سياسي متوتر، حيث تستعد تركيا لانتخابات حاسمة عام 2028، وسط أزمة اقتصادية متفاقمة وصراع متزايد بين الحكومة والمعارضة، مما يهددُ بتصعيدِ المواجهةِ السياسيةِ في البلاد ويدفعُ إلى تغييراتٍ في التوازناتِ الإقليميةِ والدوليةِ، وهو ما قد يؤثر بشكل مباشر على الاستقرار الداخلي ومستقبل الديمقراطية في تركيا.
لذا سنناقش أبعاد وتداعيات هذا الحدث على المشهد السياسي التركي.
خلفيةُ الحدثِ: إمام أوغلو بين الصعود السياسي والاستهداف القضائي
شنّتْ السلطاتُ التركيةُ في 19 مارس 2025، حملةَ مداهماتٍ واسعةٍ في إسطنبول أسفرت عن اعتقال رئيس بلدية المدينة، أكرم إمام أوغلو، إلى جانب أكثر من 100 شخص آخرين، بينهم مسؤولون في البلدية ورجال أعمال، وجاء هذا الاعتقال في إطار تحقيقين منفصلين يجريهما مكتب التحقيقات في الجرائم “الإرهابية” و”المنظمة”، حيث وُجّهت لإمام أوغلو مجموعة من التهم، أبرزها:
-إنشاءُ وقيادةُ منظمةٍ إجراميةٍ، وهي تهمةٌ تنطوي على مزاعم بتشكيل شبكة فساد داخل بلدية إسطنبول.
-الابتزازُ والرشوةُ والاحتيالُ، حيث تتهمه السلطات بالتورط في صفقات مشبوهة والتلاعب بالعطاءات البلدية لصالح جهات محددة.
-تقديمُ دعمٍ غير مباشرٍ لمنظمةٍ إرهابيةٍ، إذ تزعمُ الحكومة أنه قام بتوظيف أفراد مرتبطين بحزب العمال الكردستاني (PKK)، المصنف كمنظمة إرهابية في تركيا.
ورغم تأكيدَ الحكومةِ أن هذه الإجراءات قانونيةٌ بحتةٌ، فإن المعارضةَ ترى أن التوقيتَ السياسيَ للاعتقال، الذي جاء بعد فترة وجيزة من تصاعد شعبية إمام أوغلو وتزايد الحديث عنه كمرشح رئاسي محتمل في انتخابات 2028، يعزز الشكوك حول دوافعه.
ومن الجدير بالذكر أن نشيرَ أن قرارَ الاعتقال جاء بعد عدة إجراءات أثارت جدلًا واسعًا، منها إبطال شهادة إمام أوغلو الجامعية بقرار من جامعة إسطنبول في 18 مارس ، وهو ما فُسر على أنه جزءٌ من محاولاتٍ لتشويهِ صورتهِ سياسيًا، حيث جاء هذا القرار في وقت استعداداته للانتخابات التمهيدية لحزب الشعب الجمهوري، وهو المرشح الوحيد لها، ويُشترط للترشح لمنصب رئيس الجمهورية في تركيا أن يكون المرشح حاصلًا على مؤهل جامعي.
كما فرضت قيود أمنية مشددة في إسطنبول، شملتْ إغلاقَ بعضِ الطرقِ الرئيسيةِ ومنعَ الاحتجاجاتِ لمدة أربعة أيام، وإغلاق شوارع رئيسية في منطقة الفاتح، وإغلاقَ محطات مترو على الخط الرئيسي الواصل بميدان تقسيم، إلى جانب تقييد الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي مثل “إكس”، “إنستغرام”، “يوتيوب”، و”تيك توك”، في محاولةٍ واضحةٍ للحدّ من انتشار الأخبار وردود الفعل الشعبية.
الأبعادُ والتداعياتُ المحتملةُ للأزمة
1- البعدُ السياسيُ: احتدام الصراع بين الحكومة والمعارضة
يأتي اعتقال أكرم إمام أوغلو في وقتٍ حساسٍ سياسيًا، حيث تستعد تركيا لانتخاباتٍ رئاسيةٍ حاسمةٍ في 2028، ويُعد إمام أوغلو واحدًا من أبرز المنافسين المحتملين للرئيس رجب طيب أردوغان، وقد شكل فوزه برئاسة بلدية إسطنبول في 2019 و2023 تحديًا كبيرًا لحزب العدالة والتنمية الحاكم، وبالتالي، فإن إبعادَه عن الساحةِ السياسية من خلال الملاحقات القضائية قد يمنحُ الحزبَ الحاكمَ ميزةً استراتيجيةً، لكن هذا لا يعني أن التداعيات ستكون إيجابية بالكامل للحكومة.
تواجه المعارضة التركية الآن مأزقًا كبيرًا، إذ إن عدمَ قدرةِ إمام أوغلو على الترشح قد يدفعُ حزبَ الشعبِ الجمهوري للبحث عن بديل، وهو أمر قد لا يكون سهلًا نظرًا لشعبيته الواسعة، وقد يؤدي ذلك إلى انقساماتٍ داخل الحزب، خاصة أن إمام أوغلو كان يُنظر إليه باعتباره القائدَ القادرَ على توحيدِ صفوفِ المعارضة بعد إخفاقها في انتخابات 2023، في المقابل، وصف حزب الشعب الجمهوري اعتقاله بأنه “انقلاب قضائي”، وهو ما يعكسُ تصاعدَ حدةِ الصراع السياسي بين الحكومة والمعارضة.
رغم أن الحكومةَ قد تعتقدُ أن هذه الخطوة ستضعفُ المعارضةَ، إلا أن تداعياتها قد تكون عكسيةً، حيث يمكن أن تؤدي إلى موجةِ تعاطفٍ واسعةٍ مع إمام أوغلو، ما يعزز شعبيته بدلًا من تهميشه، كما أن هذا التصعيدَ قد يؤدي إلى توترٍ داخليٍ أكبر، خاصة إذا استمرتْ الاحتجاجاتُ وانتشرت على نطاقٍ أوسع، مما قد يخلق تحدياتٍ إضافيةَ أمام الحكومة في إدارة الأوضاع السياسية والاجتماعية.
2- البعدُ الاقتصاديُ: انعكاساتُ الأزمةِ على الأسواق والاستثمار
تسببتْ الأزمةُ السياسيةُ الناتجةُ عن اعتقال إمام أوغلو في اضطرابات واضحة في الأسواق المالية، حيث شهدت الليرة التركية انخفاضًا بنسبة 12% مقابل الدولار خلال ساعات من الإعلان عن اعتقاله، في حين سجلتْ مؤشراتُ البورصةِ التركية تراجعًا ملحوظًا، وهو ما يعكسُ حالةَ القلقِ لدى المستثمرين، هذا التراجع يعكسُ مخاوفَ أوسعَ بشأنِ الاستقرارِ السياسي والاقتصادي في البلاد، حيث إن مثل هذه الأزمات غالبًا ما تدفع المستثمرين الأجانب إلى تجنب المخاطر المحتملة في السوق التركية.
إلى جانب ذلك، فإن تصاعدَ التوتراتِ السياسية قد يؤدي إلى زيادةِ عدمِ الاستقرار الاقتصادي، خاصة أن تركيا تعاني بالفعل من أزمة تضخم مرتفعة وتراجع في قيمة العملة، وفي حال استمرار الأزمة، فقد يؤدي ذلك إلى هروب رؤوس الأموال الأجنبية وتعثر الاستثمارات، مما يفاقم الوضع الاقتصادي المتدهور أصلًا.
علاوةً على ذلك، قد تواجهُ تركيا ضغوطًا خارجية من قِبلِ الاتحادِ الأوروبيِ والولايات المتحدة، اللذين سبق أن أبديا مخاوف بشأن استقلال القضاء وحقوقِ الإنسانِ في البلاد، وفي حال تصاعد الأزمة، فمن المحتملِ أن يتمَّ فرْضُ عقوباتٍ اقتصاديةٍ جديدةٍ، خاصةً إذا اعتُبر اعتقال إمام أوغلو جزءًا من حملةِ قمعٍ أوسع ضد المعارضة، مثل هذه العقوبات قد تؤثر على قطاعات حيوية مثل التجارة والاستثمار الأجنبي، مما يزيد من الضغوط على الحكومة التركية لإعادة تقييم موقفها.
3- البعدُ الأمنيُ: الاحتجاجاتُ ومخاطر التصعيد الداخلي
شهدت إسطنبول وعددٌ من المدن التركية الأخرى موجةَ احتجاجاتٍ واسعةٍ فورَ الإعلان عن اعتقال إمام أوغلو، حيث خرج عدد من المتظاهرين إلى الشوارع للتعبير عن رفضهم لهذه الخطوة، معتبرين أنها استهدافٌ سياسيٌ للمعارضة، وقد استخدمت السلطات التركية إجراءات أمنية مشددة، تضمنتْ فرضَ قيودٍ على التظاهرات وإغلاقَ بعضِ الطرقِ الرئيسية، في محاولة للحدّ من تصاعد الغضب الشعبي.
لكن في ظل الاستقطاب الحاد بين أنصار الحكومة والمعارضة، هناك مخاوفُ من أن تتحولَ هذه الاحتجاجات إلى مواجهات مباشرة، خاصة مع احتمالية اندلاع صدامات بين الموالين للحكومة والمناهضين لها، ومثل هذه المواجهات قد تؤدي إلى حالةٍ من عدم الاستقرارِ الداخلي، وهو ما قد يفرضُ ضغوطًا إضافيةً على الأجهزة الأمنية التي قد تجدُ نفسَها مضطرةً إلى التدخل بشكل أكثر صرامة لضبط الأوضاع.
كما أن استمرارَ الأزمة قد يؤثرُ على تماسكِ المؤسسات الأمنية، حيث قد تواجهُ ضغوطًا متزايدة في التعامل مع الاحتجاجات المتصاعدة، في وقتٍ تتعاملُ فيه البلاد مع تحدياتٍ أمنيةٍ أخرى، بما في ذلك التوترات الإقليمية والتهديدات الإرهابية، في حال تفاقم الوضع، فقد تجد الحكومة نفسها أمام تحدٍ صعبٍ في تحقيق التوازن بين ضبط الأمن والحفاظ على الاستقرار السياسي دون تأجيج الأزمة.
4- البعدُ الدوليُ: تزايدُ الضغوطِ الخارجيةِ على أنقرة
أثارَ اعتقالُ إمام أوغلو موجة إداناتٍ دوليةً واسعةً، حيث أدان رؤساء بلديات كبرى العواصم الأوروبية ومنظمات حقوقية اعتقال إمام أوغلو، مطالبين بالإفراج الفوري عنه، معتبرين أنها تمثّلُ تراجعًا للديمقراطية في تركيا، وذلك في إشارة إلى الانتهاكات المتكررة للحقوق الأساسية والحريات البلدية في تركيا، كما دعتْ جهاتٌ دوليةٌ إلى ضمان نزاهة القضاء وعدم استخدامه كأداة سياسية، وهو ما يزيد من الضغوط على أنقرة في الساحة الدولية.
على مستوى العلاقات التركية – الأوروبية، قد تؤدي هذه الأزمة إلى مزيدٍ من التوترِ بين الجانبين، خاصة أن الاتحادَ الأوروبيَ كان قد أعرب مرارًا عن قلقه إزاء تراجعِ سيادةِ القانون في تركيا، في حال استمرت الأزمة، فمن المحتمل أن يتخذَ الاتحادُ إجراءاتٍ أكثرَ صرامةً، مثل فرْضِ عقوباتٍ أو تعليق بعض أشكال التعاون مع أنقرة، مما قد يعمّقُ عزلةَ تركيا الأوروبية، في وقتٍ تسعى فيه أنقرة لتعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الاتحاد الأوروبي لمواجهة التحديات الاقتصادية الداخلية.
أما على المستوى الإقليمي، فلم تصدرْ مواقفُ عربيةٌ واضحةٌ بشأن الأزمة حتى الآن، لكن بعض الدول التي تسعى لتعزيز التعاون مع تركيا قد تعيدُ النظرَ في سياساتها، خاصةّ إذا تصاعدتْ الضغوطُ الدوليةُ على أنقرة. في المقابل، قد تستغلُ بعضُ القوى الإقليمية هذه الأزمة لإضعاف الدور التركي أو للتأثير على سياسات أنقرة في قضايا إقليمية أخرى.
خاتمة
يشكلُ اعتقالُ أكرم إمام أوغلو لحظةً مفصليةً في السياسة التركية، حيث قد يؤدي إلى تصعيد التوتر الداخلي وزيادةِ الضغوطِ الاقتصاديةِ والدولية، لكنه في المقابل قد يفتحُ المجالَ أمامَ إعادة ترتيب موازين القوى داخل المعارضة وإمكانية ظهور تحالفات سياسية جديدة، وفي المدى القريب، سيعتمدُ تطورُ الأزمةُ على مدى قدرة الحكومة على احتواءِ الاحتجاجاتِ وإدارةِ التداعيات الاقتصادية، بينما في المدى البعيد، يبقى احتمالان رئيسيان: إما استمرارُ التوترِ وتأثيره على الانتخابات المقبلة، أو نجاح النظام السياسي في استيعاب الأزمةِ ضمن توازناتٍ جديدةٍ تعيدُ تشكيلَ المشهدِ السياسيِ في تركيا.
