فى تحوُّلٍ إستراتيجيٍّ لافتٍ ومحوريٍّ في مسار الحرب السودانية، واصل الجيش السودانى انتصاراته فى مواجهة ميليشيا الدعم السريع، ففي السابع والعشرين من مارس 2025م، أعلن عن استعادة الجيش السيطرة على عدة مواقع إستراتيجية فى العاصمة الخرطوم، منها مطار الخرطوم والمناطق المحيطة به؛ ما يُشكِّلُ ضربةً قاسمةً جديدةً لقوات الدعم السريع، التي خسرت خلال الأسابيع الأخيرة الجزء الأكبر من مناطق سيطرتها في عاصمة البلاد، وأعقب هذه الانتصارات ظهور تكهُّناتٍ بفرار حميدتي إلى تشاد؛ بما قد يؤدي إلى تصعيدٍ محتملٍ بين الخرطوم وإنجامينا؛ حال اتخاذ الأخيرة بُؤْرةً لضرْبِ العُمْق السوداني.
خريطة سيطرة الجيش السواني على مدينة الخرطوم
قال المتحدث باسم الجيش السودانى “نبيل عبد الله”: إن الجيش تمكَّنَ من استعادة السيطرة على جِسْر المنشية من الناحية الغربية، بالإضافة إلى تطهير منطقة الباقير الواقعة جنوبي الخرطوم، مشيرًا إلى أن الجيش تمكَّنَ أيضًا من السيطرة على معسكر قوات الدعم السريع في منطقة طيبة جنوبي الخرطوم، واستعاد الجيش السيطرة أيضًا على منطقة الباقير جنوب شرقي العاصمة الخرطوم، وتمكَّنَ الجيش السوداني من استعادة السيطرة على المطار الدولي في العاصمة.
وفي يوم 21 مارس الجاري، واصلت قوات الجيش السوداني الضغط على الدعم السريع وسط الخرطوم، وسيطرت على فندق كورينثيا، وإدارة المرافق الإستراتيجية، ومباني رئاسة جهاز المخابرات الوطني، إضافةً إلى استعادة السيطرة على المقرِّ الرئيسيِّ للبنك المركزي ومتحف السودان القومي، وتكبَّدتْ قوات الدعم السريع خسائرَ كبيرةً في الأرواح، خلال محاولتها الانسحاب من بعض المناطق التي تواجدت فيها وسط الخرطوم؛ ما يعكس تصاعُد حِدَّة الصراع في المنطقة[1].
وفي السياق ذاته، كشف مصدٌر عسكريٌّ عن وصول طلائع الجيش إلى مدخل شارع المطار جنوب القيادة العامة، وتأمينه مبانى القيادة من الناحية الجنوبية، عقب إعلانه استرداد مباني رئاسة جهاز المخابرات العامة، ومن المرجح، أن تؤدي المعركة للسيطرة على المنطقة الحكومية والاقتصادية في الخرطوم إلى تعزيز قبضة الجيش على العاصمة؛ ليحقق بذلك مكسبًا كبيرًا في الحرب المستمرة منذ عاميْن تقريبًا.
وقد تقدَّمَ الجيش السوداني باستخدام الطائرات المسيرة والقصف المدفعي، وستكون استعادة الخرطوم انتصارًا كبيرًا للقوات المسلحة السودانية ولحظةً محوريةً في الصراع، وتأتي هذه التطوُّرات في إطار عمليةٍ واسعةٍ للجيش تستهدف إحكام السيطرة على العاصمة التي استولت قوات الدعم السريع على بعض مناطقها في بداية الحرب بين الطرفيْن التي اندلعت في أبريل 2023م[2].
أسباب تحوُّل ميزان القوى لصالح الجيش السوداني
يرجع سِرُّ التحوُّلِ الكبير في موازين القوى وترجيح كفة المعارك لصالح القوات المسلحة السودانية التي تمكَّنت من إلحاق هزائم متتالية بقوات الدعم السريع؛ لأسباب عدة؛ من بينها حصول الجيش على مُسيَّرات وأسلحة من تركيا وإيران وروسيا، إضافةً إلى عودة قائد قوات دِرْع السودان إلى صفوف الجيش بعد تمرُّدِهِ على قوات الدعم السريع، وإسهامه في استعادة الجيش لسيطرته على ولاية الجزيرة، التي كان قد سيطر عليها قائد قوات دِرْع السودان، حين كان في صفوف قوات الدعم السريع، بالإضافة إلى الاعتماد على مبدأ التخطيط الجيِّد الدقيق للعمليات، وتوفُّر الاتصالات المَرِنَة والآمنة، واستخدام مبدأ المفاجأة بتنفيذ عملياتٍ نوْعِيَّةٍ غير متوقعٍ هدفها وأسلوبها، بالإضافة إلى قطْع خطوط الإمداد وتطويق مواقع قوات الدعم السريع، فضلًا عن دعْم السكان المحليِّين للجيش؛ ما عزَّزَ من موقفه على الأرض [3].
والجدير بالذكر، أن قوات الدعم السريع لم تحقق أيَّ انتصار منذُ توالِي انتصارات الجيش السوداني، بدءًا من سبتمبر 2025م، بعد إعلان سيطرته على العديد من المواقع، كولاية سنار وولاية الجزيرة والعاصمة بمدنها الثلاث الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، إضافةً لمواقع في كردفان، وكذلك استماتته في الدفاع عن الفاشر عاصمة إقليم دارفور.ِ
الأهمية الإستراتيجية لسيطرة الجيش على مدينة الخرطوم
تُعدُّ سيطرة الجيش السوداني على مدينة الخرطوم ذات أهمية إستراتيجية كبيرة؛ إذ تعتبر الخرطوم قلْب السودان الجغرافي والسياسي؛ حيث تقع عند التقاء النيل الأبيض والنيل الأزرق؛ ما يجعلها نقطةً محوريةً في شبكة المواصلات والنقل داخل البلاد، بالإضافة إلى ذلك، فهي تُشْرِفُ على طُرُقٍ تجاريةٍ مهمة تربط السودان بالدول المجاورة؛ ما يجعل السيطرة عليها ذات أهمية كبيرة في تأمين حركة التجارة والنقل.
وبالتالي؛ فإن السيطرة عليها تعني السيطرة على الحكومة المركزية؛ ومن خلال الحفاظ على السيطرة على الخرطوم، يُمْكِنُ للجيش السوداني أن يضمن استقرارًا سياسيًّا في المرحلة المقبلة، حتى وإن كان استقرارًا مُؤَقَّتًا، كما أن وجود القوات العسكرية في الخرطوم يتيح للجيش القُدْرة على تحريك وتعزيز قواته بسرعة كبيرة، بالإضافة إلى توفير نقطة انطلاق للعمليات العسكرية في مناطق أخرى من البلاد.
موقف قوات الدعم السريع من سيطرة الجيش على الخرطوم
أعلنت قوات الدعم السريع، أنها تُعيد تموضعها في مدينة أم درمان شمالي الخرطوم، معتبرةً أن الحرب “لم تنته بعد”، وذلك بعد إعلان الجيش سيطرته على مناطق إستراتيجية في العاصمة السودانية، وقال مستشار قائد قوات الدعم السريع الباشا طبيق في تدوينة على منصة ” إكس ” إن “قوات الدعم السريع لم ولن تنهار، ولم يحقق الجيش أيَّ نصْرٍ في الخرطوم”، ووصف بيانات الجيش الخاصَّة باستلام مواقع من قوات الدعم السريع، بأنها مُجرَّد نصْرٍ زائفٍ وتضليلٍ للرأْي العام، وقال: إن “الحرب لم تنته بعد، ولم نخسر لا قوةً ولا عتادًا”.
مستقبل المشهد المقبل في السودان
تعكس الانتصارات المتتالية التي يحققها الجيش السوداني على الدعم السريع تحوُّل ميزان القوى العسكرية لصالح الجيش، فمن المتوقع، توالِي انتصارات القوات المسلحة السودانية، وتمكُّنها من استرداد العديد من المناطق المحورية في السودان، وفي ظل وجود تكهُّناتٍ بهروب قائد قوات الدعم السريع حميدتي لدولة تشاد، فيحتمل أن يتحالف مع القبائل المسلحة في دولة تشاد؛ ليتمكَّنَ من خلالها ضرْب العُمْق السوداني؛ ما يُنْذِرُ بتصعيدٍ خطيرٍ بين إنجامينا والخرطوم سيؤثر بشكلٍ كبيرٍ على الاستقرار الإقليمي، ولكن في حالة تمكُّن الجيش من حسْم الحرب لصالحه في الفترة المقبلة، فهناك احتمالٌ لحدوث تغيُّرات على مستوى هياكل الحُكْم في البلاد، مثل تشكيل حكومةٍ انتقاليةٍ، قد تضُمُّ عسكريِّين ومدنيِّين بشكلٍ محدودٍ؛ ما قد يُنظر إليه كخطوةٍ نحْو الاستقرار، ولكن يبقى هذا الخيار محفوفًا بالمخاطر؛ إذ إن الاحتفاظ بالسلطة العسكرية دون تحقيق إصلاحاتٍ جذريةٍ قد يُعيد البلاد إلى حلْقة مُفْرغة من الاضطرابات، ومع مرور الوقت، سيزداد الضغط الدولي على الجيش للانتقال إلى حكومةٍ مدنيةٍ، وموافقة على إصلاحات دستورية، تعيد بناء الثقة بين الحكومة والشعب؛ ما قد يقابل بمقاومةٍ من بعض الأطراف العسكرية.
ختامًا:
لقد أعقب توالِي الانتصارات التي حقَّقها الجيش السوداني مؤخرًا تراجُع قائد الدعم السريع بشكلٍ ملحوظٍ، وتشير تكهُّناتٌ إلى احتمالية هروبه من أرض المعركة إلى تشاد، ويُلاحظ مدى التخلِّي، وربما تراجُع المدِّ الخارجيِّ له بشكلٍ واضحٍ، ومن خلفه داعموه؛ بما أدَّى إلى هزيمته هزيمةً ساحقةً، إلَّا أن مآلات هذه التطوُّرات على الداخل التشادي تُنذر بتصعيدٍ محتملٍ بين الخرطوم وإنجامينا؛ حال مساندتها له، أو محاولة ضرب العُمْق السوداني من الأراضي التشادية، وعلى أيَّةٍ حال، تُشكل التقدُّمات التي حدثت في السودان بعد ما يقرب من عاميْن من الحرب والدمار بارقة أملٍ نحو تحرير دارفور أيضًا، مثلما حدث مع الخرطوم، بل وتحرير كامل الأراضي السودانية وعودتها إلى الحُضْن السوداني مرَّةً أُخْرى.
أسباب تحوُّل ميزان القوى لصالح الجيش السوداني