إعداد: شيماء عبد الحميد
في تطوُّرٍ إستراتيجيٍّ لافتٍ، قرَّرت إيران نقْل ساحة المواجهة بينها وبين الولايات المتحدة إلى الحدود الأمريكية، وذلك من خلال التواجُد العسكري – للمرة الأولى- في منطقة المحيط الهادئ، وتعزيز وجودها في أمريكا اللاتينية، وفقًا لما أكده قائد البحرية الإيرانية، شهرام إيراني، في ديسمبر 2022، والذي أعلن عن تشكيل 3 قيادات خاصة بالمحيطات؛ وهي «قيادة المحيط الهندي، وقيادة المحيط الهادئ، وقيادة المحيط الأطلسي»، موضحًا أن بلاده سيكون لها حضور عسكري في قناة «بنما»، خلال العام 2023.
ولم تتمهل إيران كثيرًا، وبدأت التحرُّك سريعًا؛ لتحقيق هذا الوجود؛ حيث كشفت تقارير أمريكية في منتصف يناير 2023، أن الأسطول 86 التابع للقوات البحرية الإيرانية، والمُكوَّن من السفينتيْن الحربيتيْن “إيريس مكران” و”إيريس دينا”، بدأ الإبحار على طول السواحل الغربية لأمريكا اللاتينية، ورغم المحاولات الأمريكية لعرقلة مسار السفن الإيرانية، أعلنت سلطات «بنما»، في أوائل فبراير 2023، أنها ستسمح للسفينتيْن بعبور قناتها؛ وذلك استنادًا إلى معاهدة عام 1977 الدولية، التي تسلمت بموجبها «بنما» السيطرة رسميًّا على القناة، وأرست وضعها المحايد، وتنُصُّ المعاهدة على أن “القناة يجب أن تبقى آمنة ومفتوحة للعبور السلمي، مع الأخذ بالاعتبار، التزام السفن بمعايير السلامة، ودفْع الرسوم، وعدم ارتكاب أيّ أعمال عدائية”؛ لذا رأت «بنما» أنها مُلْزَمة بالسماح للسفن الإيرانية لعبور القناة.
فيما فشلت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في الضغط على البرازيل؛ لمنع استضافة السفن الإيرانية في موانيها؛ حيث أعلنت هيئة ميناء «ريو دي جانيرو» البرازيلي، أن نائب رئيس أركان البحرية البرازيلية، كارلوس إدواردو هورتا أرينتز، أعطى موافقته على رسْو السفينتيْن في ميناء «ريو» في الفترة الواقعة بين 26 فبراير وحتى 4 مارس الجاري، وعلى الرغم من دعوة الولايات المتحدة التي وجهتها للبرازيل، من خلال سفيرتها لديها، إليزابيث باغلي، وطالبت بعدم السماح بدخول السفينتيْن الإيرانيتيْن، ورغم التقارير الأمريكية التي نُشرت في أواخر يناير الماضي، وأكدت رُضُوخَ البرازيل لضغوط «واشنطن»؛ لعدم استضافة السفن الإيرانية، استضاف الميناء البرازيلي السفينتيْن بالفعل، خلال الفترة المحددة.
وتكْمُن أهمية الحدث فيما يحمله من دلالات أمنية وإستراتيجية عدة؛ أهمها: إبراز توسُّع النفوذ الإيراني الواضح في دول أمريكا اللاتينية، قوة العلاقات بين «طهران» وهذه الدول، والتي كان لها دوْرٌ كبيرٌ في عدم رُضُوخِ هذه الدول للضغوط الأمريكية، فضْلًا عن أنها سابقة تحْدُث للمرة الأولى في التاريخ العسكري الإيراني، بوجود سُفُنٍ حربيةٍ في هذه المنطقة، واقتراب «طهران» من أقرب نقطة على الإطلاق من الولايات المتحدة، إلى جانب الأهمية الإستراتيجية لقناة «بنما»، التي تُمثِّلُ طريقًا تجاريًّا محوريًّا بالنسبة لـ«واشنطن»، ويُضاف إلى كل ذلك، الدلالة العسكرية الواضحة، التي تتمثل في قدرات السفينتيْن المرسلتيْن؛ حيث إن “إيريس مكران” هي أكبر سفينة حربية إيرانية حاملة للمروحيات، تَسَعُ من 5 إلى 7 هليكوبترات؛ لتقديم الدعم اللوجستي في المعارك ضد السفن الحربية، كما أنها مُزوَّدة بـ«صواريخ كروز المضادة للسفن، وبطوربيدات، ومدافع بحرية، و7 زوارق عالية السرعة، وبطاقم قد يزيد عن 200 بحار»، في حين أن الفرقاطة “إيريس دينا” انضمت إلى البحرية الإيرانية، في يونيو 2021، وهي من طراز “موج كلاسيك”، وتشتمل على أنظمة حرب مضادة للغواصات وأنظمة أسلحة أخرى، قادرة على مواجهة التهديدات السطحية والجوية، وقد تمَّ تصميمها للقيام بمجموعةٍ واسعةٍ من المهام؛ بما في ذلك المراقبة في المياه الإقليمية الوطنية، والإنذار المبكر، والحرب ضد الغواصات، والحرب «سطح – سطح»، و«سطح – جو» والعمليات البرمائية.
كما أن التحرُّك الإيراني له مدلول سياسي مهم؛ يتمثل في أن السفينتيْن المرسلتيْن من جانب إيران، يخضعان لعقوبات أمريكية؛ ما يُمثِّلُ تحديًا إيرانيًّا رسميًّا لسياسة العقوبات، فضْلًا عن أن الحدث يأتي في سياق حالةٍ من التوتُّر الغربي الإيراني، بعد تعثُّر مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، المُبْرَم عام 2015، والذي انسحبت منه «واشنطن» بشكلٍ أُحاديٍّ، وتصعيد سياسة العقوبات إثْر تورُّط إيران في الحرب «الروسية – الأوكرانية» بدعم «موسكو» عسكريًّا بطائرات مسيرة؛ الأمر الذي استدعى فرْض العديد من العقوبات، من جانب الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي على «طهران».
نفوذ إيراني واسع في دول أمريكا اللاتينية
على الرغم من أن إيران وضعت إستراتيجية التحوُّل إلى الشرق، في مقدمة خطط سياستها الخارجية، وحقَّقت العديد من النجاحات في هذه الإستراتيجية، من خلال زيادة مستوى التعاون مع الدول الآسيوية، لكنها لم تغْفل عن الاهتمام بالمناطق الإستراتيجية الأخرى في العالم، وكانت أمريكا اللاتينية إحدى هذه المناطق، التي احتلَّت مكانةً خاصَّةً في سياسات إيران في العقديْن الماضييْن، من خلال تعزيز علاقاتها «الدبلوماسية، والاقتصادية» مع دول أمريكا اللاتينية، وهو ما يمكن إيضاحه على النحو التالي:
أولًا: على المستوى السياسي؛ تمكَّنت إيران لأكثر من عقديْن من توسيع نفوذها في أمريكا اللاتينية، بمساعدة التحوُّل إلى اليسار السياسي في المنطقة، والذي بدأ في التسعينيات من القرن الماضي؛ حيث خلق وصول القوى اليسارية إلى الحكم، لإيران فُرَصًا جديدةً لاختراق المنطقة؛ بهدف تهديد أمن الولايات المتحدة، من خلال تحدي هيمنتها في هذه المنطقة؛ أيْ يمكن القول: إن تقارُب أيديولوجيات اليسار الأمريكي اللاتيني مع الثورية الإسلامية الإيرانية، خدم النفوذ السياسي لـ«طهران» في هذه الدول.
وقد مثَّل وصول اليساري، هوغو تشافيز، إلى رئاسة فنزويلا عام 1999، نقطة تحوُّلٍ كبيرةٍ نحو التعاون والتحالُف بين البلديْن، ومع وصول الرئيس الإيراني، أحمدي نجاد، لسُدَّةِ الحكم عام 2005، تزامنًا مع صعود التيار اليساري في دول أمريكا اللاتينية، أخذت العلاقات في النمو والتنسيق على كافة الأصعدة؛ حيث شارك النظامان «الفنزويلي، والإيراني» في ممارسات دبلوماسية متنامية تجاه «بوليفيا، والإكوادور، والأرجنتين، ونيكاراغوا، وكوبا»، هدفت إلى إعادة تشكيل النفوذ السياسي الإيراني فيها، وقد شهدت الفترة ما بين «2006 – 2013»، ثماني زيارات، قام بها «نجاد» لأمريكا اللاتينية، افتتح فيها 6 سفارات بدول القارة، وفي عام 2009، افتتحت إيران تمثيلًا دبلوماسيًّا في «شيلي، وكولومبيا، وبوليفيا، والإكوادور، ونيكاراجوا، وأوروغواي»، إضافةً إلى السفارات الموجودة في «الأرجنتين، والبرازيل، وكوبا، والمكسيك، وفنزويلا».
ومن أبرز مؤشرات التقارُب السياسي بين «طهران، ودول أمريكا اللاتينية»؛ الزيارات المتبادلة بين الجانبيْن، والتي شهدت رواجًا في الآونة الأخيرة؛ حيث زار الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، إيران في 10 يونيو 2022؛ مُتَرَئِسًا وفدًا رفيع المستوى، يضم كبار المسؤولين الاقتصاديين والسياسيين، ووقَّع الطرفان خلال الزيارة، اتفاقيةً للتعاون الإستراتيجي، مدتها 20 عامًا، من جانبه؛ أجرى وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، جولةً، تضمنت 3 من دول أمريكا اللاتينية، وهي «نيكاراغوا، وفنزويلا، وكوبا»، في مطلع فبراير الماضي؛ بهدف تعزيز العلاقات مع هذه الدول، التي تُعدُّ محوريةً بالنسبة لإيران.
أسفرت هذه الجولة عن التوقيع على مذكرة تفاهُم بين «إيران، ونيكاراغوا»، حول آلية التعاوُن والمشاورات السياسية بين وزارتيْ خارجية البلديْن، وعن حصول إيران على تعهُّدٍ من مسؤولي الدول الثلاث، بالتعاون معها في جميع المجالات، فضْلًا عن التعاون في التعامل مع العقوبات المفروضة من الولايات المتحدة؛ ما اعتبره «اللهيان»، “تضامنًا من البلدان المستقلة في منطقة أمريكا اللاتينية ضد الأُحادية الأمريكية”.
ثانيًا: على المستوى الاقتصادي؛ انعكس التقارُب السياسي على العلاقات الاقتصادية بين «طهران، ودول أمريكا اللاتينية»؛ خاصةً في عهد «محمود أحمدي نجاد»؛ حيث أطلقت «إيران، وفنزويلا» مشروعات عديدة خلال الزيارات الكثيرة المتبادلة بين الدولتيْن، ووقَّعتا على أكثر من 270 اتفاقية؛ لتعزيز العلاقات «الاقتصادية، والسياسية» بينهما، مثل الاتفاق على تسيير رحلات جوية أسبوعية عام 2007، من خلال شراكةٍ بين الخطوط الجوية «الإيرانية، والفنزويلية»، وتأسيس صندوق مشترك، بقيمة ملياري دولار؛ لتمويل الاستثمارات في البلديْن، إضافةً إلى إعلان تأسيس بنك التنمية «الإيراني – الفنزويلي» بقيمة 200 مليون دولار، في 2009، وتوقيع مذكرة تفاهُم لتعزيز العلاقات التجارية بين «إيران، والبرازيل» في قمة مجموعة الـ15 في «كاراكاس» عام 2004، فضلًا عن التوقيع على اتفاقات بين «إيران، ونيكاراجوا» في أكتوبر 2022، بشأن استلام المشتقات النفطية التي تحتاجها الأخيرة.
ونتيجةً لذلك؛ ارتفعت قيمة الصادرات الإيرانية إلى أمريكا اللاتينية، من نحو 18 مليون دولار في عام 1997، إلى 112.3 مليون دولار عام 2006، وقد ظلَّت في ارتفاع متواصلٍ، حتى بلغت عام 2016، نحو 189 مليون دولار بحسب تقارير البنك الدولي، كما سجلت تجارة المنتجات غير النفطية نموًا مهمًا، خلال السنة المالية «2018 – 2019»؛ حيث تجاوزت قيمتها الـ800 مليون دولار، وخلال هذه الفترة كانت البرازيل الشريك التجاري الأكبر لإيران في أمريكا اللاتينية، تلتها «الأرجنتين، والمكسيك»، ثم «كولومبيا، وتشيلي، وفنزويلا».
ويتمركز ملف النفط على رأس التقارُب الاقتصادي بين «طهران» وهذه الدول، خاصةً فنزويلا؛ حيث شهد العام 2020، تعاونًا بين «كاراكاس، وطهران» في هذه الملف، باعتبار أن الدولتيْن تُعتبران سوقًا لبعضهما البعض؛ ففي 14 مايو 2020، أرسلت «طهران» خمس ناقلات نفط، تحمل علمها إلى «كاراكاس»؛ ما يخالف العقوبات الأمريكية المفروضة، في يناير 2019، ضد الشركة الوطنية النفطية لفنزويلا؛ لذلك لوَّحت الإدارة الأمريكية، في أغسطس 2020، بدراسة فرْض عقوبات أوسع على قطاع النفط الفنزويلي، فيما ردَّت إيران في 5 ديسمبر 2020، بإرسال أكبر أسطول مُكوَّن من 10 سفن، مُحمَّلة بالنفط إلى فنزويلا؛ استمرارًا للتحدي الأمريكي.
كما تساعد إيران، فنزويلا على إصلاح مصافي نفطها المتهالكة، وبحسب بعض التقارير، نقلت شركة «ماهان إير» الإيرانية، مواد كيماوية مُحفِّزة إلى مصفاة تكرير البترول الفنزويلية «أمواي»، تعود ملكيتها إلى مجمع «باراغونا» لتكرير البترول؛ الأمر الذي يشير إلى أن هناك مجموعة اتفاقيات تقوم بموجبها إيران بتقديم الدعم الإستراتيجي إلى فنزويلا، في حين وافقت شركة الطاقة البرازيلية «بتروبراس» على تطوير علاقة شراكة مع شركة النفط الإيرانية الوطنية؛ للتنقيب عن النفط في منطقة «توسان» جنوب إيران.
ثالثًا: على المستوى الاستخباراتي والعسكري؛ لعبت إيران دوْرًا استخباراتيًّا سريًّا في هذه الدول، وذلك وفقًا للعديد من التقارير الصادرة عن «الإنتربول الدولي»؛ حيث قامت «طهران» بعدة عمليات من خلال خلايا «حزب الله» المتواجدة في العديد من الدول اللاتينية، وكانت السفارات هي أولى الآليات التي سمحت لإيران بتطوير نفوذها الاستخباراتي في أمريكا اللاتينية؛ فمع تمتُّع الوفود الدبلوماسية وأعضائها، بسلسلةٍ من الحصانات، التي تمنعهم من الخضوع للولاية القضائية للدولة المستقبلة، عادةً ما يكون للوفود الدبلوماسية الإيرانية قسْم تابع لوزارة الاستخبارات والأمن القومي الإيراني، وآخر تابع للحرس الثوري.
وخير دليل على ذلك؛ هو أن العديد من الدبلوماسيين المعتمدين في دول أمريكا اللاتينية، هم أيضًا أعضاء في الحرس الثوري، على غرار «ماجد صالحي»، الذي عُيِّن سفيرًا لـ«طهران» في «نيكاراغوا، والإكوادور»، «جواد حيدري»، الذي عُيِّن سفيرًا لبلاده في «أوروغواي»، أو «عبد الرضا مصري»، الذي كان سفيرًا في «فنزويلا»، ومن خلال الحماية الدبلوماسية الممنوحة لهؤلاء؛ أنشأت إيران هيكلًا سمح لها بتنفيذ عدة عمليات، منها؛ الهجمات ضد السفارة الإسرائيلية في «بوينس آيرس»، عام 1992، وضد «آميا» في 1994، وقد اتُّهم محسن رباني، الذي تم اعتماده في «بوينس آيرس» كمُلْحقٍ ثقافيٍّ، بتدبير الهجوم، بعدما كان حلقة وصلٍ مع وحدة «910»، التابعة لـ«حزب الله»، المسؤولة عن الهجمات خارج لبنان.
وهناك حالات أُخرى، مثل «الكولومبي»، شكري حرب، المعروف باسم «طالبان»، أو «الإكوادوري»، راضي زعيتر، الذي استخدموا أعماله الخاصة كغطاءٍ لغسيل أموال مخدرات «حزب الله»، وكانت الوجهة النهائية لهذه الأموال تمويل أنشطة الحزب العسكرية في الشرق الأوسط؛ حيث إن 40% من ميزانية الحزب قادمة من الخارج؛ وحسب تقرير سري للأجهزة الاستخباراتية الأمريكية، جمع «حزب الله» بفضل شبكات علاقاته في أمريكا اللاتينية، ما بين «600 و700» مليون دولار بين «2014 و2016».
أما عسكريًّا؛ أكدت تقارير استخباراتية عدة، خلال الفترة من «2005 إلى 2020»، أن إيران تنتج صواريخ في فنزويلا، وقد لوَّح الرئيس، نيكولاس مادورو، مسبقًا، إلى هذا الأمر؛ حيث صرحَّ، بأنه يعتبر امتلاك صواريخ إيرانية بعيدة المدى، فكرة جيدة بالنسبة لبلاده، كما وجدت إيران في فنزويلا أرضًا خصبة للتعاون في البرنامج النووي الإيراني؛ حيث ذكر تقرير لمؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي، في ديسمبر 2008، أن هناك تعاونًا خفيًّا بين البلديْن، في مجال تخصيب اليورانيوم، وقدَّر التقرير، أن فنزويلا لديها 50 ألف طن من اليورانيوم، يتم تخصيبه في إيران، فيما كشفت خُلاصات، توصلت إليها لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ الأمريكي، في يناير 2018، عن تنامي وجود «فيلق القدس» في قيادة التحركات الإيرانية، ذات الصلة بالمقذوفات والقدرة النووية في أمريكا اللاتينية، خاصةً في فنزويلا.
رابعًا: على المستوى «الثقافي، والإعلامي»: عمدت إيران إلى مدِّ جسور ثقافية بينها وبين الدول اللاتينية؛ لنقل أفكارها الثورية ومذهبها الشيعي؛ حيث افتتحت ما يقارب من 80 مركزًا ثقافيًّا شيعيًّا في أنحاء الدول اللاتينية، كما أسَّست صحيفة على الإنترنت، تسمى «الطريق الثالث»، ومراكز ثقافية إسلامية في «تشيلي، وبوليفيا، وكوبا، وكولومبيا»، ومحطة إذاعية إسلامية في «بوليفيا».
وتهدف إيران من هذه التحرُّكات إلى:
أولًا: كسْب تأييد الأشخاص المعرضين للخطر أو المستبعدين بشكلٍ مباشرٍ؛ من أجل استخدامهم كسلاحٍ مزعزعٍ للاستقرار ضد الحكومات غير المرتبطة بها.
ثانيًا: إقناع مساعدين بإرسالهم إلى إيران؛ للتلقين، أو حتى تدريبهم لارتكاب هجمات في القارة الأمريكية.
ومن أبرز مراكز الفكر التي تعتمد عليها إيران؛ الندوة العالمية لـ«أهل البيت»، التي تجمع هؤلاء القادة في «طهران» كل أربع سنوات؛ حيث يتم تحديد خطوط النفوذ الرئيسية في أمريكا اللاتينية، مدرسة «أهل البيت»؛ حيث يتم تدريب وتجنيد القادة المحتملين في أمريكا اللاتينية، معهد السلام والذي يُعدُّ الذراع الجامعية لإيران في أمريكا اللاتينية، وهو مرتبط بجامعة الأديان والمذاهب، ومقرها «قُم» في إيران، معهد الفكر الثقافي الشرقي بالأرجنتين والذي ينظّم نشاطات دعاية مكثفة، بما في ذلك إرسال رجال دين إيرانيين شباب إلى دول أمريكا الجنوبية؛ لنشر الإسلام الشيعي، فضْلًا عن اعتماد قنوات اتصال مختلفة، مثل «وكالة أنباء ’أهل البيت’، و’إسبان تي في’»، أو قناة «بيت الله»، التي تسعى إلى نشْر رسالة إيران في أمريكا اللاتينية.
أهداف التمدد الإيراني
تمدُّد نفوذ إيران في هذا الجزء من العالم، يخدم مصالح عدة لـ«طهران»، خاصةً في ظلِّ العُزْلة التي يحاول الغرب فرْضها عليها، ومن هذه المصالح:
– مواجهة العقوبات والعُزْلة الغربية المفروضة عليها؛ التي ربما تتحول إلى عقوبات دولية إذا نُقل الملف الإيراني برُمَّته إلى مجلس الأمن الدولي، ومن ثمَّ عودة آلية «سناب باك» إلى العمل من جديد، وحينها ستُعوِّل إيران على علاقاتها بكُلٍّ من «روسيا، والصين، ودول أمريكا اللاتينية»، خاصةً فنزويلا.
– تنويع حلفائها الإستراتيجيين؛ حيث تخشى «طهران» تَبِعات الحرب «الروسية – الأوكرانية»، خاصةً استنزاف الحليف الروسي على نحْوٍ سوف يؤدي في النهاية إلى إضعاف موقع «موسكو» في مواجهة الولايات المتحدة؛ الأمر الذي من شأنه التأثير سلبًا على حسابات إيران؛ لهذا تعمل على إيجاد حلفاء جُدُد، وتعزيز علاقاتها الإستراتيجية، سواء مع الصين أو الدول اللاتينية.
– اختبار قدرات البحرية الإيرانية على مسافاتٍ بعيدةٍ من الشواطئ الإيرانية؛ حيث ترغب إيران في الظهور أمام العالم، خاصةً «الولايات المتحدة، وإسرائيل»، أنها لا تخشى العقوبات المفروضة عليها، وأن لديها أذْرُعًا بحريةً طويلة المدى، ولديها القدرة على وضْع أجهزتها العسكرية على مرمى حجر من الأراضي الأمريكية.
– منافسة الولايات المتحدة في مناطق نفوذها؛ يعكس تحرُّك إيران نحو قناة «بنما»، المقدرة والتخطيط الإيراني للوجود في بقية المحيطات والممرات العالمية الإستراتيجية، وتوفّر الكفاءة العلمية والتكنولوجية؛ لتوفير متطلبات هذه العملية، وبالتالي، إرسال رسالة مفادها، أنه ليست الولايات المتحدة وحدها هي التي تمتلك القدرة على العمل ضد إيران، ولكن أيضًا «طهران» قادرة على مناكفة ومواجهة «واشنطن» في مياهٍ تعتبر منطقة نفوذ للولايات المتحدة.
– إبعاد «واشنطن» عن مناطق النفوذ الإيراني؛ فأمريكا اللاتينية حاسمة بالنسبة لأمن الولايات المتحدة وتأثيرها الدولي، ولهذا السبب، وجدت إيران في القارة الأمريكية نقطة ضعف مميتة لـ«واشنطن»؛ لذلك تحاول «طهران» زعزعة الاستقرار في هذه المنطقة؛ ما سيدفع الولايات المتحدة إلى تحويل تركيزها لمناطق نفوذها، وبالتالي، تقليل وجودها في مناطق النفوذ الإيراني بمنطقة الشرق الأوسط.
– إنشاء تكتُّل سياسي مناهض للولايات المتحدة؛ استغلالًا للنبرة المعادية لسياسات «واشنطن»، خاصةً مع انتشار التيار اليساري في دول القارة، خصوصًا بـ«البرازيل، وفنزويلا، وكوبا»، فرفْض الضغوط الأمريكية واستعداد دول أمريكا اللاتينية؛ لاستقبال السفينتيْن الإيرانيتيْن، وإعلان استعدادهم للتعاون مع «طهران»، أكبر دليل على تآكل هيمنة الولايات المتحدة في هذه المنطقة.
– استغلال موارد أمريكا اللاتينية الطبيعية؛ فهي قارة غنية بالمعادن، خاصةً العناصر الضرورية لإنتاج الأسلحة النووية، وبالتحديد «اليورانيوم»، و«الليثيوم» الذي يدخل في إنتاج الصواريخ؛ حيث إن 65٪ من احتياطي «الليثيوم» في العالم، و42٪ من احتياطي الفضة، و38٪ من احتياطي النحاس، و21٪ من احتياطي الحديد في العالم، موجود في الدول اللاتينية، كما تشير الإحصاءات إلى أن 25٪ من الغابات والأراضي الصالحة للزراعة، تقع في هذه المنطقة من العالم، ويمثل وجود 30 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة للمنتجات الزراعية في فنزويلا، فرصةً جيِّدةً لإيران التي تحتاج إلى هذه المنتجات.
الموقف الأمريكي من التحرُّك الإيراني
أثار تحرُّك السفن الإيرانية نحو قناة «بنما» قلق وغضب الولايات المتحدة، وبدا الانزعاج الأمريكي جليًّا، من خلال التصريحات الأمريكية، التي سارعت بها «واشنطن» عقْب الحديث عن احتمالية وصول سفن حربية إيرانية في مياه المحيط الهادئ، في 13 يناير الماضي؛ حيث أعرب عددٌ من القادة الأمريكيين عن الغضب من الخطوة الإيرانية؛ إذ أكد نائب المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، فيدانت باتيل، أن بلاده تراقب الوضع في أمريكا اللاتينية بدقة، وأن «واشنطن» لديها الأدوات لمحاسبة إيران، ومنها عبْر العقوبات.
من جانبه؛ عبر حاكم «فلوريدا» السابق، جيب بوش، وهو شقيق الرئيس الأمريكي الأسبق، جورج دبليو بوش، في مقالٍ نشره في 16 يناير 2023، عن قلقه من الخطوة الإيرانية، متهمًا «بنما» بمساعدة «طهران» على الالتفاف على العقوبات الأمريكية والغربية المفروضة عليها، مُشدِّدًا على أنه من دون دعْم «بنما»، فإن النظام الإسلامي في إيران سيواجه عقبات كبيرة في تسويق نفطه وغازه في العالم.
ولم تكتفِ «واشنطن» بالتصريحات فقط، بل تحرَّكت سريعًا؛ حيث في 16 يناير الماضي، أرسل سلاح الجو الأمريكي طائرة «بوينج دبليوسي-135 كونستانت فينيكس» إلى أمريكا الجنوبية، في مهمةٍ غير مسبوقة، وهي جمْع قراءات أساسية للأحوال العادية للغلاف الجوي في أمريكا الجنوبية؛ للكشف عن أيِّ نشاطٍ نوويٍّ، وقد تحرَّكت الطائرة من «بورتريكو»، وجمعت بياناتٍ عن الغلاف الجوي، قُبَالة سواحل فنزويلا، و«سورينام»، و«جويانا» الفرنسية، وجزء من البرازيل، كما عبرت منطقة من الشمال إلى منطقة «ريو دي جانيرو»، التي استضافت السفينتيْن الإيرانيتيْن.
وبعد أيامٍ، تمَّ القيام برحلة جوية ثانية، فقد أعادت الطائرة مسارها حول أمريكا الجنوبية، في الاتجاه المعاكس؛ حيث قامت بجمع بيانات من فوْق منطقة «الكاريبي»، والساحل الشمالي لفنزويلا، وفوْق مياه كولومبيا، والأكوادور وبيرو، وكذلك حلقت فوق قناة «بنما»، وهي الوِجْهة الإستراتيجية المفترضة للسفينتيْن الإيرانيتيْن.
وقد هدفت الولايات المتحدة من هذا المسْح الإشعاعي فوق أمريكا الجنوبية، تحذير إيران إذا ما كان لديها أيَّ خطط لاستغلال أمريكا الجنوبية؛ لإجراء اختبارٍ نوويٍّ، وإذا ما كانت السفينتان تحملان مواد أو أسلحة إشعاعية؛ لإجراء تجارب فوق البحر؛ حيث حينئذٍ سوف تستطيع الولايات المتحدة التعرف على الاختلافات في الغلاف الجوي، من خلال مسْحها السابق على وصولهما إلى البرازيل.
وهذا ليس التحرُّك الأمريكي الأول تجاه التوسُّع الإيراني في أمريكا اللاتينية؛ حيث سبق للولايات المتحدة أن لجأت إلى التهديد بضرْب السفن التي وصلت لفنزويلا، في 2020، ولكن تهديد «واشنطن» للرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، آنذاك، كانت له نتائج عكسية على الولايات المتحدة؛ فردود الفعل على تهديد «ترامب» فنزويلا بالخيار العسكري؛ عكست وِحْدةً بين زعماء أمريكا اللاتينية، من خلال مطالبة الولايات المتحدة، بعدم التدخُّل في شؤون المنطقة الداخلية؛ لهذا تفيد التحقيقات، بأن الولايات المتحدة لا تملك الجرْأة على مهاجمة إيران، خصوصًا في أمريكا اللاتينية؛ نظرًا إلى ما تُمثِّلُه هذه المنطقة من تهديدٍ حقيقيٍّ لأمن «واشنطن».
إجمالًا:
سواء كان مُجرَّد استفزازٍ لـ«واشنطن»، أو محاولة سرية لنقل مواد نووية إلى هذه المنطقة، فإن تحرُّك إيران نحو خلْق وجودٍ عسكريٍّ دائمٍ لها في مياه المحيط الهادئ، يُمثِّل حدثًا إستراتيجيًّا مهمًا، إذا تحقَّق بالفعل؛ لأنه يظهر أن مشكلة «واشنطن» لم تعُدْ محصورةً في حكومات معظم دول أمريكا اللاتينية المواجِهة لسياستها، بل في قدرة تلك الحكومات على إنشاء مسارٍ من التعاون، مع دول مثل إيران؛ بسبب ما تُشكِّلُه الأخيرة من تهديدٍ للنفوذ الأمريكي، والذي بات يخرج من دائرة المواجهة في غربي آسيا إلى ما هو أوسع.