المقالات
مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية > تقارير وملفات > وحدة الدراسات الأفريقية > تشغيل بلا اتفاق ملزم: دلالات وتبعات إعلان إثيوبيا افتتاح سد النهضة
تشغيل بلا اتفاق ملزم: دلالات وتبعات إعلان إثيوبيا افتتاح سد النهضة
- يوليو 9, 2025
- Posted by: ahmed
- Category: تقارير وملفات وحدة الدراسات الأفريقية
لا توجد تعليقات

إعداد: مصطفى مقلد
باحث فى العلوم السياسية
مقدمة:
يمثل إعلان إثيوبيا عن افتتاح سد النهضة في سبتمبر المقبل لحظة سياسية ذات طابع رمزي لإثيوبيا، إلا أن هذه الخطوة، لا تعني انتهاء الأزمة بقدر ما تُعيد طرحها في سياق جديد، هو سياق تشغيل السد دون اتفاق ملزم، وفي ظل بيئة إقليمية ودولية معقدة تراجعت فيها أولوية الملف على أجندة القوى الكبرى.
وفي حين تُبقي مصر تمسكها بمبدأ التوصل إلى اتفاق قانوني عادل وملزم، فإن استمرار غياب أي ضوابط قانونية ملزمة لإدارة تدفقات النيل الأزرق، مع إعلان افتتاح العمل رسميا في السد الإثيوبي يفتح الباب أمام سيناريوهات مستقبلية أشد تعقيدًا.
رمزية الإعلان الإثيوبي:
في 3 يوليو الجاري، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أمام البرلمان “إنجاز العمل” في مشروع سد النهضة، وأن تدشينه سيتم رسمياً في سبتمبر المقبل، بعد أن بدأت إثيوبيا توليد الكهرباء من المشروع، في فبراير 2022.[1]
يأتي الإعلان الإثيوبي كخطوة تحمل بُعدًا سياسيًا داخليًا وخارجيًا أكثر من كونها نقطة تحوّل فني في المشروع. فالملء الخامس اكتمل، والتوربينات بدأت العمل منذ سنوات، ما يجعل الإعلان أقرب إلى “إشهار للواقع” لا تغييرًا فيه. إلا أن التوقيت والسياق المحيط يمنحانه دلالات أبعد: فهو محاولة من الحكومة الإثيوبية لإغلاق المجال أمام أي حديث حول مشروعية بناء السد أو مشروعية إدارته الأحادية، وفرض سردية إثيوبية مؤداها أن السد أُنجز، وأن النقاشات المستقبلية يجب أن تكون حول قضايا هامشية أو فنية فقط، لا جوهرية أو قانونية، وهو ما يتوافق مع إعلان رئيس الوزراء الإثيوبي، استعداد بلاده لاستئناف المفاوضات مع كل من مصر والسودان[2].
وتعمل إثيوبيا على التدويل “الإقليمي” لملف السد، بهدف عزل مصر عن محيطها الأفريقي وتكوين جبهة تأييد جديدة لمشروع سد النهضة. والتحلل من الإلتزام بأي اتفاق ملزم، وجعل التفاوض صعباً ومكلفاً، وبهذا الأسلوب، لا تتعامل مع القاهرة كـ”طرف متضرر” بل كمجرد “طرف إقليمي آخر”، وتضعف الحجة المصرية بأن مياه النيل الأزرق مسألة وجودية لها.[3]
ففي مايو الماضي، على هامش الاجتماع الإقليمي لشرق إفريقيا للجنة أجهزة المخابرات والأمن الإفريقية “سيسا” في أديس أبابا، قال تازر جبري-إغزيابهر، نائب المدير العام لجهاز المخابرات الإثيوبي، إن سد النهضة مشروع رائد يتوقع أن يُعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي للمنطقة.[4]
فجوة التشغيل في سد النهضة:
رغم إعلان إثيوبيا عزمها افتتاح سد النهضة رسميًا في سبتمبر 2025، إلا أن المعطيات الفنية الحالية تُشير بوضوح إلى أن المشروع لم يكتمل تشغيله بعد. فقد كان من المخطط أن يُزوَّد السد بـ13 توربينًا لتوليد الطاقة الكهرومائية، بإجمالي قدرة تصميمية تبلغ نحو 5,150 ميغاواط.[5] غير أن ما تم تركيبه فعليًا حتى الآن لا يتجاوز خمسة توربينات فقط[6]، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى واقعية سردية “الافتتاح الكامل” التي تروج لها أديس أبابا.
مع ذلك، هذه الفجوة لا تعني فشل المشروع، لكنها تطرح تساؤلات حول أولويات الحكومة الإثيوبية في هذه المرحلة. في هذا السياق، لا يُمكن لمصر أن تبني استراتيجيتها إزاء ملف السد على هذا التأخر الفني وحده، إذ من المرجح أن يكون التأخير مؤقتًا، مرتبطًا بعوائق مالية أو لوجستية، وقد تُسرّع إثيوبيا لاحقًا وتيرة التركيب والتشغيل، فالتأخر الجزئي في تشغيل سد النهضة لا يُمثّل في حد ذاته تحولًا استراتيجيًا كبيرًا.
تأثير تشغيل السد على جدوى التفاوض:
رغم أن مصر تتمسك بمبدأ التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن تشغيل سد النهضة، فإن اقتراب السد من الوصول إلى التشغيل الكامل دون هذا الاتفاق يطرح إشكالية تفاوضية معقدة، فمن الناحية الفنية، يتيح التشغيل الكامل لإثيوبيا القدرة على فرض نمط تشغيل أحادي يصبح أمرًا واقعًا مع مرور الوقت. وبذلك، تزداد صعوبة التفاوض لاحقًا حول عناصر جوهرية مثل تقليص معدلات التخزين في سنوات الجفاف، أو إلزام إثيوبيا بتنسيق مسبق عند تنفيذ مشروعات مائية جديدة.
أما من الزاوية السياسية، فإن نجاح إثيوبيا في تشغيل السد دون التسبب في ضرر مباشر لمصر قد يُستغل دوليًا للدفاع عن روايتها دون إلزام نفسها باتفاق قانوني. وستعتمد إثيوبيا حينها على خطاب يُفيد بأنها أنجزت مشروعًا وطنيًا ضخمًا دون أن تمنع المياه عن دول المصب، وبالتالي فإن مطالب مصر المستقبلية بتعديل نمط التشغيل قد تُواجه برفض دولي ضمني أو ببرود تفاوضي.
قانونيًا، فإن تأجيل التوصل إلى اتفاق يمنح إثيوبيا فرصة تراكم “ممارسة مستقرة” قد تُستند إليها لاحقًا في المحافل القانونية أو التفاوضية، بوصفها نموذجًا تطبيقيًا للتشغيل غير الضار.
ورغم أن اللحظة الحالية توفر – نظريًا – دفعة للتحرك المصري لبلورة اتفاق قانوني ملزم قبل وصول سد النهضة إلى التشغيل الكامل، إلا أن القدرة الواقعية على استثمار هذه الفرصة تبدو محدودة. فلم يعد الملف يحتل أولوية متقدمة في أجندة القوى الدولية، رغم استمرار المساعي المصرية لإبقاء الانخراط الدولي نشطًا، كذلك إثيوبيا لم تعد تجد دافعًا مباشرًا للانخراط في مسار تفاوضي جاد.
بناءً عليه، فإن التحدي أمام مصر لا يتمثل فقط في التفاوض، بل في توسيع أدوات التأثير، وتعظيم الجاهزية القانونية والفنية، استعدادًا لإعادة رسم المشهد التفاوضي.
تداعيات محتملة:
يُثير الإعلان الإثيوبي عن افتتاح سد النهضة في سبتمبر المقبل تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الخطوة ستشكّل منصة سياسية لإثيوبيا للمضي قدمًا في تنفيذ خطة أوسع لتشييد عدد من السدود الإضافية على النيل الأزرق، وهي السدود التي سبق لمسؤولين إثيوبيين الإشارة إليها في أكثر من مناسبة خلال السنوات الماضية، وتبلغ سعتها التخزينية التقديرية نحو 200 مليار متر مكعب، أي ما يفوق سد النهضة بأكثر من ثلاثة أضعاف. ورغم أن هذه التصريحات لم تُترجم إلى إعلان رسمي ببدء التنفيذ، فإن الحديث عنها يُوحي بأنها تعبير عن تصور طويل الأجل لترسيخ واقع مائي منفرد على تدفقات النهر.
وفي حال قررت إثيوبيا الدفع بهذا المشروع الموسّع، فإن المشهد المائي في حوض النيل سيتحوّل جذريًا، إذ لن يكون النزاع محصورًا في كيفية إدارة سد واحد، بل في بنية كاملة من المنشآت المائية تُقام دون تنسيق أو التزام قانوني، وتؤثر بشكل مباشر على الأمن المائي لمصر والسودان.
التحرك المصري في القرن الإفريقي:
فيما بدا للبعض أن تحركات مصر نحو الصومال وإريتريا وجيبوتي تنطوي على محاولة لتشكيل محور ردع مضاد لإثيوبيا، فإن الخطاب الرسمي المصري كان حريصًا على تجنّب الربط بين هذه التحركات وملف سد النهضة. بل قُدّمت تلك التحركات في إطار “دعم الاستقرار والتنمية في القرن الإفريقي”، ما يعكس إدراك القاهرة لحساسية الملف لدى الشركاء الإقليميين ورغبتها في تجنّب التصعيد المباشر.
هذا الخطاب يهدف إلى تحقيق جملة من الأهداف المتداخلة: تثبيت حضور مصري متنامٍ في بيئة جيواستراتيجية معقدة، ودعم وحدة وسيادة الصومال في ضوء رغبة إثيوبية للحصول على منفذ على البحر الأحمر على حساب سيادة الصومال. غير أن هذا النهج، على ما يتسم به من براغماتية واستيعاب لتعقيدات الإقليم، لا يزال في طور التراكم الاستراتيجي، ولم يتحول بعد إلى أدوات تأثير ملموسة تُقيّد هامش الحركة الإثيوبي، الذي يستفيد من توازنات إقليمية معقّدة وانشغال القوى الدولية بأولويات جيوسياسية أخرى.
اهتمام أمريكي؟
قال الرئيس الأميركي مؤخرا أن السد الإثيوبي يمنع تدفق المياه في نهر النيل، كاشفاً للمرة الأولى أن الولايات المتحدة مولت “بغباء” السد. ولم تعلق مصر رسمياً على تلك التصريحات، فيما نفى المدير العام لمكتب تنسيق المشاركة العامة في سد النهضة أريجاوي برهي ادعاءات ترمب حول تمويل السد التي وصفها بـ”المشينة”، وأكد برهي أن السد ممول من الحكومة الإثيوبية وتبرعات الشعب ومساهمات المغتربين وشراء السندات الحكومية.[7]
تصريح ترمب يحمل طابعًا انتخابيًا أكثر منه موقفًا رسميًا مُلزِمًا أو مؤشرًا على تغيير وشيك في السياسة الأميركية، خصوصًا في ظل انشغال إدارة ترمب بملفات أكثر إلحاحًا، مثل أوكرانيا، حرب غزة، الرسوم التجارية.
ومع ذلك، فإن تصريح ترمب حتى ولو كان غير كاف لبناء موقف قوي، إلا أنه يفتح نافذة مهمة لإعادة تفعيل المسار الأميركي في الأزمة، فهو يعكس استعدادًا ضمنيًا لإعادة النظر في الموقف الأميركي من النزاع، ويمكن البناء عليه دبلوماسيًا لجذب اهتمام واشنطن مجددًا نحو الملف، لكن الولايات المتحدة تنظر إلى السد من زاوية الاستقرار الإقليمي، وترى في الوساطة الإفريقية آلية كافية، وهي تفتقر إلى إرادة سياسية لممارسة ضغط مباشر على إثيوبيا، لا سيما في ظل مصالحها الأمنية والعسكرية المتشابكة مع أديس أبابا. وبالتالي، فإن أي تحوّل أميركي مؤثر في الملف قد يتأخر لحين وقوع ضرر مائي جسيم تتعرض له مصر، وما يعنيه ذلك من تهديد مباشر للاستقرار الإقليمي. غير أن هذا الضرر قد لا يكون وشيكًا، إذ إن إثيوبيا قد تتعمّد تشغيلًا مرنًا خلال السنوات الأولى لتجنّب التصعيد، وبشكل عام ستحافظ إثيوبيا على إطالة أمد الأزمة، ويُحوّلها إلى حالة “استنزاف تفاوضي” دون تقدم حقيقي.
ختاما، يؤشر افتتاح السد الإثيوبي، إلى دخول الأزمة مرحلة جديدة تتسم بواقع التشغيل المنفرد، وفي ظل تراجع الالتزام بالإطار القانوني، وغياب آليات دولية ضامنة، فإن الحفاظ على التوازن بين المرونة السياسية والصلابة الاستراتيجية سيكون حجر الأساس في حماية أمن مصر المائي. هذا لا يتطلب فقط أدوات تفاوض، بل إعادة تموضع إقليمي، واستثمار سياسي ذكي، وتحول داخلي يستكمل تحديث المنظومة المائية.
المصادر:
[1] رئيس الوزراء الإثيوبي يعلن “إنجاز العمل” في سد النهضة.. https://linksshortcut.com/mQJTC
[2] ما بعد سد النهضة… جدل التنمية والسياسة.. https://linksshortcut.com/kBMQD
[3] هل خسرت مصر معركة سد النهضة إلى الأبد؟.. https://linksshortcut.com/PtVdb
[4] إثيوبيا توجه “رسالة قوية” لدول الجوار بشأن سد النهضة.. https://linksshortcut.com/rZIlK
[5] Grand Ethiopian Renaissance Dam Reaches New Milestone with Units 7-10 Fully Operational.. https://linksshortcut.com/JIYaQ
[6] Ethiopia’s Grand Renaissance Dam Activates Fifth Turbine, Boosting Power Output.. https://linksshortcut.com/KktPp
[7] كيف تستغل مصر حديث ترمب عن سد النهضة؟.. https://linksshortcut.com/IYDiy