تُعدُ كازاخستان من أكبرِ الدولِ غيرِ الساحليةِ في العالمِ، وهذا ما يجعلُها في حاجةٍ كبيرةٍ للعملِ على نجاحِ علاقاتهِا الثنائيةِ مع جيرانهِا، كما تُمثلُ كازاخستان أهميةً كبيرةً لكلٍ من قارتيِ آسيا وأوروبا لأهميتِها الاقتصاديةِ والجيوسياسيةِ، حيث تتمتعُ بحدودٍ مع دُولٍ هامّةٍ مثل روسيا والصين. كما تُعتَبرُ من الدُولِ القويةِ اقتصاديًا في منطقةِ آسيا الوسطى وأحدِ أهمِّ الدولِ المنتجةِ للغازِ. على جانبٍ آخرَ، تُمثّلُ باكستان سوقًا تجاريًا كبيرًا نتيجةً لعددِ سكّانِها، ويتشاركُ البلدان الحدودَ الجغرافيةَ ويتمتعانِ بثقافةٍ وتاريخٍ مشتركٍ. وعند النظرِ في العَلاقاتِ التاريخيةِ بينهما، نجدُ أن العلاقاتِ بينهما منذ استقلالِ كازاخستان، باعتبارِها آخرَ الجمهورياتِ السوفيتيةِ المستقلةِ، في تطورٍ مستمرٍ. فما هو واقعُ العلاقاتِ الثنائيةِ بينهما؟
لمحةٌ عن تاريخِ العلاقاتِ بين الدولتين
تتمتعُ العلاقاتُ الثنائيةُ بين البلدين بقدرٍ كبيرٍ من الاستقرارِ والاستمراريةِ، على الرغمِ من وجودِ قدرٍ كبيرٍ من التنافسِ الإقليميِ في المنطقةِ، إلا أن التبادلَ والتعاونَ بينهما قائمٌ في مختلفِ المجالاتِ، والتّكَاملَ الاقتصاديَ مستمرٌ بدعمِ الدولتين منذ بدايةِ العلاقاتِ بينهما، وأحدُ أهمِّ العواملِ التي تَدْعمُ استقرارَ العلاقاتِ هو التراثُ والثقافةُ والحدودُ التاريخيةُ المشتركةُ بينهما.
عندما حصلتْ كازاخستان على استقلالهِا في ديسمبر 1991 بعد تَفكّكِ الاتحادِ السوفيتي، كانت باكستان من أولى الدولِ التي اعترفتْ بها، ومن ثمَّ بدأت العلاقاتُ الدبلوماسيةُ بين البلدين في عامِ 1992 واستمرت الزياراتُ بين كبارِ المسؤولين والبرلمانيين حتى يومِنا هذا.
العلاقاتُ الاقتصاديةُ والتجارةُ الثنائيةُ
تُعتبرُ كازاخستان كما هو معروفٌ دولةً غيرَ ساحليةٍ، ولم يكن يَربِطُها بباكستان أيُّ روابطَ بريةٍ أو بحريةٍ أو جويةٍ مباشرةٍ، ولعلَّ هذا دومًا ما كان يمثلُ عائقًا في نقلِ التكاملِ الاقتصاديِ بينهما إلى مرحلةٍ أوثقِ مما هي عليه. لذلك، عَمِلتْ باكستان منذ عام 2020 على تطويرِ المَمرِّ الاقتصاديِ الصينِي الباكستانيِ وغيرهِ من مشاريعِ الربطِ التي من شأنهِا أن تُوفرَ فرصًا أكبرَ للتكاملِ الاقتصاديِ بين باكستان وكازاخستان. كما تحاولُ الموانئُ الباكستانيةُ توفيرَ سبلٍ أكثرَ نفعًا للوصولِ إلى كازاخستان، حتى يعودَ ذلك بالنفعِ على مستوياتِ التبادلِ التجاريِ بينهما.
في الفترةِ الأخيرةِ، تمَّ إنشاءُ مجلسِ أعمالٍ مشتركٍ يضمُ اتحادَ الغرفِ التِجَاريةِ والصناعيةِ الباكستانيةِ وغرفةَ التجارةِ الدوليةِ في كازاخستان، من أجلِ العملِ على تحسينِ العلاقاتِ الثُنائيةِ وعَقْدِ اجتماعاتٍ مستمرةٍ. ووفقًا لإحصاءاتِ عام 2018، بلغَ حجمُ التبادلِ التِجاريِ بين البلدين 28 مليون دولارٍ أمريكيٍ، بزيادةٍ تبلغُ 12% عن حجمِ التبادلِ التِجَاريِ في عامِ 2016. وتُوجدُ طموحاتٌ لزيادةِ حجمِ التبادلِ التجاريِ حتى يصلَ إلى مليارِ دولار. وبالنظرِ إلى حجمِ التبادلِ التجاريِ بين البلدين في عام 2023، نجدُ أنه ازدادَ حتى وصلَ إلى 138 مليون دولار، مما يَعكِسُ مدى الاستمراريةِ والنجاحِ في العلاقاتِ التكامليةِ بينهما. وما زالتْ خارطةُ الطريقِ الاستراتيجيةُ تعملُ على تحقيقِ هدفٍ أساسيٍ، وهو أن يَصِلَ حجمُ التبادلِ التجاريِ إلى مليار دولار، وعلى الرغمِ من أن هذا الرقمَ قد يَستغرِقُ عدةَ سنواتٍ لتحقيقهِ، إلا أنه ليس بمستحيلٍ بالنظرِ الى تطورِ العلاقاتِ بين البلدين في الآونةِ الأخيرةِ.
في يوليو 2023، تمَّ إنشاءُ ممرٍ جويٍ مباشرٍ بين باكستان وكازاخستان، ومن خلالِ هذا الممرِ، بالإضافةِ إلى نقلِ المسافرين، تمَّ نقلُ شِحْنَاتٍ جويةٍ تخطَى وزنُها 5000 كيلوجرام. كذلك، يتمُ العملُ على تطويرِ النقلِ من خلالِ الطريقِ التجاريِ الذي يمرُ عبر أفغانستان إلى باكستان، مما يوضحُ الرغبةَ الحقيقيةَ لتحقيقِ تكاملٍ تجاريٍ واقتصاديٍ لا تُعرقِلهُ أيةُ عوائقَ سياسيةٍ أو دبلوماسيةٍ.
التعاونُ العسكريُ
يُعتبرُ مجالُ التعاونِ العسكريِ من بين المجالاتِ الجديدةِ نسبيًا بين البلدين، حيثُ يتمُ التعاونُ في مجالِ التدريباتِ العسكريةِ حول عملياتِ حفظِ السلامِ والتدريباتِ المشتركةِ في عملياتِ مكافحةِ الإرهابِ، ويزدادُ التعاونُ التكتيكيُ والعملياتي الاستراتيجي بوتيرةٍ منتظمةٍ.
وفي يوليو 2024، اتخذَ البلدان خُطوةّ فارقةً في العلاقاتِ العسكريةِ بينهما من خلالِ نشرِ مشروعِ قرارِ توقيعِ مذكرةٍ مشتركةٍ بين الحكومتين من أجلِ المشاركةِ المشتركةِ للقواتِ المسلحةِ في بعْثاتِ الأممِ المتحدةِ لحفظِ السلامِ لكلا البلدين، حيث ستَخلِقُ هذه المذكرةُ الأساسَ القانونيَ للتعاونِ المشتركِ بينهما، وعلى الرغمِ من أن العلاقاتِ العسكريةَ حديثةٌ نسبيًا، فقد حققتْ نقلةً نوعيةً من خلالِ هذه المذكرةِ، مما يوحي بوجودِ خُطواتٍ أكثرَ إيجابيةً في المستقبلِ القريبِ.
العلاقاتُ الدبلوماسيةُ
تتمتعُ العلاقاتُ الدبلوماسيةُ بين البلدين بأعلى قدرٍ من الديناميكيةِ والتنوعِ، حيث يتشاركان في تفاهماتٍ تشملُ الزياراتِ الرسميةَ المُتبَادلةَ والتعاونَ والتنسيقَ داخلَ المنظماتِ الدوليةِ المختلفة، وعلى رأسهِا الأممُ المتحدةُ ومنظمةُ التعاونِ الإسلاميِ ومنظمةُ شنغهاي ومنظمةُ التعاونِ الاقتصاديِ ومؤتمرُ التفاعلِ وتدابيرُ بناءِ الثقةِ في آسيا، هذا التشاركُ في عددٍ كبيرٍ من المنظماتِ يوفرُ أساسًا للتعاونِ والمساندةِ في مختلفِ الملفاتِ. وقد دعّمَتْ كازاخستان ترشيحَ باكستان لعضويةِ المجلسِ التنفيذيِ لليونسكو، لذا يُوجدُ بين البلدين قدرٌ كبيرٌ من التعاونِ والثقةِ المتبادلةِ القائمةِ على الوئام ِوالاحترامِ.
مجالاتٌ أخرى من التعاونِ
بشكلٍ عامٍ، تُوجدُ بين كازاخستان وباكستان أكثرَ من 36 مذكرةِ تفاهمٍ في مجالاتٍ مختلفةٍ، منها ما يتعلقُ بالطاقةِ والغازِ والاستثمارِ ومجالاتِ التعليمِ والتعاونِ العسكريِ. وقد تمَّ توقيعُ عددٍ من الوثائقِ بشأن التعاونِ التجاريِ والاقتصاديِ والعلمي والتكنولوجيِ والثقافيِ في عام 2022، وتَلتْهَا زيارةٌ لوفدٍ حكوميٍ باكستاني لمناقشةِ التعاونِ في مجالاتِ الطاقةِ والغازِ، وبالأخصِ مناقشةُ إمكانيةِ نقلِ الغازِ عبر أنابيبِ غازِ تركمانستان-أفغانستان-باكستان. والجديرُ بالذكرِ أن باكستان تمثلُ سوقًا تجاريًا واسعًا جدًا بفضلِ عددِ سكانِها الكبيرِ، مما يجعلُها في حاجةٍ لهذا التعاونِ في مجاليِ الطاقةِ والبنيةِ التحتيةِ.
وفيما يتعلقُ بمجالِ التعليم، قد تمَّ تشكيلُ برنامجٍ بين الدولتين لتبادلِ أعضاءِ هيئةِ التدريسِ والتبادلِ الطلابيِ، والذي يُمثلُ دافعًا لتعزيزِ العلاقاتِ بينهما، حيثُ تتمتعُ الدولتان بتراثٍ وثقافةٍ متشابهةٍ ومشتركةٍ، مما يساعدُ على استمرارِ عملياتِ التبادلِ الثقافي.
استنتاج
تؤكدُ العلاقاتُ بين كازاخستان وباكستان على عُمقِ الجذور التاريخيةِ والثقافيةِ المشتركةِ بين البلدين، والتي تُمثلُ حجرَ الأساسِ لبناءِ شَراكةٍ استراتيجيةٍ مَتينةٍ، وعلى الرغمِ من التحدياتِ الجغرافيةِ والسياسيةِ، إلا أن الإرادةَ السياسيةَ القويةَ من كلا الجانبينِ، والتعاونَ المثمرَ في مختلفِ المجالاتِ، قد ساهما في تعزيزِ هذه العلاقاتِ وتوسيعِ آفاقِ التعاونِ الثنائي.
يُشيرُ التوسعُ المُتسارعُ في التبادلِ التجاريِ، وتطويرِ البنيةِ التحتيةِ، وزيادةِ التعاونِ في المجالاتِ العسكريةِ والثقافيةِ، إلى أن العلاقاتِ بين البلدين تَسِيرُ في مسارٍ تَصاعديٍ. كما أن التكاملَ المتزايدَ مع مبادراتٍ إقليميةٍ مثلَ ممرِ الصين وباكستان الاقتصادي يفتحُ آفاقًا جديدةً للتعاونِ الثلاثيِ، مما يُعززُ مكانةَ كازاخستان وباكستان كلاعبين رئيسيين في المنطقةِ.
ومع ذلك، فإن تحقيقَ التكاملِ الاقتصاديِ الكاملِ بين البلدين يتطلبُ مواجهةَ بعضِ التحدياتِ، مثل نَقصِ البِنيةِ التَحتيةِ، واختلافِ الأنظمةِ الاقتصاديةِ، وتأثيرِ التطوراتِ الجيوسياسيةِ في المنطقةِ. لذلك، يجبُ على البلدين الاستمرارُ في بذلِ جهودٍ مشتركةٍ لتعزيزِ التعاونِ في مجالاتِ الطاقة والنقل والزراعة والتكنولوجيا، من أجل تحقيقِ أقصى استفادةٍ من هذه الشراكةِ.
يمكنُ القولُ إن العلاقاتِ بين كازاخستان وباكستان تُشكلُ نموذجًا للشراكةِ الاستراتيجيةِ بين دولتين تتمتعان بتاريخِ وثقافةٍ متشابهين، وتسعيان لتحقيقِ التنميةِ المُستدامةِ والرخاءِ لشعبيهما، ومن المتوقعِ أن تستمرَ هذه العلاقاتُ في التطورِ والازدهارِ في السنواتِ المقبلةِ، مما يساهمُ في تعزيزِ الاستقرارِ والسلامِ في منطقةِ آسيا الوسطى.
