إعداد: جميلة حسين
شهدت العاصمة الروسية أمس أسوأ هجوم إرهابى منذ سنوات حين اقتحم مسلحون قاعة احتفالات بإحدى المراكز التجارية فى مدينة “كراسنوجورسك” شمال غرب موسكو، وأطلقوا النار على الزوار، واندلعت النيران بأرجاء القاعة، وأسفر ذلك عن مقتل وإصابة العديد من الأشخاص المدنيين، وقد نددت به وزارة الخارجية الروسية ووصفته بأنه “اعتداء إرهابى دامِ”، مما أثار نوعًا من القلق لدى أجهزة الأمن الروسى وتدابيرها حول تأمين الأوضاع الأمنية فى روسيا لاسيما فى العاصمة موسكو بالتزامن مع فوز الرئيس (بوتين) بالانتخابات الرئاسية، وعليه ما التفاصيل وراء هذا الهجوم ودلالاته؟ ومن يقف وراءه؟ وما الإجراءات الروسية المستقبلية جراء هذا الهجوم؟
هجوم هائل
فى حين تجمع الأفراد لحضور حفلة موسيقية لفرقة (بيكنيك/ Picnic) الموسيقية الروسية الشهيرة فى قاعة الحفلات الموسيقية التى تتسع لأكثر من ستة آلاف شخص فى إحدى المراكز التجارية المعروف بـ”كروكوس سيتى هول”، هاجم مسلحون – لم يتم التأكد من عددهم الفعلى حتى الآن يرتدون ملابس مموهة- القاعة وأطلقوا النار باستخدام أسلحة آلية على الحشد المتواجد، كما ألقوا قنبلة يدوية مما أدى إلى نشوب حريق فى المبنى، ووفقا لجهاز الأمن الفيدرالى الروسى فإن ذلك الهجوم أسفر حتى الآن عن سقوط حوالى 62 شخصًا وإصابة 145 آخرين، وخلال السيطرة على الحريق حاولت طائرات الهليكوبتر إخماد النيران وإجلاء حوالى 100 شخص من الطابق السفلى، فى حين انهار سقف المبنى كما صرحت وكالة الإعلام الروسية، وعليه أجرت أعلى وكالة تحقيق روسية تحقيقًا فى إطلاق النار والانفجارات والحريق باعتباره هجومًا إرهابيًا، بينما فتحت اللجنة المكلفة بالتحقيقات الجنائية الكبرى فى البلاد تحقيقًا جنائيًا فى العمل الإرهابى.
من يقف وراء الهجوم الإرهابى؟
بينما تدور التساؤلات حول المسؤول عن هذا العمل الإرهابى، ولإبعاد الاتهامات عنها نفت أوكرانيا عبر تصريح مستشار الرئاسة (ميخايلو بودولياك) أى علاقة لها بالهجوم، بل واتهمت الاستخبارات العسكرية الأوكرانية الأجهزة الخاصة الروسية بالتخطيط للهجوم من أجل تصعيد بوتين للحرب (الروسية – الأوكرانية)، كما أعلن أيضًا “فيلق حرية روسيا” المكون من مقاتلين روس يحاربون إلى جانب أوكرانيا عن أن “الفيلق” ليس فى حالة حرب مع الروس، واتهم قوات الأمن الروسية بالتخطيط للهجوم.
فى ظل تلك الاتهامات أعلن تنظيم داعش (ولاية خرسان) مسؤوليته الكاملة عن الهجوم المسلح الذى استهدف قاعة الحفلات فى العاصمة، وذلك من خلال بيان نشرته وكالة “أعماق” الإلكترونية التابعة للتنظيم عبر تطبيق تليجرام، واحتوى النص على إعلان موجز للعملية التى أسماها التنظيم بالعملية المباركة “أن مقاتليه هاجموا تجمعًا كبيرًا فى مدينة”كراسنوجورسك” ضواحى العاصمة الروسية موسكو، وقتلوا وأصابوا المئات وألحقوا دمارًا كبيرًا بالمكان قبل أن ينسحبوا إلى قواعدهم بسلام من مكان الهجوم”.
أبرز دلالات الهجوم
رد إرهابى مضاد على التطويق الروسى:
فى مطلع الشهر الحالى، أحبطت السلطات الأمنية الروسية هجومًا مسلحًا على أحد المعابد اليهودية فى مقاطعة “كالوغا” جنوب غرب العاصمة الروسية من جانب عناصر إرهابية تابعين لتنظيم داعش “ولاية خرسان”، ومن المفترض أن تلك العناصر كانت تخطط لإطلاق النيران على مصلين يهود، وأثناء تحييد هؤلاء واعتقالهم أبدى بعضهم مقاومة مسلحة من جانب جهاز الأمن الفيدرالى الروسى الأمر الذى أسفر عن قتل عناصر منهم.
تقويض الاستقرار الداخلى بعد الانتخابات الرئاسية:
جاء هذا الحادث الإرهابى بعد عدة أيام من فوز الرئيس (فلاديمير بوتين) بولاية رئاسية خامسة مدتها ست سنوات، يخوض فيها بوتين العديد من التحديات فى الداخل والخارج لاسيما فى ظل استمرارية الحرب مع أوكرانيا، ومعضلة الانتخابات التى انتقدها الغرب ورأى أنها تعرضت لحملة قمع بالغة لأى أصوات مبالغة ولم تشهد أى تنافس جديًا فى ضوء وجود 3 مرشحين للرئاسة غير بارزين لم يقدم أى منهم برنامجًا رئاسيًا معارضًا، فى حين أكد بوتين أنه نتائج الانتخابات تعكس رغبة الشغب الروسى وأن روسيا تعززت بانتصار وأن تسمح بأن يرهبها أحد.
الدفع بالتنظيم الإرهابى من الخارج:
قد تحاول بعض الأطراف المعادية للجانب الروسى وتوجهاته الدفع بتنظيم داعش الإرهابى وتمويله ومن أجل تحقيق أهدافها بصورة غير مباشرة بمعنى آخر التعامل بطريقة “الراعى والوكيل” للتنصل من المسؤولية الدولية والاتهامات التى قد توجه لها مباشرة، فنجد مثلا أن أوكرانيا سرعان ما علقت على الهجوم قبل أن تشار أصابع الاتهام إليها بل واتهمت الأجهزة الروسية بافتعال هذا الحادث لتصعيد أزمتها وحربها معها وصرحت نصًا( هذه الأحداث تحمل علامات الإرهاب الذى تمارسه قيادة الدولة العدوانية روسيا ضد شعبها مؤكدا أن أوكرانيا، عكس الاتحاد الروسى، لم تستخدم أبدا أساليب الحرب الإرهابية، أو الإرهاب فى حد ذاته)، ويتم هذا الأمر بمساعدة عدة أطراف دولية بطريقة معقدة بعض الشيء، وتبرر التحالف مع الجماعات الجهادية فى سبيل حماية مصالحها وأمنها لمواجهة عدوها الرئيسى.
تنبؤات مسبقة
والجدير بالذكر، أن هذا الهجوم لم يكن مفاجئًا بل أطلقت سفارة الولايات المتحدة فى موسكو قبل أسبوعين فى السابع من الشهر الجارى تحذيرًا للسلطات الروسية بأنها على علم بمخطط إرهابى يلمح إلى نفس طبيعة الهجوم الذى اجتاح موسكو أمس، حيث قالت السفارة الأمريكية “تراقب السفارة تقارير تفيد بأن متطرفين يخططون لمهاجمة تجمعات كبيرة فى موسكو، بما فى ذلك الحفلات الموسيقية ويجب على المواطنين الأمريكيين تجنب التجمعات الكبيرة خلال الـ 48 ساعة القادمة”، وأطلقت السفارة البريطانية تحذيرات مشابهة لمواطنيها مما يشير إلى أن أجهزة المخابرات لديها معلومات عن عمليات إرهابية محتملة فى المستقبل القريب.
ولكن التعامل الروسى مع تلك التحذيرات لم يكن جادًا بما فيه الكفاية، كما أشار الرئيس بوتين إليها أنها تحذيرات استفزازية، وفى خطاب ألقاه الأسبوع المنصرم أمام جهاز الأمن الفيدرالى صرح قائلًا “كل هذه التصرفات تشبه الابتزاز الصريح ونية تخويف مجتمعنا وزعزعة استقراره، أنتم على علم بها جيدًا، لذا لن أخوض فى التفاصيل فى هذه المرحلة”، ولكن بعد الحادث أمس أعلنت وزارة الخارجية الروسية، فى بيان، أنه إذا كان لدى واشنطن بيانات موثوقة بشأن الهجوم الإرهابى فى “كروكوس” فيجب نقلها على الفور.
تنديدات دولية وإقليمية
بعد وقوع الحادث وأضرمت النيران فى المبنى وأصبح الوضع كارثيًا قامت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية (ماريا زاخاروفا) بدعوة المجتمع الدولى إلى إدانة الحادث الذى وصفته بأنه “جريمة وحشية”، الذى لاقى إدانات أممية للهجوم الإرهابى بأشد العبارات من جانب الأمين العام للأمم المتحدة (أنطونيو جوتيرش)، وكذلك من جانب مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذى وصف لهجوم بأنه شنيع وجبان.
وبالانتقال إلى الإدانات الدولية قدم “البيت الأبيض” تعازيه، وكذلك “الاتحاد الأوروبى” الذى أعرب عن الصدمة والفزع بعد هذا الهجوم وأدان جميع الهجمات على المدنيين، كما عبرت “ألمانيا” على تعازيها وأكدت على ضرورة الوقوف على تفاصيل الحادث بأسرع وقت، أما “فرنسا” أدانت الهجوم ووصفته بالشنيع، ووصفته كذلك (جورجيا ميلوني) رئيسة الوزراء “الإيطالية” التى أدانت العمل الإرهابى وعبرت قائلة ” فظاعة المذبحة التى تعرض لها مدنيون أبرياء فى موسكو غير مقبولة “.
أما بالنسبة للإدانات للإقليمية والعربية أعلنت “تركيا” تعازيها للشعب الروسى على لسان نائب الرئيس التركى (جودت يلماز) مصرحا “لقد تحدثنا عن الإرهاب وهذه مصيبة للعالم بأسره”، فى حين قدمت دول عربية تعازيها فى مقدمتها “مصر” التى “أعربت حكومة وشعًبا، عن خالص تعازيها وصادق مواساتها لحكومة وشعب روسيا الصديقين فى هذا المصاب الأليم ولأسر الضحايا، متمنية سرعة الشفاء لكل المصابين”، كما أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا يؤكد إدانتها الشديدة ورفضها التام لكل أشكال العنف والإرهاب، معربة عن تضامنها الكامل مع روسيا، ناهيك عن السعودية التى إدانت وزارة خارجيتها بالهجوم الإرهابى المسلح وتضامنت مع الشعب الروسى فى هذا الحاث الأليم، وكذلك قطر التى استنكرت بالحادث وأكدت موقفها الثابت من رفض العنف والإرهاب.
إجراءات روسية مشددة
على إثر الهجوم المسلح، اتخذت روسيا بعض الإجراءات المؤقتة فقد شددت الإجراءات الأمنية فى المطارات ومحطات القطارات، كما أعلنت هيئة السكك الحديدية الروسية وفى الأماكن العامة المزدحمة أرجاءالعاصمة موسكو، وتم وضع ضباط أمن الموصلات والنقل فى حالة تأهب قصوى. كما أعلن رئيس بلدية موسكو (سيرغى سوبيانين) إلغاء جميع الفعاليات العامة والتجمعات الحاشدة ، إلى جانب إعلان إغلاق المتاحف والمسارح الرئيسية فى العاصمة مؤقتًا فى مطلع الأسبوع المقبل.
وعلى صعيد أخر قام الرئيس الروسى (فلاديمير بوتين) بإجراء محادثات مع مسؤولى إنفاذ القانون والإنقاذ تلقى تقارير من رئيس أجهزة الأمن، ولجنة التحقيق، والحرس الوطنى، ومن وزراء الداخلية والصحة وحالات الطوارئ، لمتابعة الأوضاع عن كثب والإجراءات التى يتم اتخاذها من جانب الأجهزة المعنية. بالإضافة إلى أن وزارة الخارجية الروسية صعدت الأمر وأعلنت أن موسكو ستدعو مجلس الأمن الدولى لعقد اجتماع فى القريب العاجل لإدانة الهجوم المسلح على موسكو.
وختامًا:
على الرغم من أن روسيا شهدت العديد من الهجمات الإرهابية لاسيما التى شنتها جماعات جهادية متطرفة، إلا أن ذلك الهجوم يحمل معه تداعيات عنيفة لاسيما تزامنه فى وقت يتولى فيه بوتين ولاية رئاسية جديدة كانت محفوفة بالانتقادات، بجانب استمرار صراعه مع أوكرانيا التى أعلن الكرملين أمس أنها فى “حالة حرب” معها بعدما كان يستخدم عبارة “عملية عسكرية خاصة” للإشارة إلى القتال الذى اندلع منذ أكثر من عامين، وعليه يقع على عاتق السلطات الروسية الرد بالقوة وإثبات أن الأراضى الروسية آمنة، واتخاذ التدبيرات المشددة وإجراءات الطوارئ للحول دون السماح بإعادة مثل هذا الهجوم السافر مرة أخرى.